الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لغة الليل بين التوحيدي وشهرزاد

كمال التاغوتي

2019 / 8 / 19
الادب والفن


في كتاب المفاخرات والمناظرات يرد نص بعنوان "نضرة البهار في محاورة الليل والنهار" (المفاخرات والمحاورات ص. 121 وما بعدها)، وهو محاورة متخيلة بين الثقلين يفخر في فِقره كل زمن بفضائله محقرا من صاحبه مبرزا عيوبه ومخازيه. والطريف في النص أن كاتبه قد حاول الإحاطة بمزايا النهار ومزايا الليل، ليشكل وجها لليل مغايرا للمألوف بعيدا عن اختزاله فيما يوفره من راحة من جهة ويثيره من مخاوف من جهة أخرى 1؛ فإذا به فضاء تتعدد فيه الأنشطة منها الدينية كالتهجد والدنيوية كالسمر واللهو والمعرفية كالتنجيم وعلم الفلك والإنشاء الفني. إنها صورة لليل تنأى به عن صرخة امرئ القيس وسأمه، وعن شعراء جعلوا منه مستودع الأحزان؛ ففي الليل – حسب كاتب المحاورة – يتذوق أرباب المجاهدة والنساك حلاوة الخلوة، وفيه وقائع مفارقة تثبت انفتاح السماء على الأرض كالإسراء والمعراج وتنزيل القرآن ورجم الشياطين. والليل أيضا ستار يحتمي به العشاق وتقام خلفه مجالس الخمرة والطرب، لكنه من جهة أخرى يمنح الملهمين سانحة لتوليد الأفكار والمعاني الأبكار. هكذا يبدو الليل متعددا، على خلاف النهار ذي المركز الواحد، يجمع بين حدين متعارضين: أما الأول فهو الحميمية، لأنه زمن يتحرر فيه المرء من رقابة صمّاء فيمثل أمام ذاته مجردا من أقنعة يفرضها عليه الضوء، فيضطر عندها إلى المسايرة والخضوع للمعايير المشتركة والنمط السائد على مضض؛ ولعل ذلك ما يجعل الليل إيروسيا ينغمس خلاله الكائن البشري في جسده ساعة تكف العين عن الإبصار لتفسح المجال للحواس الأخرى فتتراسل. إنه فضاء العري الجميل، فيه ينفلت الجسد بخطابه الخاص – سواء أكان ذلك في اليقظة أم النوم – ويتدفق ألوانا تتعذر رؤيتها في عتمة الأضواء. إن الكائن البشري الليلي يقيم في ذاك البرزخ الواصل بين الحلم والواقع، برزخ قوامه الخيال وطاقته الرهيبة على جذب القوى الحيوية. ولعل ذلك ما يجعل الليل نافذة للسمو والتعالي؛ فبفضل ظلمته الحالكة نكتشف الآخر ونرحل في خلاياه ليستوي عمقه سطحا مضاء تماما بالحواس واللغة، لأن اللغة الليلية مغرقة في الحسية. إذ تشرع الذاكرة في تصفية الصور النهارية العابرة وتعيد ترتيبها وتنضيدها، ويتصدى الخيال لغسلها وصقلها ليتحول الكائن البشري إلى مرآة كاشفة. هكذا تهدم ظلمة الليل الحدود الوهمية بين السماوي والأرضي، وتضحي السماء مفتوحة تماما لكل من يقدر على الإبحار فيها ورسم خارطة لها هي ذاتها خارطة خطانا على الأرض. فالكواكب والنجوم والأجرام – بعد أن حجبتها شمس النهار القاسية – تبوح لمن يفهمها بأسرارها، والليل خير حافظ لها. قد يكون ما سبق ذكره تعليلا لاختيار أبي حيان التوحيدي الليل حيزا يجمعه بالوزير ابن العارض أبي عبد الله الحسن بن سعدان، فإلى جانب أن الليل عند العرب هو بداية اليوم وفق التقويم القمري، فإن رخاوته تدعو إلى الاسترخاء والمباشرة وبث ما في الضمير من شواغل يعسر الجهر بها علنا في وضح النهار. وليس اعتذار التوحيدي عن نقل المشافهة إلى المكتوب نقلا أمينا إلا إشارة إلى خصوصية الحديث الليلي وتعذُّر المحافظة على سيلانه؛ لا لأنه شفوي فحسب، وإنما لكونه ليلي النشأة، أي أنه عفوي لا كابح له. يقول: أيّها الشيخ- وفّقك الله في جميع أحوالك، وكان لك في كلّ مقالك وفعالك- إنما نثرت بالقلم ما لاق به، فأمّا الحديث الّذي كان يجري بيني وبين الوزير فكان على قدر الحال والوقت والواجب، والاتّساع يتبع القلم ما لا يتبع اللّسان، والرّويّة تتبع الخطّ ما لا تتبع العبارة، ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك، وألقيه إليك، أن يبقى الحديث بعدي وبعدك، لم أجد بدّا من تنميق يزدان به الحديث، وإصلاح يحسن معه المغزى، وتكلّف يبلغ بالمراد الغاية، فليقم العذر عندك على هذا الوصف، حتى يزول العتب، ويُستحقّ الحمد والشّكر. (الإمتاع، ج3 ص.162)
في أثناء الليل ينصرف التوحيدي كليا إلى محاوره، فتنمحي الحدود الفاصلة بينهما ويذهل عن غيره من "المتلقين" لنصه. هذا المتلقي الدخيل لا يظهر إلا نهارا ومعه يسلط قارئ "نموذجي" رقابته على الكاتب وهو يكافح من أجل نقل ذاك الحديث الليلي الطري؛ فيدرك أن هذا أمر محال، لأن الذهن منشغل برواج النص وبقائه بعده. وعلى هذا السمت يضطر الكاتب إلى التنميق والإصلاح والتكلف، أي ينشغل بتزيين المعارض من أجل الظهور في أبهى حلة؛ فهو إذاك يلبس نصه "الأصلي قناعا بلاغيا يضمن له الخروج في رابعة النهار. إن اللغة في أحواض الليل تتدفق وتحفر مجاريها وتتشعب دون شواطئ تحجزها؛ ونظرا لما تتسم به من سيولة كان اللسان – أعني المشافهة – أفضل وسائلها حسب التوحيدي. إن اللغة ساعة تنشط في الليل تكشف عن جوهرها الأنثوي إذ تعمل على تفعيل الجسد وابتلاعه. ذاك ما يدفع بالتوحيدي إلى الاعتراف بالعجز عن النقل الأمين والآمن؛ فتورطه في مدار الليل قضى بانغماسه في أنوثة اللغة، وهي رغم ما تبديه من صفاء ونقاء في الليل تلوح معتمة في النهار. إنها لمفارقة يقف عليها التوحيدي ولا يجد لها مخرجا سوى التفكير في الموت. "أن يبقى الحديث بعدي وبعدك". إن الكتابة تحت الشمس - وفق ما سطره التوحيدي – تذكره بفنائه، إنها موت؛ في حين يكون الليل زمن الانبعاث 2 والانفتاح على عالم الخالدين. والنهار ليس سوى نسخة مشوهة من الليل، ففي هذا ينشئ المؤلف الأحداث باللغة، أما في ذاك فيحاول إعادة إنتاجها عبثا. يبتني على ما تقدم أن الليل فضاء يعانق فيها الكاتب الأصل، فالإنشاء فيه جذري. ذاك ما تطرحه حكايات ألف ليلة وليلة؛ فشهرزاد تلقي بحبائل السرد ليلا وتكف عن ذلك نهارا. وفي سواد الدجى يشع الحكي ويتمدد إلى ما لانهاية، ليبتلع شهريار وشهوة الانتقام من المرأة. تشهر الأنثى اللغة جاعلة إياها بديلا عن جسدها أو – في أفضل الأحوال – تجعل جسدها ملحقا باللغة لتلطف من حدة الملك وغلوائه وتغريه بإعادة صياغة العالم. وما استسلام شهريار وإسقاطه النهار من حسابه (أقصد قرار القتل) إلا دليل على غرقه في مياه السرد العميقة وتورطه في اللغة-الأنوثة. ذلك أن الشخصيات الخيالية المقيمة في الكلام تنفذ من بوابة الليل إلى أرض الواقع الذهني فتستوي كائنات "حية" تسعى سعيَ البشر الفانين. إن لغة شهرزاد الليلية تذيب الموجودات لتعيد تشكيلها. لذلك يبدو عالمها – أعني شهرزاد – أقرب إلى الاختلاط chaos يلتحم فيه الدنيوي بالمقدس والتاريخي بالخرافي دون مراعاة للحدود ببين هذا وذاك. بل إن اللغة ذاتها هجينة تلتقي فيها العامية بالفصحى، فتدكّ قواعدها و"يفسد" نحوها؛ ليس لأنها أنشئت مشافهة، وإنما العلة في ذلك هبوطها من مقامها السني إلى ظلمات الحياة وطينها. ورغم البون الشاسع بين ليالي شهرزاد وليالي أبي حيان، فإن الليل وحده يجمع بين الأضداد: رجل/امرأة، تاريخي/خرافي 3 ، سردي/فكري... وكلاهما يسامر وينشر اللغة شبكا يكبح به جماح السلطة تلك المتمثلة في الوزير وتلك المجسدة في الملك شهريار. فظلمة الليل تحد من ظلم السلطان وبطشه بفضل الأنوثة الكامنة فيه. هكذا تكون ليالي التوحيدي الأربعين وليالي شهرزاد الألف أو ما يزيد على ذلك حبلا يصل الفرع بالأصل، أقصد السمر في مضارب العشيرة تحت سماء الصحراء المفتوحة على المجهول، وهذه العودة تثبت أن الليل هو الفضاء الأمثل لمعانقة اللغة والاستسلام لدفقها، ففي رحاب الليل يقوم الكائن البشري بتشفير العالم وسبكه رموزا تشع على مر الزمان.

1-ذاك ما تعج به أشعار العرب قبل الإسلام، فالليل مقترن بالخطوب والأخطار القادمة من كل فج عميق؛ وهذه الأخطار ينتجها البشر بغزواتهم الليلية أو مؤمراتهم (نذكر القول المأثور أمر دبر بليل الدال على الخديعة) وتنتجها كائنات غير مرئية ملأت الفجاج والشقوق كالجن والعفاريت والغول وغيرها.
2-الليل في التقويم القمري الذي كان يعتده العرب المسلمون هو بداية اليوم؛ فاليوم عندهم يبدأ مع غروب الشمس. لذلك كانوا يحصون الأيام بالليالي.
3-إن شهرزاد ذاتها من طينة سردية، فهي شخصية أنتجها الخيال وسواها لتكون في نهاية المطاف علامة لغوية محضة إذ لا مرجع لها.

المراجع:
*التوحيدي (أبو حيان): الإمتاع والمؤانسة، القاهرة 1944
* البيروتي - ابن البيطار – الجزائري: المفاخرات والمناظرات ، جمع وتحقيق محمد حسان الطيان، دار البشائر الطبعة 1 2002
*دوران (جلبير): الأنثروبولوجيا: رموزها، اساطيرها، أنساقها؛ ترجمة مصباح الصمد، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت الطبعة الثالثة 2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي