الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شام-الفصل السابع والعشرون والأخير

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 8 / 21
الادب والفن


طبعاً أوليت خبر الحمل أهمية، فحقيقة أن أصبح أباً لطفلين بدت كبيرة علي وسعيدة بقدر ما هي مقلقة.
فنحن، زوجتي وأنا، نعاني من عدم انسجام مريع، خاصة أنني، وعلى نحو جدي، كنت قد تقدمت بأوراق الطلاق، عن طريق محامٍ صديق، وطلبت منه أن يحيط الأمر بالكتمان، فالقامشلي مازالت ذاك المحيط الضيق، بالرغم من قرابة نصف مليون نسمة.
إن أصبت بمغص في المعدة، يتصل بك أصحاب من الجهة الثانية من المدينة، بعد نصف ساعة، كي يطمأنوا على صحتك.

الذي جرى، أن الحاجب الذي كان ينظف طاولة القاضي وقع نطره الفضولي على الطلب، فانتشر الخبر في الأوساط التي أعرفها، وجاء ناس إلى زيارتي برجاء أن أعيد النظر في الأمر، حتى أن أحدهم، وكان عجوزاً متقدماً بالعمر، أمسك يدي وأراد أن يقبلها.

بازدياد تكوّر بطنها، وسيرها مُبعدة ساقيها كي لا تتدحرج على الأرض، تقلّص صداع المشاجرات والحَرد وحدّة الدراما.

لم يرقني العيش في القامشلي، أعترف بذلك وضميرني يقتلني حين أبوح بهذا.
لذلك لم أحتج الكثير من التفكير حين عرض عليّ أخي الهجرة إلى الدانمارك، خاصة أن وأختي قررت، أخيراً، مغادرة عزلتها وعنوستها التي كانت بقية أفراد العائلة سببها، وتزوجت من «أبو بدر»، الرجل الطيب، اليساري المتّقد بالأحمر الناصع، من أكراد حلب العفرينيين.
وأبو بدر هو شقيق «أبو جوان» زوج «عمشة»، أخت طبيبنا إسماعيل عبد القادر وراية ورمز تحرر المرأة الكردية في القامشلي.

كنت أباً لولد الآن أيضاً، حيث أعيدت الكرّة من نهم للحليب، وغفوات يقطعها بكاء فم شره.

إبنتي كانت تركض في كل أنحاء البيت، لتملأ كياني بالفرح.
كنت أحملها على كتفي وأقود دراجتي في كل مكان، وهذه تُعّد لي الآن مخاطرة غبية لن أقوم بها أبداً.

وفي حماة كانت المدفعية قد دكّت نصف أحيائها، وقُتل عشرات الآلاف إثر حملة واسعة لوضع حدٍّ للعمليات التي قامت بها جماعة الاخوان المسلمين.

إثر ذلك، جاء أمين بركات لزيارتي ومعه أحد أبناء عمومته، وهو مجند شارك في الحملة على حماة. تكلّم عن فظائع، دمار ودماء، لكنه حين أخبرنا عن مجموعة من المعتقلين كان يحرسهم، وحينما عُرف أنه كردي، بدأ رجل ملتحٍ من المعتقلين، بشتمه وتهديده مصرحا أنه حال القضاء على العصابة العلوية التي تحكم البلاد، فأنهم سوف ينكحون نساء الأكراد ثم ينحرونهم فرداً فرداً حتى يختفي الأكراد في جهنم السابعة.
حينها وضع المجند فوهة الكلاشينكوف على جبهة الرجل وأرداه بطلقة واحدة.

هزّتني هذه القصة، فقلت له، بوقاحتي المعتادة، أن ذاك الرجل كان فمه قذراً، ولكنك لا تقلّ عنه قذارة، خاصة حينما ترويها وكأنك قمت بعمل بطولي.

كان أخي، في كوبنهاغن، يُدير حينذاك مكتباً للترجمة والتصميم الغرافيكي، ويعمل لحساب الشركات الدانماركية التي إزداد طلب الإستهلاك على منتوجاتها، وبالأخص منتجات الملابن، والأنسولين. ورغم أن الهجرة إلى الدانمارك كانت قد مُنعت تماماً منذ عام ١٩٧٣، إلا أن هجرة المختصين لم تكن ممنوعة، إذا توافرت الوثائق عنها.
وهذا ما فعل أخي، الذي ذهب إلى السلطات حاملاً لهم عدة كتب موقعة من مدراء بعض شركات التصدير، تؤيد ضرورة الإستفادة من خبرتي كمصمم غرافيكي.

مصمم غرافيكي؟ وأنا لم أكد أصبر على نهاية السنتين التحضيريتين في كلية الفنون، كي أتخلص من الجرافيك وغيره.

لكن، لا بأس. يجب أن أسافر إلى الدانمارك لبحث الموضوع عن كثب.

عُلّق طلب جواز سفري لدى المخابرات العسكرية، حين تقدمت بطلب الحصول عليه في الحسكة.

طلبت وساطة مدير ثانوية عربستان ملك حبسونو، بسبب نفوذه الحزبي وصداقاته الشخصية مع الأجهزة الأمنية، وسرعان ما طُلب مني مراجعة مقر المخابرات قرب الثكنة.
استقبلني ضابط شاب، يرتدي بدلة مدنية، بابتسامة، وطلب لي فنجان قهوة.

«هل ترى هذا؟». أشار إلى إضبارة سميكة للغاية. كانت تتألف من مجموعة من التقارير المتضاربة عني، ترصد حياتي بالكامل، فقد كنت، حسب هذه التقارير، شيوعياً، إخوانجياً وعضواً في ثلاثة أحزاب كردية مختلفة الآيديولوجية.
علاوة على ذلك، وهذا غريب، أن الإضبارة كانت تحتوي أيضاً على قصاصات عديدة من جريدة الثورة وتشرين والبعث عن مقالاتي في النقد السينمائي.

قال الضابط، وهو مازال يبتسم، أن هذه التقارير كلها، أقل ما يُقال عنها، أنها سخيفة، ووعدني أنه سيأمر بإتلافها، ثم سحب طلب جواز سفري من الدرج أمامه ووضع عليه موافقته.

قبل أن أغادر أراد مني أن أرصد نشاطات، قد يقوم بها، عصام العطار في الدانمارك، رغم أنه يُقيم في ألمانيا.

خلال زيارتي إلى كوبنهاغن، ولمدة أسبوعين، عملت في تصميم وتنفيذ ملصقات ومغلفات جبنة دانماركية، وتعلمت إستعمال غرفة التصوير المظلمة.
ثم اتفقت مع أخي، وبشكل نهائي، على إنتقالي وعائلتي إلى الدانمارك. زوجتي وافقت، بينما والدتي لم تكن سعيدة.

حين عدت، بدأت على الفور ببيع بيتنا المؤجر في قدور بك، حتى ذلك الوقت، وكل عفش وفرش البيت وعدة لوحات أستطعت رسمها. ثم أرسلت جوازات سفرنا إلى السفارة الدانماركية في دمشق، وأعادوه إلينا مختوماً بإقامة لمدة سنة، قابلة للتجديد، وذهبت والدتي إلى حلب.

بينما كنت بصحبة عبد الأحد، اسكندر، طارق وحسن في نادي المعلمين، جاء أحد معارفي، وكان مجنداً في شعبة تجنيد القامشلي، وهمس لي، أن برقية جاءت اليوم تدعوني إلى الخدمة كملازم إحتياط في لبنان.
اللعنة!
لا يمكن للتوقيت أن يكون أسوأ.
في اليوم ذاته، اشتريت بطاقة قطار إلى دمشق، وطلبت من زوجتي والأطفال الذهاب إلى عائلتها لليومين التاليين، كي تتفادى التوقيع على برقية طلب الإحتياط.

في منتصف الليل، خلّفت القامشلي ورائي حينما أنهى القطار لهاثه ونفث بخاره يميناً ويساراً. تنحنح وكأنه يتأكد من ثبات عجلاته على السكة، نفخ نفخة إحماء أخيرة وانطلق بجدية نحو دمشق.

شعرت وكأنني تخليت عن واحد من أحمالي الثقيلة. القادم المجهول دغدغ أحشائي بخليط من التوجس وروح المغامرة.

لن أرى بعد الآن عباس وبقية المعلمين والمدرسين في سهرات نادي الموظفين.

مع من سيلعب عبد الأحد الكونكان، وعلى من سيتغذى بعوض القامشلي؟

لحقت بي عائلتي الصغيرة في دمشق، وكنت قد حجزت بطاقاتنا على الخطوط النمساوية.
لم أتنفس الصعداء إلا حينما رأيت زرقة مياه البحر الأبيض المتوسط من خلال بعض السحب القطنية البيضاء، يوم ٣ آب، ١٩٨٣.

كنت سعيداً، حزيناً، مرتبكاً، قلقاً وجهنم تتأجج في خاصرتي.

-نهاية الكتاب الثاني من ثلاثية قامشلو، شام وكوبنهاون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با