الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السجن والحرية والقبلة الأولى (3) مذكرات شيوعي

محمد يعقوب الهنداوي

2019 / 8 / 27
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


لن أستعرض هنا تفاصيل التحقيقات والتعذيب في قصر النهاية لبشاعتها وقذارتها أولا، ولأن المناضلين يعرفون تلك التفاصيل جيدا ولا أريد ايقاظ آلامهم وأحزانهم الغافية، ثانيا. ففي صباح اليوم التالي اقتادوني الى مكتب الجلاد (حازم محمد رجب)، وعرفت من السجناء لاحقا انه اليد اليمنى للجلاد (ناظم ػزار) مدير الأمن العام. وبعد وليمة سريعة من الضرب والركل والشتائم البذيئة، أخذوني الى سيارة نقلتني الى قصر النهاية، كما سمعتهم يقولونها.

ورغم ان عيوني كانت مفتوحة وثمة فتحات أستطيع من خلالها رؤية حركة الشارع وسماع ضجيجه الا أنني لم أكن أعرف جغرافية هذا الجزء من بغداد جيدا، فهو خارج مناطق سكني وشغلي وما بينهما وأماكن تجوالنا وتسليتنا البريئة في شارع الرشيد ومكتبات شارع السعدون ومقاهي أبي نؤاس.

وعلى الجانب الآخر من بغداد لم أكن أعرف في (الكرخ) سوى نادي حمادة الرياضي الذي كنا نعبر دجلة اليه أيام الجمعة سباحة أو على طوافات فردية من الإطارات الداخلية للسيارات التي ننفخها جيدا ونثق بحملها ايانا الى الجرف الآخر من النهر مع بعض الرقي وفواكه أخرى التي نأكلها هناك بين الضحك والمزاح البريء ثم نعود قبل الغروب.

هذا في الصيف دائما حيث يكون الجو دافئا ونكون في تعطيلاتنا المدرسية، وذلك إضافة الى مناطق معدودة أخرى كنا نستدل عليها قليلا حين تأخذنا أمهاتنا في زيارات متباعدة الى المراقد الدينية أو لزيارة أقارب نداهمهم في بيوتهم على حين غرة فيضطرون الى استضافتنا حيث لم تكن هناك وسائل اتصال متيسرة ولا كانت التبليغات المسبقة بالزيارات العائلية ضرورية، فأنت تحمل عائلتك وضجيجك وتنزل عليهم كالقدر، وعليهم أن يتدبروا أمرهم ليوفروا لكم مستلزمات الضيافة قدر أهميتكم لهم واهتمامهم بزيارتكم.

دخلنا في ما يشبه البستان أولا ثم وفقت السيارة في باحة صغيرة أمام بناية سحبوني الى داخلها ودفعوني بعد قليل الى مكتب واسع مضاء جيدا ويبدو كل ما فيه حسن الصيانة. ووجدت نفسي أمام (حسن المطيري) رئيس جلادي قصر النهاية، وبدأت "حفلات" الرعب. أما باقي التفاصيل والأسماء والمجريات فسأوردها ضمن كتاب يتسع لها ولشؤون كثيرة أخرى.

والمسألة الجوهرية في هذه التحقيقات هي أنني تمسكت برواية بسيطة واحدة، وهي ان شخصا لا أعرفه من قبل جاء الى مدرستي بعد انتهاء الدوام وابلغني أن أخي موجود في المكان الفلاني ويريد أن يرى أمه ووصف لي طريق الذهاب. وعدا ذلك فاني مجرد طالب مدرسة بسيط من عائلة فقيرة لا أعرف شيئا عن السياسة ولا شأن لي بأية "مشاكل". ولم تنفع كل وسائلهم في حملي على تغيير تلك الاقوال لأني أدركت بشكل ما ان أي تبديل أو إضافة أو تغيير في اقوالي سيؤدي الى المزيد من التعذيب وسيوقعني في تناقضات لن أنجو من عواقبها. وساعد صغر سني كثيرا بلا ريب في تصديقهم أقوالي.

وفي جولات التحقيق تلك، وحتى بعدها بشهور، كانوا يخرجونني من زنزانتي من وقت لآخر ويأخذونني الى مكاتبهم وغرف تحقيقاتهم ليضعوني في مواجهة شخص مدمى ومنهك ومشوه الوجه والجسد من التعذيب ويسألونني ان كنت أعرفه أو يسألونه ان كان يعرفني. وكانت اجاباتنا بالنفي دائما حتى دون أن نتطلع جيدا في وجوه بعضنا بعضا.

كانت خليتي الطلابية، بعد انقطاع اتصالاتي مع سعدي الحديثي (منصور) وسالم والشهيدين (فائق أصفر) و(وسام غضبان الربيعي)، تقتصر على خمسة أو ستة من زملائي الطلبة وأبناء منطقتي الذين لم يكن أحد سواي يعرفهم كناشطين سياسيين هم (مرتضى سام المندلاوي) و(صادق علي الباوي) و(فهد قمندار) و(علي حسين النجار) و(عمر فاروق إبراهيم)، وكلهم جمعتني بهم علاقات صداقة حميمية ووطيدة ولم أكن مستعدا لوضع أي منهم في مأزق مهما كلفني الأمر.

وانطلاقا من قناعاتي تلك، لم أتسبب بأي أذى لأي أحد أو أرتكب ما يضعني مستقبلا في مواجهة مأزق مع ضميري أو حتى أن يضعني في بؤرة الرصد الأمني، فمن المعروف ان سلطات الأمن لا تعرف بوجودك ولا تهتم بك ما دمت لست في بؤرة أهدافهم. وكلما نجحت في الابتعاد عن تلك البؤرة كلما استطعت أن تفعل كل ما تريد بأمان. ولكن ما ان تصبح ضمن تلك البؤرة حتى يصبح الجلادون "أقرب معارفك" ولا يكفون عن جرجرتك الى معتقلاتهم وغرف تعذيبهم لسبب أو بدون سبب.

ودأبت على ممارسة هذا الأسلوب طوال حياتي السياسية فكنت أنتحل اسما جديدا في كل مكان جديد أو أتعامل مع شخص جديد لأقطع الصلة تماما بمجرى حياتي الطبيعية وعلاقاتي الأخرى، ولهذا لم تستطع الأجهزة المخابراتية أن ترصدني أو توقع بي يوما، وتأكدت من صحة ذلك وجدواه حتى حين وقعت بأيدي الأجهزة الأمنية في العراق وسوريا وتعرضت للاستجوابات والتعذيب والسجن، لكن أحدا لم يستطع اثبات أية نشاطات كنت أقوم بها في مناطق أو مجالات أو أوقات أخرى.

وبذلك خرجت من السجن، حين قرر الجلادون ذلك لانتفاء أية منفعة لهم من جودي، مرفوع الرأس وبكامل عنفواني وشموخي واحترامي لنفسي واحترام ومحبة وإكبار كل من يعرفني.

* * *

وفي صبيحة أحد أيام كانون الثاني سمعنا ضجيجا بين زنزاناتنا ثم بدأ أحدهم ينادي بالأسماء على بعض السجناء، ومن بين تلك الأسماء ورد اسمي، فتقدم أحدهم الى باب زنزانتي، التي أشترك فيها مع اثنين آخرين، وفتحها وأخرجني وأمرني بأن أسير الى نهاية الممر وأقف هناك مع الواقفين.

كان مجموعنا 34 شخصا من أعمار متباينة ساقونا بعدها الى المكتب الرئيسي حيث دققوا في تطابق أسمائنا مع قوائم كانت لديهم، ثم أخرجونا الى باحة السيارات ووضعوا كل مجموعة منا في سيارة وأخدونا الى مديرية الأمن العامة ببغداد من جديد.

كنا جميعا مرتبكين متوجسين فلا أحد منا كان يعرف ما يجري أو ماذا سيحدث. وفي مديرية الأمن العامة أوقفنا في طابور في أحد الممرات واستدعونا واحد بعد الآخر الى احدى الغرف. وحين وصل دوري قام شرطيان بتدقيق اسمي وأخذ بصمات أصابعي ثم قادني أحدهما الى باب البناية وقال لي: هيا... إذهب.

سألته: الى أين؟ قال: اذهب الى أهلك فأنت طليق.

واستقبلت نسمات الحرية ملء صدري.

* * *

لم تكن المسافة بعيدة عن بيتنا، فما ان رأيت شارع السعدون حتى توجهت الى الباب الشرقي ومنه الى شارع الكفاح ومحلة سراج الدين حيث نسكن. ولم يستغرق الطريق أكثر من ساعة واحدة مشيا على الأقدام.

حين دخلت زقاقنا بدفئه وفقره وألفته التقاني (مكي عبد شبيب) وهو ابن جيراننا في المنزل المقابل لبيتنا تماما والذي كنت أكتب لأخته (منى) أشعار الحب وأسهر الليالي أرقب سطوع نجمتها المباركة في سماوات عشقي، أو أتحمل قيظ ظهيرات صيف بغداد اللاهب واقفا على سطح بيتنا لأراها تقف أو تجلس على عتبة باب بيتهم بغنج وإغواء مراهقة جامحة ودعوة جريئة.

تفاجأ مكي برؤيتي وسألني: محمد... متى خرجت من السجن؟

قلت له: الآن...

قال: وأهلك لا يعرفون بذلك ولم يروك بعد؟

قلت: لا...


ركض مكي الى بيتنا وهو يصرخ بانفعال وفرح: محمد رجع... محمد طلع من السجن...

وما كدت أضع رأسي في حجر أمي وأتوضأ بدمعها الساخن يلهب وجهي حتى تقاطرت أجمل نساء المحلة وبناتها وكانت ألذّ أحضان العمر وأكثرها صدقا ولهفة واشتعالا إذ وجدت المراهقات فيه عذرا للقبلات الحبيسة وكانت قبلات (منى) بينها هي الأشهى. كان عرسا لكل جيراننا الفقراء برجوع محمد من قصر النهاية الذي لا يرجع منه أحد... مرفوع الرأس.

* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط