الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإيقاع في قصيدة قلب الشاعر لأبي القاسم الشابي

كمال التاغوتي

2019 / 8 / 22
الادب والفن


القصيدة المختارة لازمتني طويلا، وقد هممت في أكثر من مناسبة بها لكنها كانت تتمنع وتتفلت كالرمل بين الأصابع. الحق الحق أقول إني تهيبت الاقتراب منها نظرا لتركيبتها الغريبة وأثرها العجيب في النفس. وإني في محاولتي هذه لمدين للكثرين، سواء أكان ذلك عبر الحوار والنقاش أم عبر القراءة، فهؤلاء ظلوا طوال مقالي هذا يوجهونني ويصوبون أخطائي ويسددون خطاي. بل إنهم إلى حد الساعة لا يزالون يحفرون في النص ويدعونني إلى التورط ثانية في جحيمه الناعم. ليس مأتى انغلاق القصيدة معجمها ولا صورها فكل ذلك قريب المأخذ كما عودنا الشابي، موطن الخطورة في بنيتها وأبعادها السيميائية؛ ذلك أن الدلالة لا تنتجها الملفوظات المعزولة ولا الصور الجزئية، وإنما تنبثق من النص بوصفه وحدة إيقاعية ودلالية. فعماد القصيدة تعاضد مكوناتها وتظافرها، لتشكل قلعة حصينة عصية على الدخول. إني اضع بين يدي القارئ هذه المحاولة عساه يضيف ويعيد بناء المعنى في هذا النص، أو غيره، فهو – أعني هذا النص – أثرى من أن تحتويه قراءة واحدة وطبقاته أخصب من أن تستنفد في مناسبة. إنه رحب متسع الأقطار، فيها يتردد صوت الشاعر فلنصغ إليه:
قلب الشاعر
كل ما هبّ وما دبّ وما ***نام أو حام على هذا الوجود
من طيور وزهور وشذى ***وينابيع وأغصان تميد
وبحار وكهوف وذرى ***وبراكين ووديان وبيد
وضياء وظلال ودجى***وفصول وغيوم ورعود
وثلوج وضباب عابر***وأعاصير وأمطار تجود
وتعاليم ودين ورؤى***وأحاسيس وصمت ونشيد
كلها تحيا في قلبي حرة***غضة السحر كأطفال الخلود

ههنا في قلبي الرحب العميق***يرقص الموت وأطياف الوجود
ههنا تعصف أهوال الدجى***ههنا تخفق أحلام الورود
ههنا تهتف أصداء الفنا***ههنا تعزف ألحان الخلود
ههنا تمشي الأماني والهوى***والأسى في موكب فخم النشيد
ههنا ألف خضم ثائر***خالد الثورة مجهول الحدود
ههنا في كل آن تمّحي***صور الدنيا وتبدو من جديد1

هذه القصيدة
أنشأها الشاعر قبيل رحيله ببضع شهور (16 مارس 1934)، أي أنه في ذروة عطائه الفني من جهة وذروة مرض عضال أضناه. ووفق سيرته أصيب الشاعر بمرض القلب، وقد وصف الدكتور محمد فريد غازي مرض الشابي فقال: " إن صدقنا أطباؤه وخاصة الحكيم الماطري قلنا إن الشابي كان يتألم من ضيق الأذنية القلبية أي أن دوران دمه الرئوي لم يكن كافياً وضيق الأذنية القلبية هو ضيق أو تعب يصيب مدخل الأذنية فيجعل سيلان الدم من الشرايين من الأذنية اليسرى نحو البطينة اليسرى سيلاناً صعباً أو أمراً معترضاً (سبيله) وضيق القلب هذا كثيرا ما يكون وراثياً وكثيراً ما ينشأ عن برد يصيب الأعصاب والمفاصل، وهو يظهر في الأغلب عند الأطفال والشباب ما بين العاشرة والثلاثين وخاصة عند الأحداث على وشك البلوغ "فالشابي إذن كان يعاني من ضيق في القلب، وهو أمر تنفيه القصيدة وتكذبه، فقلبه كما يقول "رحب عميق"؛ فأي قلب يصفه الشاعر؟ وعلى ماذا يدل في سياق النص الشعري؟ وهل ثمة صلة بين القول الطبي العضوي والقول الشعري المتعالي؟ كيف يمكن للقارئ التفاعل مع "القلب" في نص السيرة و"القلب" في القصيدة؟ أهذه القصيدة مجرد تعويض عن قصور وعجز واقعيين أم أنها وجه من وجوه عالم الشاعر وركن من أركانه؟
إن الإجابة السريعة هي أن "تغني" الشابي بالقلب يتنزل ضمن ثوابته نظرا لكونه رومنطيقيا يعلي من شأن العواطف. غير أن القصيدة الماثلة أمامنا أقرب ما تكون إلى بيان شعري يؤسس عبره صاحبه مبدأ، فهو متتالية من الجمل التقريرية المثبتة يصوغ من خلالها الشاعر حقيقة كلية مطلقة. لذلك تمس الحاجة إلى النظر في هذا القلب، لأنه فيما يبدو يتجاوز لفظه الوظيفة المرجعية – وهي الوظيفة المسيطرة على القول الطبي – ليؤدي وظائف أخرى أهمها الإيديولوجية والجمالية. والعنوان – بوصفه العتبة الأساسية للنص – ينبئ بأن القصيدة لا صلة لها بــ"قلب" الشابي الإنسان، بل مدارها "قلب" الشاعر؛ وبذلك يحدث التمفصل بين البعدين. فإذا أدركنا أن عبارة الشاعر لدى الرومنطيقيين عموما وشاعرنا خصوصا تتجاوز ناظم الشعر وتنفتح على الرائي والفيلسوف والكاهن والرسام والنبي، أمكننا الوصول إلى دلالة لفظ القلب في هذا المجال. إن القلب لا ينحصر في الجانب العضوي من الجسد، كما أنه لا يختزل في كونه مستودع العواطف والمشاعر حسنِها ورديئِها، إنما القلب ملكة من ملكات الإنسان، به يبلغ ما لا يبلغه العقل الحسابي؛ إذ أن المعرفة من خلاله حدسية. إن للقلب في هذه القصيدة دلالة صوفية، فالمتصوفة ومن سار على دربهم يولون القلب أهمية عظمى، إذ هو وسيلتهم في الترقي عبر مقامات الشهود. لنصغ إلى التهانوي وهو يعرف القلب من هذا المنظور:
القلب في اصطلاح المتصوفة جوهر نوراني مجرد، وهو وسط بين الروح والنفس. وبهذا الجوهر تتحقق الإنسانية ... ويسمى هذا النور بالقلب لأمور، منها أنه سريع التقلب وذلك لأنه نقطة يدور عليها محيط السماء والصفات ... ومنها أنه كان خَلقيا فانقلب حقيا ... ومنها ما عندي وهو أن العالم إنما هو مرآة القلب فالأصل والصورة هو القلب والفرع والمرآة هو العالم فصح فيه اسم القلب لأن كُلا من الصورة والمرآة قلب الثاني أي عكسه، وما يدل على أن القلب هو الأصل والعالم هو الفرع قوله تعالى: "لا يسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن".
يتضح من هذه التعريفات سمو القلب وشفافيته مقارنة ببقية قوى الإنسان، وعلى هذا السمت نهج الرومنطيقيون والشابي من بينهم. بيد أن القصيدة تجافي انتظارات القارئ وتزيغ به، فالمنتظر أن ينبري الشاعر يعرّف قلب الشاعر ويحدده، بعبارة أخرى ينتظر القارئ صياغة مفهومية بها ينضبط مفهوم القلب ويغادر الشرح المعجمي، وهو شرح يوقعه في المشترك فتتعدد معانيه. والمتن الشعري يؤجل اللفظ ذاته فلا يذكر إلا في البيت السابع منسوبا إلى المتكلم، في حين تتراكم في الأبيات السابقة عناصر ليس لها صلة مباشرة بالقلب. هكذا تجبر القصيدة القارئ على استخراج مفهوم القلب من خلال شبكة دلالية تنشئها بنية تعبيرية مخصوصة.
القصيدة على بحر الرمل التام، وقافيتها مقيدة متناهية الطول، وهذا اختيار فني من شأنه أن يثري الإيقاع بما أن الرمل من البحور الخفيفة المستخدمة كثيرا في القصائد المغناة؛ والقافية من النوع المترادف فهي توسع مجال التعبير بما أن الشاعر غير مقيد بمُجرى محدد. ذاك ما سيتجلى عند النظر في مبنى النص وأقسامه. تبدو عملية التقطيع ميسرة، إذ قسم النص – حسب النسخة المتوفرة لدي من ديوان أغاني الحياة – إلى مقطعين كبيرين تفصل بينهما نجمات ثلاث. ويستجيب التقسيم لتحول طرأ على القصيدة على المستويين المعجمي والدلالي. أما المقطع الأول الممتد من البيت الأول إلى البيت السابع فيهيمن عليه معجم طبيعي تنوعت عناصره وكان القلب مستقرا لها. وأما الثاني الممتد من البيت الثامن إلى البيت الرابع عشر فيهيمن عليه معجم المجردات الكلية. وبذلك يقيم الشابي قصيدته على التوازي العددي، إذ يتكرر العدد سبعة في المقطعين3؛ وهو ما ينسجم مع الموازنات المتحكمة في مسار القصيدة. يتضح الأمر في المقطع الأول خاصة، فمن مطلعه إلى حدود البيت السادس يتجاوز إيقاع النص الوزن العروضي، لينشئ إيقاعا داخليا يتجلى أساسا في ظاهرة الترصيع – أو ما يطلق عليه التقفية الداخلية – ومفادها تقطيع أفقي للبيت يحقق التماثل على مستوى الكمي والنغمي: تفصيل ذلك أن مطلع القصيدة يتضمن تجانسا صوتيا في صدره وعجزه (ما هبّ – ما دبّ // ما نام – ما حام ) مما يولد تناظرا يرسخه الجناس غير التام. تنسحب هذه الظاهرة على الأبيات الخمسة الموالية، إذ تتوزع الملفوظات على مساحة البيت بالتساوي فيستقل كل ملفوظ بتفعيلته، أو يكاد.؛ والأمثلة على ما ذكر كثيرة (من طيور – وزهور – وفصول – وغيوم ...) هذا التكثيف الإيقاعي يتصاعد عبر التماثل الإعرابي – هيمنة الكسرة – والصرفي – هيمنة التنكير – والمعجمي وقد أشرت إليه سابقا. فالعناصر المشاركة في تشكيل المقطع تتراكم لتنبي سلسلة من المتواليات الخطية بعد أن كانت مختزنة برمتها في رحم البيت الأول. إن هذه البنية الانفجارية التراكمية تؤسس برنامجا تجميعيا يجعل العناصر يشد بعضها برقاب بعض، في مسار خطي مفتوح لا نهائي كأن عناصره مجرد عينات تنادي ما أهمل ذكره. وقد يكون لظاهرة التنكير وصيغ الجمع دور أساسي في النزوع إلى المطلق لاسيما أن المطلع – الرحم المولد- يتكرر فيه اسم الموصول "ما" موصولا بالتسوير الوجودي "كل" ليدلا معا على التعميم واستغراق الحكم جميع الموجودات. ولعل طبيعة البرنامج التجميعي الساعي إلى بناء التماثل والائتلاف يقتضي تعاونا بين مختلف العناصر من جهة وعدم التفاضل بينها من جهة أخرى؛ وذاك ما ينهض به حرف العطف الواو؛ فهو يفيد الجمع دون ترتيب ويفتح النص على قراءات مختلفة – أعني المعنى الأول للقراءة – فمهما يكن اتجاه قراءة القصيدة يحصل المعنى بل ويحفظ الوزن. بيان ذلك أنه بالإمكان تغيير مواقع الأبيات ويمكن أن تقرأ الأبيات أفقيا ( صدر-عجز) كما يمكن قراءتها عموديا (صدر-صدر / عجز-عجز) دون أن يصيب النص اختلال ما.
من طيور وزهور وشذى
وبحار وكهوف وذرى
وضياء وظلال ودجى
وثلوج وضباب عابر
وتعاليم ودين ورؤى
وينابيع وأغصان تميد
وبراكين ووديان وبيد
وفصول وغيوم ورعود
وأعاصير وأمطار تجود
وأحاسيس وصمت ونشيد
بل إن الأمر أبعد من ذلك، إذ بإمكاننا قراءة القصيدة قطريا diagonal فنجمع بين صدر وعجز ينتمي كل منهما إلى بيت يختلف عن الآخر؛ فالنص يشدد على ظاهرة الائتلاف والتشاكل إيقاعيا لبناء مشهد قوامه الانسجام والتناغم بين عناصره المتباعدة طبيعة وواقعا. إن لهذا التشاكل على مستوى التعبير نظيرا يعضده على مستوى الفحوى يتجلى في تلك الوحدات الدلالية الصغرى وهي تتصادى ويذكّر بعضها ببعض. تبيانه أن العناصر اللاحقة تحيل على السابقة، وهذا من شأنه اختزالها في مجموعات وزمر دلالية، فكلمة "أمطار" الواردة في عجز البيت الخامس تشترك مع كلمات "بحار" وثلوج" و"ينابيع" في الدلالة على الحياة والنماء؛ في حين تشترك كلمات "أعاصير" وبراكين" وبيد" ورعود" في الدلالة على الدمار والفناء. وتشترك كلمة "ضباب" و"غيوم" و"ظلال" و"دجى" و"كهوف" في الدلالة على الظلام والخفاء. هذه أمثلة من زمرٍ دلالية ترسخ ظاهرة التشاكل والبرنامج التجميعي ومساره الخطي؛ فالنص إذن يقوم على التمدد والتوسع، فكل عنصر يدين في نموه لسلفه بما أن كل المكونات تجري إلى مستقر لها، أعني قلب الشاعر. غير أن هذا التناغم القائم على الائتلاف يخترقه مسار آخر مغاير؛ هذا المسار يحدث شروخا في المشهد لأنه قائم على إحلال التضاد والجمع بين عناصر متنافرة لا يمكن لها الوجود معا إلا في سياق النص. إن حضور هذه العناصر يبني مفارقة يجسدها الطباق المستشري في ثنايا القصيدة، فإذا بالقارئ يواجه جملة من الثنائيات مثل الحياة/الموت والخصب/الجدب والنور/الظلمة والمحسوس/المجرد والأعلى/الأسفل والسماوي/الأرضي. تؤسس هذه الثنائيات برنامجا مضادا للأول، فهي بدل أن تجمّع تفرق فينقلب الوضع من الاتصال الماثل في التشاكل والائتلاف إلى الانفصال المجسد في التنابذ والاختلاف. وإذا كانت هذه الظاهرة تستجيب لمطلع القصيدة ورحمها، بما أنها تصب في دلالة: (كل + ما) وتؤكد نزوع النص إلى المطلق غير المحدود، فإنها، على مستوى الإيقاع تنشئ توترا حادا مرده وجود قطبين متنافرين أحدهما إيجاب والآخر سلب؛ والاستقطاب من شأنه أن يحول مسار النص واتجاهه، إذ التردد بين السلب والإيجاب يولد حركة دائرية منغلقة منتهية بما أنها تعبر عن بلوغ التمام. وليس الاستقطاب بين العناصر هو المسؤول وحده عن توليد هذا المسار الدائري، فقيام القصيدة على ثنائية الإجمال والتفصيل يعضده ويسهم تعبيريا في الحيد عن المسار الخطي المشار إليه سلفا. إن القصيدة تنفتح بالمجمل: (كل +ما) لتعود إليه في البيت السابع (كل + ها) مشكلة حركة تقوم على الطي والنشر على مستوى المقطع كله وعلى النشوء والمحو على مستوى الأبيات، ليشرع النص في دوران ينتج عنه حقل دلالي يذيب العناصر ويصهرها في بؤرة واحدة تنأى بها عن مرجعها لتمنحها دلالات تلبي مقاصد الشاعر وتصوراته. هكذا تضحي القصيدة ذات اتجاهين، الأول خطي يحكمه التراكم والتجميع، والثاني دائري يحكمه التنافر والتنابذ؛ فإن يكن الأول قوامه الاتصال والألفة بين العناصر فإن الثاني أساسه الانفصال والصراع. والقصيدة بجمعها بين الاتجاهين معا تولد حركة لولبية (حلزونية) spirale تجمع في آن الخطية والدائرية. وعلى هذا السمت تنكسر الخطية نتيجة تلك الحلقات الصغرى المندسة في غضون الأبيات، وتصير دافعا للأضداد نحو الأعلى بفضل الحركة اللولبية. فقلب الشاعر وإن يكن خطيا في نهاية المقطع (البيت السابع) يظل ذروة الأبيات إيقاعا ودلالة. والعلة في ذلك استواؤه فضاء إقامة الموجودات ومركزا لوحدة شاملة هو في الآن نفسه داخلها وخارجها. فالموجودات في ائتلافها واختلافها وفي ألفتها وصراعها يتكثف حضورها عبر طريقتين: أما الأولى فبالضمير العائد عليها في نهاية المقطع الأول فحضورها لا انقطاع له بفضل صيغة المضارع الدالة على الديمومة والاستقرار والتشبيه الموغل في الغرابة بجعله القريب بعيدا لأن "أطفال الخلود" لا يتيسر استحضارهم إلا بوصفهم علامة لغوية تخضع لتعدد الدلالات. وأما الثانية فباسم الإشارة "ها هنا" الملازم للمقطع الثاني وهو يحيل على القلب أرض إقامة ومستقرا لتلك الموجودات. فالشاعر على هذا النسق ينشغل بالهنا والآن معرضا عن الزمن وتقلباته. إنه يبصر العالم بعين طفل، ينخرط في محيطه ويلتحم به دون أن يميزه عن ذاته. فالشاعر يعيش الراهن في حضور تام. هذه الوحدة الشاملة يبنيها النص وفق ثنائيات تشق مجراها في تآلف صراعي إن جاز التعبير؛ فالموت / الوجود، والفناء / الخلود، والفجر/ الليل، والهوى / الأسى، تقيم في مكان واحد وتحيا في جدلية قوامها الإنشاء والمحو والظهور والتخفي. إن هذه الجدلية بفعاليتها تحكم القصيدة كلها، ذلك أن الثنائيات المعروضة في المقطع الثاني ما هي إلا إطناب لما ورد في المقطع الأول؛ فالشاعر يسوق العناصر المشتتة إلى مبادئها الأولى. لننظر في ثنائية الفجر/الليل على سبيل المثال ولنسلطها على المقطع الأول، فتحلل إلى عناصرها الجزئية: ف/ل [ ضياء، دجى، تعاليم، كهوف، رؤى...] فالمقطع الثاني بناء على ما سبق يصبح ترديدا يلتقط السابق ويعيد صياغته عبر عملية تكثيف قصوى. ومن ثمة يحافظ النص على حركته اللولبية من جهة ويتحكم في تمدده إلى ما لانهاية من جهة ثانية. يساهم التكثيف الإيقاعي والدلالي في تعرية قصيدتنا النابضة، ليخفف من وطأة الغموض المهيمن على المقطع الأول ويضيء جوانبها بالكشف عن ماهية القلب وصلته بالعالم. فهو ليس مجرد جزء منه، إنما مرآة يتجلى فيها جوهره الثابت: وحدة الوجود.غير أن العلاقة لا تقوم على التشابه بل الاحتواء؛ فالقلب يسع العالم كله، لا في بعده المادي الملموس وإنما في حركته المحكومة بثنائية الوجود والانمحاء. هكذا يضحي قلب الشاعر طرسا فيه "تمّحي صور الدنيا وتبدو من جديد"، وبين الوجود والمحو جدل لا يكف عن الظهور. والقصيدة بنبضها تجسد هذا الجدل القائم على الاتصال والانفصال، والتماثل والتباين. وهذا الجدل هو المولد للنبرة الحماسية، بجمعه بين الحيوية في التعبير والحيوية في المضمون. إن تضامن الخلايا الإيقاعية بمستوييها الدلالي والتعبيري يضمن تماسك النص، فكل عنصر فيه إما أن يكون نداء للاحق أو تذكير بسابق؛ ولهذا التماسك قيمة جمالية لا تخفى، لكنه أيضا ذو قيمة حجاجية ذات شحنة إيديولوجية، فما تواتر الجمل التقريرية المثبتة وغياب الإنشاء غيابا تاما وهيمنة المعجم الطبيعي وغياب الكائن البشري، إلا بلورة لموقف يتخذه الشاعر من تصور سائد للحياة والموت؛ فإذا كان قلبه يسع العالم ويحتويه فإن موته لا يعدو أن يكون حالا من أحوال الوجود. وعلى هذا النحو لم ينتهج الشابي أسلوبا تصويريا ولا غنائيا بقدر ما سعى جاهدا إلى خلق كون مصغر microcosmeلا ينفك ينشأ وينمحي، تمتزج فيه وبه الظلمة بالنور وينفتح عالم الآلهة الخالدين على عالم البشر الفانين. وما كان ذلك ليكون لولا تفتح قلب الشاعر واستواؤه فضاء وسكنا. والبيت الأخير يصرح بما جبلته القصيدة النابضة بالحياة، فالوجود في حركة متصلة لا انقطاع لها، وما الموت والفناء سوى وجهين من وجوه الوجود. إنه أكوار ما إن يبلغ كوْر تمامه حتى يشرع آخر في التشكل. القصيدة وفق هذا التصور رد شعري على القول الطبي؛ فقلب الشاعر ليس له أن يضيق، وموت الشاعر لا يمثل نهاية؛ إنه ههنا دائما يتراءى في الكون وصداه لا يكف عن النداء كي ينكشف الوجود ويميط اللثام عن وجهه. لقد ظل قلب الشاعر – هذا الأبد الصغير على تعبير الشابي نفسه – نابضا بهذه القصيدة وفيها، مرددا نبض العالم العميق متحديا الغياب. إن الشابي في قصيدته هذه يواجه العقل وحساباته فيتعالى عن الواقع معانقا سماء المثل العليا. ذاك دأب الرومنطيقيين وموقفهم؛ فهم ينفرون من الرتيب والسطحي، كما ينفرون من ضوابط العقل وقواعده لأن همتهم متعلقة بالمطلق، بعالم تتجدد فيه الدهشة ويحث على الاكتشاف. ذاك هو عالم الحلم وخيال الطفل سيده.
1-أغاني الحياة، ص.ص.262-263
2-الكشاف، ج.2 ص.1335
3-لهذا العدد قداسته في ثقافات العالم، حسبه أن يكون عدد أيام الأسبوع الذي لا ينتهي إلا ليعود من جديد.
المصدر:
الشابي (أبو القاسم): ديوان أغاني الحياة، الدار التونسية للنشر، الطبعة الثانية، 1970
المراجع:
*التهانوي (محمد بن علي ابن القاضي محمد حامد بن محمّد صابر الفاروقي الحنفي): كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، الطبعة الأولى 1996
* Michel Philip : Le cœur de Rousseau, les presses de l’université de Montréal, 1967
*Claude Zilberberg : Rythme et générativité, Département des littératures de l’université Laval, 1996








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق


.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع




.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر