الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النرجسية الثقافية والعدوانية

حميد لشهب

2019 / 8 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


طرح المحلل النفساني و السوسيولوجي الشهير إريك فروم (1900-1980) في كتابه "تشريح الهدم الإنساني"، الصادر عام 1973 سؤال: "شخصية مريضة أم ثقافة مريضة؟"، وعلل هذا المرض بالنرجسية، التي تقود مباشرة إلى إنتاج العدوان في حركة دائرية لا نهاية لها. ومرد هذا إلى الضعف الذاتي في مجتمع ضعيف، لأن الأسس التي تنبني عليها هذه القوة تساهم في إفراغه داخليا واستلابه عن طريق مجموعة من الميكانيزمات الشعورية واللاشعورية. والحل الذي كان اقترحه للتحرر من هذه النرجسية الثقافية لم يكن شيئا آخر من غير كسر هذه الدائرة المغلقة بإعمال ملكة النقد الذاتي.

تعتبر النرجسية على المستوى الشخصي ركيزة أساسية في بُنيتنا ونمونا النفسيين، بل هي جزء من طبيعتنا الإنسانية إذا لم تتجاوز حدودا طبيعية معينة وتصبح مرضية. ومن بين أهم خصائص النرجسية هي تركيز المرء للطاقة الحيوية لما يحيط به على ذاته، تماما كالرضيع الذي لا تكون له علاقة بعد بالعالم الخارجي. يعيش النرجسي تجربة الحياة الذاتية انطلاقا من جسده وحاجاته ومشاعره وأفكاره وممتلكاته. يتمثل كل شيئ يحيط به ملكا خاصا به، وليس لوجود هذه الأشياء أي هدف آخر من غير خدمته والسهر على "سعادته" وراحته. وكل من يخرج عن هذا التمثل، إما أنه لا يهمه بتاتا أو يصبح موضوع عدوان. يكون في أحكامه أحادي الجانب، يحكم على الآخرين بصرامة، لكنه لا يُطبق معايير هذه الأحكام على ذاته، لأن تصوره لنفسه كشخص فريد لا يسمح له بذلك. وهذا ما يؤكد بأنه يفتقد الحكم والنظرة الموضوعيين، ليس فقط لذاته، بل وكذلك لما يحيط به. ومرد هذا إلى تصور ذاته كفرد مطلق وكامل ومتميز. وهذا ما يولد وينمي الحاجة الماسة للنرجسي بإعجاب الآخرين به.

تتمظهر النرجسية الجماعية، وفيها تعشش النرجسية الثقافية، في تركيز جماعة ما على ذاتها واعتبار نفسها أهم وأعلم وأذكى من كل الآخرين وتفصح هذه النرجسية عن نفسها في عبارات مثل وطني، أمتي، ديني إلخ. أي المثاليات التي تشكل هوية هذه الجماعة. تتميز هذه الأخيرة بالتعظيم المغالى فيه من طرف أعضاء الجماعة التي تحملها و يحشر فيها منطق حب الوطن و الدفاع عن العقيدة إلخ. تظهر بأنها حقيقية، لأن كل الجماعة تؤمن بها وتدافع عنها. أما وظيفة النرجسية الجماعية فهي تماسك وانضباط الجماعة وهي موضوع إشباع رمزي، وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه للتعصب للجماعة، بل للتضحية بالنفس من أجلها، وقبول حكامها ومسييرها ولو كانوا لا يعملون إلا لمصالحهم الشخصية، بل ينكلون بمعارضيهم تحت ذريعة "المس بمقدسات الجماعة"

يكمن المشكل الأساسي في نرجسيتنا الثقافية والصورة التي نبنيها عن أنفسنا في بعد وجودي آخر، لم نتحرر منه، ولربما لا نريد التحرر منه، وهو كوننا لم نَعْبُر بعد قنطرة المرور من وضعنا كأتباع "أي رعايا" إلى حقنا في أن نكون "مواطنين". ولعل مرد هذا إلى كون وضع " الرعية" يسمح بالتنصل من كل مسؤولية، ليس فقط اتجاه الذات، بل وأيضا اتجاه الوطن. بما أن هناك "راع" يحل كل مشاكل البلد، ولو كانت هناك حكومة منتخبة، فلا داعي لتحمل أي مشكل كان من طرف "الرعية". إذن، نحن "رعية" وليس شعبا بالمفهوم الحديث للكلمة، أي جماعة بشرية كبيرة تقرر مصيرها بيدها. وينتج عن هذا كون مفهوم الوطن لم يجد بعد طريقه في تجريدنا اللغوي كشحنة انفعالية، بل ظل تمثل ذواتنا "كرعية" هو الطاغي. من هذا المنطلق، لا تحتاج "الرعية" إلى وطن، بما أنها تعيش في مراعي "الراعي"، فهو الذي يمثل الوطن بالنسبة لها، وهو الذي يحميها.

بما أننا لسنا مواطنين وليس لنا وطن بعد وبما أن هامش الديمقراطية ضيق ومخنوق وفعاليته محدودة، وبما أن أغلبية القوانين لا تطبق إلا جزئيا أو لا تطبق على الإطلاق، وبما أن كاريزماتية "الحكم" مازالت مركزة على شخص أو بعض الأشخاص ولم تشمل مجموع الفاعلين في المجتمع، فلا داعي لنوهم أنفسنا بأننا "دولة"، لأننا لا نتوفر ولو على حد أدنى للفهم الصحيح للدولة، بل ننتظر من الدولة أن "تمنح" و"تتصدق" علينا بما جادت به. لم نصل بعد إلى تطور كاف يسمح لنا أن نعي بأن الدولة هي نحن، وبأننا نحن الذين نحميها وليس العكس، نمولها، نصرف عليها ونختارها عن طواعية. الدولة في مجتمع دون وطن، هي "كاريكاتور"، بل بهلوانا يتسلى به "الراعي" أو يستغله "لعقاب" "قطيعه" وضبطه وتوجيهه كما أراد. ويتجلى هذا الأمر في "الإنقضاض" على "شعارات" الراعي من طرف الدولة، وترديدها بحركات بهلوانية صرفة لمدة معينة، ثم توضع في قمطر "المستهلكات السياسية" وتسجن إلى حين. ويعري هذا الوضع على تسائل وجودي-سياسي مهول نكبته بكل قوة: أي نوع من أنواع التجارب السياسية نطبق؟ فلا نحن ليبراليون حقيقيون، نؤمن بالعقل والفرد والحرية. ولا نحن اشتراكيون يؤمنون بالعدالة الإجتماعية وقوة الجماهير الشعبية وضرورة توفير سبل المساوات في الحقوق والواجبات. وما نحن ملكيون بالفعل، لأن تمثلنا للملكية موشوم بعناصر متجاذبة، فهي مرة "الضامنة" لاستمرارنا في الوجود، وأخرى "عقبة" في وجه نمونا. لسنا مسلمين، بل ببغاوات تتغنى كل واحدة منها "ببركة فقيه" ولا ينم تصرفنا الجماعي مع أنفسنا ومع الآخرين بأننا مسلمون حقيقيون، نشهد الزور ونحلل الرشوة إما قبضا أو دفعا ونصوم – أو نتظاهر بذلك- ونحن "نُخَيِّخَ" من رمضان، وننتقم منه وقت الإفطار، نقوم بالرذيلة وننهى الآخر عنها.

في هذه العتمة الوجودية الداكنة موطننا الحالي، وهي التي تقوي نرجسيتنا الفردية والجماعية، وتنمي فينا ثقافة "إنية" (من الأنا)، تحجب عنا وعي ذواتنا ومحيطنا المجتمعي والبيئي. لن تفلح كل شموع العالم وفوانيسه في التغلب على هذه العتمة، لأن السبيل الوحيد للقضاء عليها هي أن نصنع بأيدينا هذه الشموع ونشعلها في وجهها البئيس. والنتيجة المنطقية للوضع الحالي هو أننا نعيش عدوانيتنا الفردية والجماعية بكل قوة، وهي عدوانية ناتجة عن اضطراباتنا الوجودية التي لا حصر لها وغرقنا في نرجسيتنا وانعدام نقد ذاتي عميق ومسؤول لذواتنا ولوضعنا. ويتمثل العائق الرئيسي في نمونا في اختزالنا للتغيير في البنية التحتية وحدها، أي الظروف المادية، وتجاهلنا لدور الثقافة كبنية فوقية ضرورية، لأن معوقاتنا الثقافية كثيرة وهي التي قد تساعدنا على وعي ذواتنا والفعل الجدي والمسؤول في مجتمعنا بإحداث ثقوب في نرجسيتنا الثقافية ووعي ذواتنا ككائنات من الضروري أن تتطور نحو الأحسن، عوض الإنتكاس أو التشبث الأعمى بثقافة واضعة نفسها في "جرة" وكل ما تقوم به هو إنتاج العدوانية لكي لا يكسر المرء هذه الجرة، لأننا نوهم أنفسنا بأنها تحتوي على سمن وعسل وماء مبارك، ولربما خمرة معتقة، في الوقت الذي انتهت صلاحية ما تحتوي عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا - مالي: علاقات على صفيح ساخن؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. المغرب - إسبانيا: لماذا أعيد فتح التحقيق في قضية بيغاسوس للت




.. قطر تؤكد بقاء حماس في الدوحة | #غرفة_الأخبار


.. إسرائيل تكثف القصف بعد 200 يوم من الحرب | #غرفة_الأخبار




.. العرب الأميركيون مستاؤون من إقرار مجلس النواب حزمة مساعدات ج