الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة دائما ثورية (1) مذكرات شيوعي

محمد يعقوب الهنداوي

2019 / 8 / 22
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


الحقيقة ثورية دائما

رغم فداحة الأثمان الرهيبة التي دفعناها وندفعها أفرداً وشعوبا ومجتمعات نزيفا بشريا وإمكانات وطاقات وموارد ومشاعر انسانية ودماءً فياضة وعذابات لا تعد ولا تحصى، لا زالت الغالبية الساحقة فينا تفتقد الجرأة على الصراحة والوضوح وتسمية الأشياء بأسمائها وتستمرئ النفاق وطمس الحقائق وتتحاشى تسليط الأضواء الكشافة على ماضينا وحاضرنا وحقيقة الأشخاص والتنظيمات التي منحناها زهرة شبابنا ودموع أمهاتنا فخانوا الأمانة، ولا زالوا يمتهنون الصفاقة والعهر السياسي والفكري بكل وقاحة. والمقصودون بهذا أكثر ممن يحصون، ناهيكم عن تشخيصهم واحدا واحدا.

والخطوة الأولى الحقيقية والمثمرة والصادقة نحو مستقبل أفضل هي الصراحة والوضوح والكف عن ممارسة التقية السياسية والفكرية خدمة لمجتمعاتنا وأجيالنا القادمة، فلا أمل يبدو في الأفق حتى الآن، ولن يبدو أبدا، ما دمنا لا نجرؤ بعد على رفع الأقنعة ومواجهة نور الشمس.

في سلسلة من المقالات، والتي ليست بالضرورة متسلسلة زمنياً أو مترابطة من حيث تتابع الأحداث، كتبت الكثير عن تجارب عشتها تفصيليا مع أسماء لا زالت تتبرقع بنوع من الثوروية أو "التثاقفية" أو "تفلسف" نفاقها ورجعيتها وخياناتها، منطلقا في هذا من حقيقة أن الأيام تمضي سراعا والأزمات تتفاقم حدة وشراسة وعمقا وديمومة بينما نحن نمضي الى قبورنا محملين بإرث هائل من الأسرار والتفاصيل والقصص التي ليس من حقنا تغطيتها والتستر عليها تحت شعار منافق هو "لا تنشروا غسيلنا الوسخ أمام الأنظار!"، بينما الضرورة تتطلب نشر غسيلنا الوسخ تحت نور الشمس ليجف ويكف عن تلويث حياتنا الفكرية والسياسية والثقافية، ولنضع نهاية للإنحطاط الذي ننساق اليه جميعا راغبين ومع سبق الإصرار رغم شكاوانا المنافقة منه.

التستر على التاريخ ومجريات الأحداث تقية أو تواطؤاً أو تهربا من المسؤولية أو حتى تلافيا للعار في بعض الأحيان لا يغفر السكوت الذي هو معادل تماما للخيانة ومكمل لها.

وبحكم تجربتي الطويلة التي جاوزت نصف قرن عايشت خلالها الكثير وشهدت خلالها الكثير والكثير جدا من الأحداث، سأبدأ بنشرها تباعا آملا أن تكون حافزا لحوار صادق مع النفس ومع شعبنا ومع الأجيال المقبلة، وأن نتكامل على طريق بناء مصداقية لا غنى عنها لبناء الأمل من جديد من نجيع هزائمنا المتواصلة الى اليوم بدليل انتصار وتفوق أعدائنا.

* * *

(1)



في أعقاب انهيار الحركة الكردية المسلحة (بقيادة العائلة البارزانية) إثر اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 بين شاه إيران وصدام التكريتي، انهارت أيضا تنظيماتنا المسلحة التي كان لها ثلاث مقرات رئيسية، أهمها "مقر القيادة" في قرية (دار السلام) برئاسة (عثمان جلميران) على أطراف (ػلالة)، ومقر (ػوندي كاژاو) في السليمانية بقيادة شيخ علي برزنجي، ومقر كركوك في منطقة (شوان) بقيادة كاظم الموسوي (صبري).

وكان قد تم قبلها إخلاء مقر (القوش) في بهدينان، ولا علم لي بما جرى لأعضاء الحزب ومقاتليه هناك لأن الأحداث سبقتني وكان هناك تكتم شديد دائم على كافة التفاصيل، بينما توزع رفاقنا ومسلحونا في مقر أربيل (الذي تم إخلاؤه أيضا) بين مقرات السليمانية وكركوك و(دار السلام).

أما مقر خانقين (بَمُو)، بقيادة زوران عزيز پشتيوان وابراهيم زهاوي، فكان قد أغلقته قوات البارزاني عقب قيام مسؤول الفرع وجلاوزته بإعدام اثنين من رفاقنا بسبب خلافات شخصية أضفى عليها زوران طابعا "أخلاقيا" مزعوما، وقام قبل قتلهم بتقطيع أوصالهم أمام أعينهم. أما بعد موتهم فقاموا بإحراق جثثهم ليلا على قمة أحد التلال القريبة لكي "يراها كل القرويين في المنطقة ويكون شاهدا على صرامة حزبنا وثوريته"، كما زعم زوران عزيز پشتيوان، مما أدى الى شكاوى الناس وقيام بيشمركة بيت البارزاني، نتيجة لتلك الشكاوى، باعتقال زوران ومجموعته، وقاموا لاحقا بإعدام اثنين من الرفاق الأبرياء ممن لم تكن لهم يد ولا قرار في الجريمة، لكن ذلك كان، بالدرجة الأولى، للحفاظ على حياة المجرم الحقيقي زوران پشتيوان الذي كانت عائلته مقربة من البارزاني وأمر بالإبقاء عليه. ولمن لا يعرف اللغة الكردية فإن لقب "پشتيوان" يعني (المعتمد) وهو لقب كان البارزاني يتكرم به على أتباعه المخلصين الذي كان والد زوران من بينهم.

وكان ذلك الانهيار (في آذار 1975) مسك الختام في تاريخ وجود تنظيمات (القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي) التي انفصلت عن الحزب الأم في أيلول 1967 وستكون لي عودة (في مقال آخر) أتناول فيه تاريخ ذلك الانفصال، أو "الانشقاق"، كما هو متعارف عليه في لغة السياسة، بسبب كثرة التفاصيل المتعلقة بذلك الانشقاق ومضاعفاته وعواقبه.

في عام 1968، حين جاء البعثيون مجددا الى السلطة، كنت مراهقا صغيرا لم أبلغ الرابعة عشرة من العمر وطالبا في الصف الأول الإعدادي (الرابع ثانوي) لا أفقه في السياسة شيئا لكن عاطفة الشارع العراقي المنحاز بأغلبيته الى الشيوعية كانت جارفة الى حد أنني لم أواجه أي خيار في انحيازي كمراهق مبتدئ بالشعر والعاطفة ونشأة الشخصية الفردية، وكنت قد بدأت لتوي العمل في شارع المتنبي كعامل صغير بعدما قضيت كل طفولتي وصباي كادحا أبيع الحلويات (الدهين) والشربت والثلج واللبن والخضروات وطيارات الورق وأشياء أخرى تتنوع حسب الفصول وحسب توفر الرأسمال البسيط الضروري لتلك الأعمال.

كنا نعيش فقرا مدقعا بكل ما للكلمة من معنى، وكانت أمي، التي قضت معظم حياتها أرملة فقيرة ونذرت حياتها لنا ولمستقبلنا، تشتغل طوال الوقت في خياطة ملابس للجيران (الفقراء أصلا) أو في لفّ العلكة والحلويات "الچكليت" أو السكاير (جػ---اير المزبّن) مع أختيّ الاثنتين، المتزوجة مع ثلاثة أطفال آنذاك، والشابة الصغيرة التي تكبرني قليلا لكن شقيقي الأكبر "الشيوعي" عبد الحسين الهنداوي منعها من إكمال دراستها وفرض عليها الجلوس في البيت قبل أن تكمل دراستها الابتدائية. ولا زالت المسكينة تبكي الى اليوم بسبب ذلك القرار الفحولي الجائر الذي أنهى حياتها الدراسية وقضى عليها بالعبودية الأزلية.

كان شقيقي الأكبر (عبد الحسين الهنداوي) على أبواب تخرجه من جامعة بغداد (كلية الآداب – قسم الفلسفة) بعدما شقينا طويلا جدا ووفرنا له كل متطلباته واحتياجاته قدر ما استطعنا ليعيش أيام الجامعة مدللا ويتخرج متفوقا ليساعد أمنا وأخواتنا على شظف العيش. كان هذا الأخ يتباهى بشاعريته وشعبيته في الكلية وعشقه لفتاة (زعم أنها من عائلة ثرية) إسمها (ميسون) جاء بصورة لها وعلقها في الغرفة وأخبر الجميع بأنها "حبيبته"، وكان يكتب "شعرا" عنها ومتغزلا بها. وسأحكي قصص هذا الأخ العجيب مستقبلا في سلسلة طويلة من الحلقات المتتابعة والتي ستكون مسلسلا تلفزيونيا لاحقا.

وفي خريف عام 1968 أبلغنا شقيقي (عبد الحسين) بأنه نجح في الكلية وأنه حصل على شهادة البكالوريوس. وقبل أن نستبشر ونفرح بعمله وراتبه المرتجى قال انه سيذهب للعمل في الكويت لأنه حصل على وظيفة هناك وأنه سيغرقنا بالمال والترف، وودعناه بالفعل في المحطة العالمية (محطة سكك بغداد) حيث استقل القطار الى البصرة ومنها الى الكويت المزعومة. لكنه عاد بعد أسبوع برواية مضطربة عن عدم صلاحية الكويت للعمل وانه قرر العودة للعمل في بغداد.

وبعد بضعة أيام أبلغني هذا الشقيق بأنه سيقدمني الى "مسؤول حزبي" لأكون عضوا في (الاتحاد العام للطلبة) التابع للحزب الشيوعي، وحدد لي موعدا لذلك دون حتى أن يشرح لي ما معنى الشيوعية أو لماذا يجب أن ألتقي بذلك الشخص وأثق به.

التقيت بذلك الشخص فعلا بعد أسبوع وكان اسمه المستعار (منصور) وتتابعت لقاءاتنا الأسبوعية لبعض الوقت وقدمني أيضا لثلاثة آخرين في مثل عمري وقال أنا سنشكل خلية معاً، ثم لم يلبث الجميع أن عرفوا ان منصور لم يكن سوى ضابط الأمن البعثي (سعدي الحديثي) الذي تسبب لاحقا في إعدام الشهيدين (وسام غضبان الربيعي) و(فائق أصفر) وهما اللذان قدمهما لي سابقا وكلاهما كان طالبين في الإعدادية المركزية ببغداد.

وما ان مرت بضعة أسابيع أخرى على عودته من الكويت حتى زعم شقيقي (عبد الحسين) بأنه "ملاحق" من قبل الأمن وانه سيهرب من بغداد وسيبلغنا لاحقا أين سيذهب. واختفى في اليوم التالي بالفعل ليتركنا لجوعنا وفاقتنا وعذابات أمي اللا نهائية ودموعها المرة. وبعد شهرين تقريبا طرق بابنا أحدهم وسأل عني وسلّمني رسالة قال انها من شقيقي (عبد الحسين) وانه يريد أن يرانا أنا وأمي سريعا جدا وان التفاصيل في الرسالة.

......

(وثمة تتمة....)










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية