الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذا الكتاب : جروح في شجر النخيل

تيلي امين علي
كاتب ومحام

(Tely Ameen Ali)

2019 / 8 / 29
سيرة ذاتية



اعلنت اللجنة الدولية للصليب الاحمر، انها بصدد اصدار كتاب عن العنف في العراق ووجهت دعوة الى (15) كاتبا عراقيا للمساهمة في كتابة مشاهداتهم وتجاربهم الشخصية والتحدث عن معاناتهم في الفترة الماضية ، وكنت احد المدعويين . ورغم اني كثير القراءة للقصص والروايات ، الا اني لست كاتب قصة ، ولكن رغبت المشاركة بموضوع عن مشاهداتي وغرضي هو ان يعرف العالم ما حدث في كردستان، فكتبت هذه الحكاية ولك ان تسميها ( قصة او حكاية او تجربة او ما شئت .) ، وفي النتيجة صدر هذا الكتاب من اعداد واشراف السيدة ( ندى دوماني ) بعنوان ( جروح في شجر النخيل - قصص من واقع العراق ) وطبع في بيروت . تحدثت الصحافة العربية بشكل واسع عن الكتاب وقصصه ، واقتبست عدة صحف واسعة الانتشار قصص من الكتاب ومنها ( قصتي ) لنشرها على صفحاتها ومنها ( جريدة الجزيرة السعودية والقبس الكويتية ) . وتحدثت جريدة الحياة البيروتية عن الكتاب وحول قصتي كتبت تقول (( يدين تيلي أمين المواجهة المزيفة بين هويتين متصالحتين فردياً في"رحلة الى المجهول"التي تروي تشرد الأكراد الطويل في 1991، وتصرخ ضمناً:"انظروا ما فعله بنا ذلك الرجل". يهجر مليون كردي بيوتهم هرباً من النظام، فتضع أمهات مواليدهن على الطريق أثناء القصف، ويتوسلن من استطاع الحصول على خيمة القبول بالرضّع داخلها على أن يبقين هن في الخارج.في لحظة التباس الوطن والنظام يرمي الراوي الوثائق والشهادات الدراسية رفضاً لدولة تطارده حتى عبر الجبال، وهو في طريقه الى إيران فتركيا. يبقى العراق وطنه وإذ يعود يجده نهب للمرة الرابعة، واقتلعت أبوابه ونوافذه دلالة على فقده حرمته وتحوله مشاعاً )) . كما اشار الناشر الى الموضوع الذي كتبته في الغلاف الاخير للكتاب بقوله (( قصة عائلة في نزوح لا ينتهي ، وشعب باتت احلامه كوابيس ...)) .
قدم للكتاب ، الكاتب الشهير ( امين معلوف ) . وكتب مقدمة رائعة يقول فيها (( فبربّكم ، دعونا نسكت الاذاعات والشاشات المربعة ، دعونا ننسى ما سمعناه اليوم وامس وقبل امس ، دعونا نترك مشاغلنا لنجلس ساعتين ولحظة مع عراق الحياة ... لنجلس في خشوع مع كتّاب العراق ... نفتح الكتاب ، نقرأ، نصمت ، ثم نقرأ ونقرأ . نغلق الكتاب ، نتأمل طويلا ، ثم نفتحه من جديد ، نتصفحه ،نقرأ ونقرأ ونقرأ . نبتسم ونبكي . ثم نضمّه الى صدرنا ونصرخ : عار على زمن يدّعي النور وينشر في الارض الظلام ! عار على زمن يدعي الايمان ولا يزرع في القلوب الا الحقد والكفر ! ... عار على جيلنا اذا ترك الموت يخمد نبرات الحياة !)).
اذ انشر هنا قصتي لابد ان اشير ان الجنة الدولية للصليب الاحمر، اثناء طبع الكتاب ، حذفت ما يشير الى السلاح الكيمياوي والاتهامات وفقا لسياستها الحيادية والانسانية وعدم تدخلها في السياسة ، وقد ادرجتها هنا مجددا .

العنف في كردستان العراق
رحلة الى المجهول
تيلـي أميـن

يشير بعض الكتاب الى حكاية تقول ( أن عقربا طلب من ضفدعة أن تعبر به نهر دجلة ، قالت له الضفدعة ومن يضمن انك لا تلدغني ، أجابها العقرب إذا فعلت ذلك سأموت أنا أيضا غرقا ، حملت الضفدعة العقرب و عند منتصف النهر لدغها فصاحت فيه ويحك إلا تعرف سنموت نحن الاثنين ؟ قال لها العقرب ويحك أنت ألسنا من أهل العراق ؟!) . هذه الحكاية لا تعبر عن قيم العراقيين وحبهم للسلام والحياة ، وهي لا تناسب مع ما ورد في أسطورة الإنسان العراقي ( كلكامش) ورحلته في البحث عن الخلود .
مع ذلك شهد العراق حروبا ونزاعات دموية عنيفة ومرعبة ، عانى خلالها الإنسان العراقي كل أنواع العنف و انتهاكات فظيعة لمواثيق احترام حقوق الإنسان ..
في خضم هذا الصراع أصبح المجتمع العراقي كله هدفا للعمليات العسكرية . أنا ومثل غيري من المواطنين ، عشت حروبا كانت الأشد في الفتك بالبشر وشاهدت وسمعت عن حالات كثيرة من انتهاك الحريات وإلحاق الاهانة بكرامة الإنسان بما لا يتناسب ووضعه كانسان قبل كل شئ .
قد تكون قصتي مع هذه الأحداث غير مشوقة ، وهي لا تفصح إلا عن فصل من فصول تراجيديا العراق . سيمرّ وقت طويل حتى يعرف العالم ماذا جرى في العراق ، حتى يعي تماما ماذا كانت تعني عمليات الأنفال السيئة الصيت والآثار المترتبة على القصف بالأسلحة الكيمياوية .
الاحداث التي اسردها لن تكون إلا كصورتها على الواقع ، لن أضفي عليها طابع الخيال القصصي ، سأتجنب التفسير لان غرض هذا الكتاب هو التوثيق وحسب .
قصتي مع أحداث العنف تعود الى خريف عام 1961 عندما قصفت الطائرات قريتنا ، لقد شاءت الصدفة أن اشهد منظر الدم داخل بيت لطاعة الله لجأنا اليه ونحن نحتمي به لكن الطيار لم يرحمنا ولم يكترث لحرمة المسجد فقصفه وأصاب امرأتين داخله . بعد أيام شاهدت مع أخي الأصغر مني فيصل شرطيا مقتولا تحت شجرة حبة خضراء في اطراف قريتنا ، كان قد وضع منديله في صدغه الذي اخترقته الرصاصة القاتلة ،و كان أخوه الأسير ينوح فوقه . ثم رأيت بشرا كانوا بصحة البشر الآخرين قيل أنهم اعدموا بعد أن اخرجوا من قريتنا التي سجنوهم فيها لايام ، وسمعت صوت إطلاق النار عليهم . من تلك الأيام بدأت أعيش مع العنف الذي اخذ يتسع وتتسع معه دائرة ( الدم المباح ) وتزداد بؤر الموت والدمار ، تحديد الموضوع لا يسمح لي بسرد تلك الأحداث وما اطرحه هي الأحداث التي عشتها وكنت شاهدا عليها إثناء الهجرة المليونية دون أن أعود بذاكرتي الى مشاهد الدم والدمار وفصول العذاب التي لا زالت ترعبني بشاعتها منذ أيلول عام 1961.
أعود إلى الموضوع وأقول عندما بدأت حرب الخليج الثانية كانت كردستان تعاني من جروح عميقة ، زادت الجروح ألما الانفالات الشهيرة وحملات الإبادة الشاملة . كانت هناك آلاف القرى المدمرة وكان هناك ما يزيد عن 180 ألف مدني مجهول المصير يعتقد أنهم دفنوا في الصحراء العربية في قبور جماعية ، وكان يوجد مثل هذا العدد من أرامل وثكالى وأيتام .
كان التذمر قد بلغ أوجه ، وعندما وضعت الحرب أوزارها انفجر الشارع في عموم كردستان واندلعت انتفاضة آذار الشهيرة للتخلص من العبودية المذلة ، لكن بدا أن معاناة الكرد لا تنتهي الا بأكثر الفصول رعونة ورعبا . بدأ الفصل الجديد بقصف المدن وبكل الأسلحة المتيسرة ومنها سلاح الطيران والمدفعية والصواريخ والقاذفات الأنبوبية وجرى القصف بشكل عشوائي .
في مدينة دهوك حيث كنت أعيش مع عائلتي اشتد القصف وسقط ضحايا كثيرون ، ضحايا مدنيون لم يكن لهم علاقة بما جرى . كان واضحا أن هناك عملية انتقام من الأهالي ولان للسكان تجارب مع صور الانتقام فقد تملكتهم الخشية من إعادة استخدام الأسلحة الكيمياوية أو الوقوع بأيدي المهاجمين وسوقهم إلى المقابر الجماعية كما جرى في السابق عندما وقع آلاف القرويين في الأسر ، لم يشفع لهم إثباتاتهم أنهم لم يقاتلوا أو أنهم أطفال دون سن التمييز ، كان يكفي أن يحمل وثيقة الإدانة ( الهوية الكردستانية ) ! .
ليلة 30/ 31 من شهر آذار كنت باقيا في داري مع عائلتي ولم استطيع استغلال أية فرصة للخروج من الدار من شدة القصف وتواصله وكانت هناك معلومات عن وصول ارتال من الدبابات إلى الضاحية الغربية ، في الواقع كنا نسمع زمجرة الدبابات ونسمع ونرى إطلاق القذائف منها على البلدة من على سطح الدار ، وضعت أطفالي في السرداب بينما ترقبت فرصة لكي نتمكن من الخروج ،ولم يكن لدينا خيار آخر كان الهروب أو الخروج من الدار يعني إصابة محققة ، ظل الأمر كما كان عليه وكلما مرت ساعة تركز القصف أكثر واشتد أكثر. وعلى الغالب كان القصف يستهدف منزل الاخ ابراهيم علي الحاج ملو الذي تجمع فيه الكثير من المقاتلين والملاصق لداري ، وكان قد قاد الانتفاضة في دهوك بجدارة .
عند الساعة السابعة صباحا هدأ القصف المدفعي والصاروخي ولم نعد نسمع إلا لعلعة الرصاص وعرفنا أنها ساعة الخروج لان توقف القصف وبهذا الشكل يعني بدأ الهجوم البري على المدينة ووصول المهاجمين الى قلب المدينة خلال مدة لا تزيد عن ساعة .
قدت سيارتي وبداخلها أطفالي الأربعة ( آراس وكان عمره 14 سنة وريناس 12سنة وافراز8 سنوات وأصغرهم ريبين 6 سنوات) وأمهم وسرت بالسيارة و بأقصى ما استطيع من سرعة لان المهاجمون المشاة في الجبال الجنوبية كانوا يرشقوننا بالنار حتى عبرنا مضيق دهوك واخذ الجبل يفصلنا عنهم وعن النيران المباشرة . في الطريق كانت حركة السيارات بطيئة جدا ليس لأنها تحمل أكثر من طاقتها وحسب إنما لان الشارع كان مكتظا بالنازحين المشاة ، كان الشارع يشبه دبيب النمل في اكتظاظه وبطئه مع فارق أن الوجهة كانت باتجاه واحد . كان كل إنسان ، رجلا أو امرأة أو طفل يحمل متاعا ، بطانية على الأقل وبعض الزاد أو المؤن وكانت السماء ممطرة والبقاء في العراء مخاطرة كبيرة ، سيما وان القرى كانت مهدمة والمزارع محروقة وحتى العيون ومصادر المياه كانت قد سدّت فوهاتها بالخرسانة المسلحة ونسفت الآبار والكهوف بالمتفجرات إثناء حملات الأنفال الرعناء . كانت الحياة كلها في المناطق الريفية وكأنها في سبات ، كان نادرا أن ترى طائرا أو حيوانا بريا أو أثرا للحياة .
كان الكثير من الناس يفترشون جنبات الطريق ، منهم من كان يداوي مريضا أو جريحا ، و منهم من كان لا يقدر على حمل أطفاله ، ومنهم من كانت تضع مولودا ، ومنهم من كان ينتظر ولده أو أباه أو زوجه أو او ، وكان القصف المدفعي يلاحق هذا الجمع ، وفي كل ساعة كان يتساقط عدد من الضحايا ،وكانت صراخات الأطفال والرضع تتعالى من الثالوث المرعب ( الجوع والخوف والبرد ) . كان الخوف الهاجس الأكبر ، كان الكل يفكر في إمكانية أن يصبح هدفا للأسلحة الكيمياوية وان يستنشق الغاز السام في أية لحظة ، حتى الأطفال كانوا قد تعلموا أسماء الغازات ونوع الإصابة التي تسببها ، غاز يميت الإنسان وغاز يعميه وغاز يشّله وغاز يحرقه وغاز يفعل كل ذلك معا . على أن الاسم الشائع كان الكيمياوي .
بتنا ليلتنا الأولى في بيتنا في سوارة توكا أو بالأصح قسطا من الليل فهاجس الخوف من الكيمياوي ومن الوقوع في الأسر كان يطاردنا بانتظام . في الساعة الثانية صباحا أيقضنا الأطفال ووضعناهم في السيارات وسلكنا الطريق الشمالي باتجاه الجبال الحدودية . كان علينا أن ننجو بأنفسنا وأطفالنا وندع الوطن لمن يحرمنا فرصة العيش فيه بسلام .
لم يكن احد يعرف أين تنتهي به هذه الرحلة نحو المجهول . ما كان يعرفه الكل هو وجوب الابتعاد عن الطرقات الرئيسة والتحصن في الجبال ، واتقاء الشر العاصف بالبشر والأرض .
عبرنا العمادية عند ساعات الصباح . وصلنا مضيق بالندة ،كان الطريق يتفرق إلى فرعين ، فرع إلى الحدود الإيرانية وفرع إلى الحدود التركية ، كان أخي رشيد يتقدمنا بسيارته ، فوقف عند المفرق وقال لي وهو يضحك حتى في صلب المعاناة ، هذه المرة أي طريق نختار ؟ تركيا .. ايران ؟ في الحقيقة قبل عشر سنوات من تاريخ ذلك اليوم كنت وأخي رشيد وأطفالي اراس وريناس وأمهما في طريقنا إلى التشرد إلى إيران والتي قضينا فيها سنوات ثقال . ومررنا بهذه المناطق عينها . أخي فيصل كان قد سبقنا إليها . كان همي أن نصل بسرعة الى منطقة محصنة وان نتجنب الوقوع في الأسر وكانت الحدود التركية هي الأقرب فأشرت إلى الطريق الشمالي . تابع رشيد السير وتبعناه ، كان يرى إننا نمضي نحو المجهول فمن واجبه أن يكون في المقدمة ، هكذا عرفته دائما ، يضحي بما لديه من اجل الاخرين .
بدأت انظر إلى أطفالي وأطفال شقيقي فيصل ( شيان وكان عمره 4 سنوات وشه فين عمرها ثلاث سنوات و روز وعمره حينذاك 14 يوم ) وانظر الى أفراد أسرتي الآخرين ، تذكرت صورة مؤلمة لعائلات مثلنا كانت قبل ثلاثة أعوام تقاد إلى الموت في شاحنات عسكرية لمجرد أنها كانت تحمل هوية تلتصق بالإنسان منذ لحظة ولادته وكنا نحمل الهوية ذاتها ، كان الغائب عنا هو شقيقي علي والذي لم نكن نعرف عنه شيئا منذ أن اختفى من كلية الهندسة بجامعة الموصل وقيل انه التحق بقوات البيشمركة في محافظة السليمانية ، وكانت معارك جبهة كركوك عنيفة وشديدة ، كان أفراد عائلتي الآخرون كلهم بأمان حتى تلك اللحظة ، قلت مع نفسي ( إلى الجحيم وليس إلى سجن أبو غريب يا رشيد ) وتراءت لي صورة السجن المرعبة عندما كنت أزوره لألتقي بداخله أخي رشيد وابن عمي سالم محمد ، كان رشيد وسالم قد اعتقلوا عام 1976 وهم طلبة مدارس وذاقوا صنوف التعذيب كلها في أمن دهوك وفي تحقيقات المحكمة الخاصة في كركوك ، واعدم ثمانية من أصدقائهم وحسب نظام الأحكام بالقرعة ! . فبعد شهور من التعذيب كان الموقوفون يستدعون للوقوف في صف مرتب وكانت تقرأ عليهم الأحكام ( من اليمين أو من اليسار إلى الرقم الفلاني داخل إعدام ، من الرقم الفلاني إلى الرقم الفلاني داخل سجن مؤبد وأشغال شاقة ومن الرقم بعده إلى الرقم كذا سجن خمس عشرة عاما ، برئ لا يوجد وهكذا ) . في تلك السنة كنت اخدم العسكرية برتبة ( جندي شغل ) في كتائب الإنشاءات بعد أن تخرجت من كلية القانون بجامعة بغداد وبتفوق ، وبعد أن طرد الطلاب الكرد من كلية الضباط الاحتياط وتم تنسيبهم الى الأشغال العسكرية وكنت احدهم .
كنت ازور في السجن رشيد وسالم وصديقي الطفولة غني وحكمت و كانت الاهانات تمطر علينا نحن الزائرين وكنا نتلقى شتائم وسباب ما سمعنا بها من قبل .
في أحيان كثيرة لم أكن أجد رشيد في مكانه كان يسجن انفراديا ويمنع مواجهته ، كتب عنه السياسي الكردي داود باغستاني في مذكراته بعد أن عاش معه في السجن لفترة يقول ( رشيد كان من أنشط شباب الكرد في السجن وأكثرهم تحمسا لقضية شعبه ) .
عبرنا مضيق بالندة ووصلنا قرية ( جم جي ) وهي آخر قرية تربطها طريق ترابي للسيارات ، وعلى عادة الكرد كلما احتضنتنا الجبال أكثر كلما شعرنا بأمان أكثر ، نصبنا الخيم واعدت لنا النساء عشاءا من دجاجات أمي التي أخذناها معنا من ( سوارة توكا ) . نمنا تلك الليلة بشئ من الهدوء . في الصباح سألنا عن وجهتنا لم يكن احد يدري ، كل ما كان يتوجب هو السير باتجاه الشمال للابتعاد أكثر فالمعلومات تقول أن القوات المهاجمة تقترب ساعة بعد أخرى . الحدود التركية كانت على مسافة أربع ساعات وكنا نعتقد إننا سنعثر عندها على الأمان ومتطلبات الحياة. وارتكبنا خطئا كبيرا بتخلينا عن خيمنا المريحة وتركناها مع كثير من المؤن داخل السيارات . تبعنا الجموع في ممر جبلي ، وحسبنا أن رحلتنا لن تستغرق أكثر من يومين فلم نتحوط بالتزود بالمؤن . مع ذلك كان كل منا يحمل شيئا أو حملا ، كان أبي يحمل فأسا وداسا وحبلا وجهاز راديو يأبى التخلي عنه وبطانية ينام عليها ، أما افراز الذي ولد في كردستان إيران قبل ذلك التاريخ بثمان سنوات فكان يحمل دجاجات أمي المتبقية في حقيبة شدها على ظهره . كان هناك مرضى وحوامل وعجزة ومعوقون وأطفال يسيرون سير السلاحف وكان يتحتم السير ورائهم .
في اليوم الثاني عرفنا أن مسافة الأربع ساعات لا تناسب قياسات هذه المسيرة السلحفاتية ، فعاد رشيد وبختيار إلى المكان الذي تركنا فيه سياراتنا بحثا عن المؤن والخيم لكنهم لم يعثروا على أثر لها ،كان كل شئ قد اختفى !!
تضافرت الأحوال الجوية لتضاعف معاناة النازحين فقد أبت السماء إلا أن تمطر وبغزارة وكان الليل شديد البرودة ، كنا قد اخترنا خيمة صغيرة لا تتجاوز مساحتها ثمان أو عشر أمتار، كانت تصلح للسفرات الصيفية وحسب ، وكانت عائلتنا تتألف من عشرين فردا بما فيهم أبي الذي كان عمره يفوق الستين عاما والرضيع روز الذي لم يكن قد تجاوز الأسبوعين من عمره . كان علينا جميعا الاحتماء بهذه الخيمة . لم يكن بقية الحشد المشرد البالغ تعداده على هذا الطريق حوالي نصف مليون نسمة بحال أفضل من حالنا ، كانت لبعض العائلات خيمة من نوع ما ، البعض الأخر منها كان يحتمي بقطع النايلون أو اعبية النساء أو حتى قطع الكارتون والمقوى وما إلى ذلك ، الغالبية العظمى من العوائل كانت تحتمي من السماء بالسماء . كان مؤلما عندما يشتد البرد أو تشتد غزارة المطر أن ترى نساءا يحملن أطفالا رضع وهن يطفن على الخيم وقطع النايلون للبحث عن مكان لرضيعها وكانت كل الخيم تحشد بأهلها بل كان البعض يتناوب في الدخول إليها ، كم من مرة توسلت الأمهات لقبول ضيافة الرضيع بينما كانت هي تتكئ في الخارج على إطراف الخيمة للاطمئنان على فلذات أكبادهن ولتكون متأهبة للإرضاع كلما سمعت بكاء الطفل . هذا لا يعني أن كل الأطفال الرضع وجدوا لهم مأوى ، آلاف عديدة قضوا الليل والنهار في العراء أو في حفرة أو تحت جذع شجرة أو جوار صخرة أو في جوفها .
مع قساوة البرد اشتد الجوع بالناس ، لم يعد الحصول على لقمة واحدة أمرا هينا ، نفذ ما كان يحمله الحشد من مواد غذائية ، فالبعض من الناس لم يكن يتصور أن تطول رحلة العذاب ، البعض الأخر لم يكن قادرا على حمل المؤن والأطفال والأغطية معا .
بعد مسيرة أربعة أيام وخمس ليالي وصلت طلائع المشردين المعذبين إلى الحدود التركية عند قرية ( شيفا ره زا ) ، خال الجميع أن الأمور قد تهون وانه يمكن الوصول إلى الأسواق والحصول على المأوى والطعام ، لكن خاب ضننا ، أبلغت القوات الحدودية الحشد المشرف على الموت أن الأوامر تمنع الدخول إلى القرى وان علينا التوجه غربا وعلى خط الحدود باتجاه مدينة ( جه لى ـ جقورجا ) . كنت اعرف هذه المناطق الحدودية وكان يمكن لي أن اعبر بعائلتي من احد المنافذ الى داخل كردستان تركيا وان أتجنب نقاط الحدود لكن الوقت لم يسمح لنا بالتفكير، كنا قد أسلمنا زمامنا إلى القدر ومضينا . كان علينا إتباع هذا الحشد وتلقي المصير نفسه .
عند الحدود سألنا عن المسافة التي تفصلنا عن ( جقورجا ـ جه لى ) قالوا إنها لا تزيد عن ست ساعات . في الحقيقة لم يكن يخدعوننا كثيرا ، لكن هذا الحشد المرهق والجائع والذي يتبع خطوات الأطفال والمرضى والحوامل كانت قياساته مختلفة .
لم تكن عائلتنا تختلف كثيرا عن غيرها ، أم آراس كانت تحمل طفلتي ( خوشين ) في شهرها السادس وتحمل على ظهرها ملابس الأطفال وعدد من البطانيات ، والدتي وأختي فرمان كانت تحمل كل منهما حملا بكل معنى الكلمة . سلوى زوجة أخي فيصل كانت تحمل رضيعها وما يحتاج إليه من علب الحليب و أختي نجيبة كانت تحمل ( شه فين ) بالمناوبة مع أختي بيمان ، أما فيصل فكان يحمل حقائب ضخمة تحوي ملابس اطفاله تعجبت كيف انه قادر على حملها .
في الأيام الأولى ، كان الشباب والرجال يحملون آبائهم وأمهاتهم المرضى أو المسنين على ظهورهم ، وكان الزوج يحمل زوجته والآباء يحملون أولادهم المعاقين ، نادرا ما كنت أجد مسنا وحيدا على قارعة الطريق ، لكن بمرور الوقت وتفشي الأمراض بين الأطفال أصبح الوضع أكثر تعقيدا ، لقد تخلى العديد من النازحين عن القيم المعتادة ، أصبح البعض أمام حالة عليه أن يختار بين البقاء إلى جانب والده أو والدته المريضة وبين الاستمرار في تكملة الرحلة لإنقاذ أطفاله . أصبحت أرى عجزة ممدودين على الأرض لا يعرف المرء هم إحياء أم أموات، وكنت أرى مرضى يفتك بهم الجوع وتقسو عليهم الطبيعة ، لم يكن من المستطاع تفسير ما كان يجري .
كان اعتياديا أن تتوقف العائلة الواحدة لبرهة من الوقت لتدفن من مات منها ثم تواصل مسيرتها ، وكانت الحيوانات البرية تنتشل الجثث من هذه القبور ليلا . كان اليأس قد دب في النفوس ولم يكن الموت يرعب أحدا . كانت المعاناة كبيرة حين تجد إنسانا ينشد المساعدة وتعجز عنها .
عند السير على خط الحدود اختفى خطر الكيمياوي ، لكن مشكلة الجوع تفاقمت ، كما انخفضت درجات الحرارة . ما عدا معضلة الجوع برزت مشكلة الألغام التي أخذت تتفجر تحت أقدام الحشد وتسقط الضحايا ، كان الأرض وخط الحدود الذي نمضي عليه متعرجين إلى داخل العراق مرة وداخل تركيا مرة أخرى وكأنه ينبت ألغاما ، كانت تنفجر عندما تمشي وتنفجر عندما تجلس وعندما تتمدد وعندما تنام وعندما توقد نارا ، وتنفجر وأنت تحتطب خشبا أو تتقرب من عين ماء أو جدول ، وتنفجر عندما تتوضأ وحتى عندما يتدحرج حجر من تحت قدمك .
في اليوم العاشر من هذه الرحلة المرعبة وبعد صعود قمة جبل يبدو وكأنه ينطح السماء ، شعرت بوعكة ألمت بي ، لم يكن الوقت يسمح بالمرض لكني وجدت أن الحقيبة التي احملها ترهقني وكانت تضم أوراق ومستمسكات تخص عملي كمحام كما تحوي هويات الأحوال المدنية وشهادات الجنسية العراقية وبعض صور العائلة وشهادات الدراسة ومقالاتي الأولى المنشورة ، دحرجتها لتسقط في واد سحيق وقلت لنفسي ما جدوى التشبث بوثائق وجنسية دولة تطاردك حتى عبر هذه الجبال . وأصبحت أكثر قدرة على حمل ريبين والذي كان يشكو من السير وسط الجليد بحذاء صيفي شاء حظه أن يكون الحذاء الوحيد الذي أخذه معه . كنت أساوم ريبين على المسافة ، اطلب منه السير لعشرين مترا على أن احمله لمسافة عشرين مترا قادمة ... انها المعاناة نفسها ، هي هي تعود وتتكرر لكن ليس من تلقاء نفسها إنما من صنع أشرار .
عاد المشهد يرسم صورته في مخيلتي ، في يوم صادف تاريخه20 / تشرين الأول / 1981 كنت مع شقيقي رشيد وأطفالي الاثنين ( آراس ـ 4 أعوام و ريناس 3 أعوام ) وأمهما التي أبت أن أخوض هذه التجربة القاسية دون أن تشاركني فيها ، كنا على قمة جبل ( دالانبه ر) على المثلث الحدودي . كان قد مضى علينا اثنتي عشرة ساعة منذ أن تسلقنا هذا الجبل الأسطوري وكانت أمامنا ست ساعات أخرى للهبوط منه ، كانت المهر التي تقل ولديّ ( آراس وريناس ) قد أرهقتها المسيرة التي أمضتها معنا على خط الحدود ولم تكن لها رغبة في إتمام إحسانها في أخر أيام تلك الرحلة وأبت إلا الاضطجاع ، كانت عيناها تتوسل أن ندعها لحالها فتركنا الحيوان المسكين عند قبر ( زاهر ) وتابعنا مسيرتنا ، حمل رشيد الأمتعة ، أما آراس فقد حملته أمه على ظهرها وكان على أن أتكفل بريناس . كان يتحتم علينا الهبوط قبل أن تسرع الغيوم الى القمة وتحبس عنه الاوكسجين بفعل العواصف المعتادة واتي تهب من غير سابق إنذار ، كانت القمة جرداء لا نبت فيها ولا شجر وكانت الثلوج تغطيها للمواسم الأربعة تقريبا ، وكان ريناس يعيق حركتنا ويطلب طعاما لا يتوفر إلا في فنادق ذات خمس نجوم . اراس كان يلعن الدنيا وما فيها . كنت أؤشر إلى موقع قريب وأقول لريناس اذا أبلغته سأحملك إلى نقطة ابعد ، لم يكن يقتنع ، كان يقول تحملني في الأول ثم امضي إنا ، وكان محقا ، ليس بالأمر الهين أن تمضي بالأطفال في مثل هذه المناطق الوعرة . حل المساء وظهرت المصابيح الكهربائية وأضواء السيارات في سهل ( ميركفر ) ، أفرحت المصابيح الطفلين فقد أدركا أن ورائها عالما يشهد الحياة بعد أن سارا لأسابيع في مناطق معزولة ومهجورة ومحرمة على البشر العيش أو التواجد فيها . تشجّع الصغيران ومضينا بهم حتى هبطنا الجبل المخيف ووصلنا قرية ( كه جه له ) الكردية الايرانية التي استضافنا فيها أهاليها وأكرمونا كما هي عادة الكرام من أهلنا في كردستان إيران . نام الطفلان في أفرشة وتحت سقف لأول مرة منذ احد وعشرون يوما .
امضي ألان على نفس الخط الحدودي مع فارق أن الاتجاه يمضي بنا نحو الغرب هذه المرة ومع فارق إنني قد كبرت عشر سنوات ولم اعد قادرا على تحمل المشقة ذاتها .
بلغنا سفح الجبل عند قرية ( سه رى سيفى ) التركية ، بدأ الثلج ينهمر بغزارة ، خيمتنا التي أصابها التشقق في أكثر من جانب وحاصرتنا الثلوج داخلها ، في الأيام التي سبقت كنا نجمع الحطب ونشعل النار ونحتمي به في الليل . هذه المنطقة كانت جرداء لا تنمو فيها الأشجار لشدة برودتها ، افتقدنا النار وافتقدنا الطعام ونفذ زيت الفانوس ، أصابني بعض اليأس فشعرت بثقل المرض ، وأصبح وضع رضيع أخي فيصل ميؤوسا منه كنا نتوقع موته بين حين وآخر ، الحقيقة كنا نتوقع الموت للجميع ، قضينا ليلتنا في حالة لا أتذكرها، كنت وكأني في غيبوبة .
عند الصباح استعدت الوعي ، كان الثلج لا يزال ينهمر ووجدنا أنفسنا وكأننا داخل كهف محفور في جبل من الثلج ، كان جميعنا يرتجف من البرد ، والإنسان الجائع يشعر ببرد أقوى , قلت مع نفسي ( إذا كان عبادك لا يرحموننا ، ارحمنا أنت يا رب ) ورحمنا الله العزيز القدير .
أسرع إخواني إلى سياج إحدى البساتين في القرية واقتلعوا جزءا منه وأشعلوا نارا وخلت أن الأطفال يعانقون لهيبه ، وأغمض والدي عينه عن (خطيئة ) أشقائي فللضرورة أحكام .
عند الظهر تسلل أخي رشيد وأخي ماجد إلى إحدى القرى في الناحية الشمالية بأمل الحصول على طعام لان الأطفال لم يتناولوا شيئا منذ الليلة السابقة غير حساء خفيف كانت والدتي التي لا تعرف الراحة إلا عند العمل على راحة أولادها قد أعدته من حبات أرز التقطتها هي وأختي الصغرى سهيلة في الطريق وتخلفتا عنا لساعات في اليوم السابق بسبب ذلك . النزول الى القرى التركية كانت تعد مخاطرة شعرنا بقلق كبير وساورتنا أفكار مزعجة . بعد العشاء بقليل رأيناهم قادمين ، وفرحنا بهم وكبرت الفرحة عندما شاهدناهم يحملون رغائف كثيرة من خبز التنور وكمية من الأرز وعبوة تضم تفاحا وقنينة تحوي نصف لتر من النفط الأبيض كنا بأمس الحاجة إليه لإضاءة الفانوس وترقب وضع الرضيع تحسبا لكل الاحتمالات . أضأنا الفانوس، تفحصنا الطفل ، كان لا يزال يرزق على صدر أمه الذي افتقد الحليب

اعدّ رشيد وأختي فرمان حساء من الأرز واطعما الأطفال الذين تجمعوا حول الموقد . تناولنا الخبز وقضينا الليل نمسح الجليد والثلج عن خيمتنا ( السياحية ) !.
عند الصباح أرتنا الشمس وجهها الخجول ولم تقدر على إحمائنا ، قدم الينا احد الرجال من قرية تقع شمالا وهو يقود بغلين كان رشيد قد استأجرهما . نظرت الى الرجل وقلت للأولاد مازحا انه شقيق ( شفان ) ، فضحكوا كثيرا ، كان يشبهه تماما و( شفان به روه ر ) فنان كردستاني رائع جدا ، على انه كان علينا تصريف همومنا بين الحين والأخر ما دامت المعاناة تأبى أن تنصرف .
رفض الرجل الشهم أن يحدد الأجرة ، حملنا الأطفال وما تبقى لنا من أغطية وملابس وقصدنا مدينة ( جه لى ) ، كانت المسافة المتبقية قصيرة لكنها كانت أكثر خطورة من غيرها بالنسبة لكثافة الألغام ، ما عدا الألغام الأرضية كانت إعداد كبيرة منها تتدلى من أغصان الأشجار كأنها عناقيد الشر وحالما تهتز الشجرة بفعل حركة تنفجر شبكة مترابطة مع بعضها البعض .
عصر يوم 12 نيسان وصلنا المنطقة المعدة لإقامة معسكر اللاجئين جنوب مدينة (جقورجا ) ،كانت المنطقة تضم هضبة وواد داخل الأراضي العراقية ولا تخلو من شبكات الألغام الكثيفة ، اخترنا الهضبة لان الوادي كان خانقا جدا . كنا نتوقع لجنة استقبال أو ما شابه وان يتم تزويدنا بالخيم والمؤن الغذائية والأدوية الضرورية في الحال .
كانت الحكومة التركية قد بذلت بعض جهودها لاستقبال اللاجئين لكن حجم النازحين وحجم معاناتهم جعلها غير قادرة على تنظيم أمورهم أو تامين احتياجاتهم الإنسانية ، وكان سكان كردستان تركيا قد هيئوا مساعدات يصعب توزيعها ، كان يجري نهبها ، أراد البعض الاستئثار بكل شئ ، كانت العواطف الإنسانية قد تراجعت أمام شبح الجوع .
كانت حالتنا سيئة بل على أسوء ما تكون ، كان التعب والإرهاق والبرد والخوف على حياة الأطفال قد سلبنا قدرتنا على الجري وراء احتياجاتنا ، بقينا نطعم الأطفال حساء الأرز لعدة أيام ، حساء من غير زيت أو ملح ، لقد طاف ( افراز ) على أكثر من عشرين عائلة بجوارنا يطلب ملعقة زيت وعاد بها فارغة ، ربما كانت تلك العائلات تعاني ما نعاني منه ، ربما حالتها كانت أسوء . في الأخير وبعد اليوم الثالث أو الرابع من وصولنا رجع ماجد الينا عصرا وهو يحمل خيمة نصبناها على الفور كانت بمثابة حبل النجاة . في اليوم التالي تعقب الأولاد الطائرات وحصلوا على بعض الأغذية وعلبة جبن فرنسي . رشيد كسر الطوق ونجح في الوصول الى المخبز وشراء قطع من الصمون .
كانت طائرات الشحن لدول التحالف تقوم بمهمات إنسانية رائعة ، فأنزلت ألاف الأطنان من المعلبات والخيم وقطع النايلون وقناني المياه والملابس والأغطية ومن ثم المواد الغذائية ، وما كاد يمر أسبوع حتى اختفت المجاعة بفضل هذه العملية التي كانت تجري بانتظام .
بذل أهالي ( جه لى ) مشقة كبيرة في إيصال التبرعات وتشغيل الأفران ودفن الموتى فقد بدأت الإمراض تتفشى بشكل مرعب ، وكان النازحون يمضون بموتاهم إلى مساجد المدينة فيتكفل أهلها بتجهيزهم ودفنهم . وازدادت حوادث الموت بشكل كبير لاسيما بين الأطفال والمسنين فقد تلوث جدول المياه الذي كان يغذي المعسكر بسبب استخدامه من قبل أكثر من نصف مليون نسمة ولكافة الإغراض . الأقدار بيد الله لكني اعتقد أن ما ابقي أطفالي وأطفال فيصل معافين هو إصرار أخواتي على الصعود للجبل لمرات عديدة في اليوم الواحد لإحضار الماء من النبع . كانت أختي نجيبة هي الأكثر حيوية رغم انها أصابت بعد ذلك وربما بسبب الماء الملوث الى مرض عجز الكليتين استدعى استئصالهما وهي تعيش ألان على كلية بديلة تبرعت بها أختي سهيلة الاصغر منها . كما كان اغلب الناس لا يأبهون كثيرا بقناني المياه التي تسقطها الطائرات بمظلات جوية ضخمة ويفضلون مواد أخرى فتجمع لدينا عدد كبير من هذه القناني ، كما تجمع لدينا عدد من صناديق المعلبات التي أصبحت غير مرغوبة وكانت لدينا عبوات من الحلويات أيضا ، كان والدي يتجنب المعلبات وخاصة اللحوم المعلبة لاعتقاداته الدينية ويعتمد على الحلويات ، كان يأكل منها الكثير وكنت قلقا عليه رغم أن صحته كانت جيدة جدا وكان نشطا وحيويا يستيقظ في كل صباح مبكرا ويقصد الجبل ويأتينا بالحطب لإشعال النار ، في الحقيقة كان مولعا بأمرين ، معاونة الناس والتعاطف معهم وإيقاد النار . كان يقص الأقاصيص للأطفال ويحكي لهم حكايات وكان الأطفال من حوله يستلقون على ظهورهم من شدة الضحك وكان يضحك معهم ويستمتع بهم كثيرا . في إحدى المرات رجوته التقليل من الحلويات ، كنت أخشى أن يصيب بالسكري أو ما شابه ، أجابني ولماذا القلق ؟ لا تخف علىّ ، في شبابي راهنت صديقا على أكل كمية من التمر وربحت الرهان . كان متفائلا ، عزيز النفس واثقا من نفسه دائما ، لم يطعم أولاده أبدا إلا مما حصل عليه من مال حلال بعرق جبينه . لم تفته معركة واحدة في منطقة سبنه وجبل متين الا وشارك فيها بسلاحه وعتاده ، كان مغرما بالكوردايتى منذ شبابه ، وحكم عليه بالاعدام مع عدد من شباب قريتنا من قبل المحكمة العرفية في كركوك عام 1945واودعوا السجن هناك وعمره لايتجاوز العشرون عاما بتهمة المشاركة في ثورة بارزان لعام 1943 ، ثم شملوا بعفو عام بتوسط الفريق عمر علي التركماني والذي كان على علاقة طيبة مع خاله ابراهيم اغا كورماركي ، وكان ابنه (ممى ) من ضمن المعتقلين ايضا. رحمهم الله .
ذات مساء وجدت الطفلين ( افراز وريبين ) راكضين بقوة عائدين الى الخيمة من تل قريب ، ضننت أن بشرا أو حيوانا يطاردهما ، كان افراز يضحك بقوة يفرك يديه ويتمايل من شدة الضحك ، أما ريبين فقد كان يبتسم وحسب لقد مرّ وقت حتى سيطر افراز على ضحكته وحدثنا عمّا جرى قال أن ريبين حمل لغما لم يكن يعرفه كان من ذوات الشيش !! وظهر أن ريبين كان يلعب به الى أن انتبه له افراز فصرخ فيه أن يرميه ، ولما رميا اللغم لم يشعرا بالأمان فهرولا نحو الخيمة يسابقان الريح . وحمدت الله .
لم اذهب الى المدينة مطلقا كنت اسمع عن الاهانات التي يتلقاها الزائرون اليها ، لم اذهب حتى عندما عرفت أن ابن عمي سالم قد مرض ودخل المستشفى ، لم أكن أتصور أبدا أن يكون مرضه بتلك الشدة ، كان قد فقد أكثر من نصف وزنه خلال أسبوع واحد .
مرة واحدة أردت الذهاب إلى المدينة ومراجعة المستشفى لمعالجة سن لريبين كان يؤلمه بشكل فظيع ، كان يرتجف من الألم وحسبت انه البرد ، لكنه وضع يده على صورة خده وقال ( آه ليته كان البرد ولم يكن هذا الألم يا الهي ) أخذته في الطريق إلى المدينة ولما أشرفت عليها شاهدت حركة غير عادية ، الأطفال كانوا يغدون ويروحون ، لقد عرفت أن شهر رمضان قد انقضى وانه اليوم الأول من عيد الفطر !! وان المستشفيات تكون معطلة جلست لإلهاء ريبين بالنظر الى المدينة وحركة الأطفال فيها ، تبعتني والدتي وجلست معنا ، قال ريبين كم هم سعداء يا أبي ، كلهم يملكون منازلا ، أجابته والدتي وكان لك منزل يا بني وبكت بحرقة وحسرة لحال الطفل .
كان الناس في الأيام الأولى يتقاتلون للاستحواذ على محتويات الشحنات التي تسقطها الطائرات ، وبعد حوالي أسبوع من إقامتنا حصلت على صحيفة معدنية وبعض قطع الصابون فأردت أن أأخذ ريبين وافراز الى الجدول للاستحمام ، وضعت الصحيفة على الموقد وبدأت اغتسل واغسل الطفلين ، وكنا قد وضعنا ملابسنا بالقرب من الموقد ، أتت الطائرات وأسقطت الصناديق ، اقتربت إحدى المظلات منا بشكل مثير وشكل خطرا مؤكدا ، سحبت الطفلين من أيديهما وهربت بهما في اتجاه معاكس ، كانا عاريين وانأ التف بقطعة خاولي ، سقطت الشحنة التي تقدر بالأطنان على موقد النار مباشرة ، تجمع الناس حول الشحنة وفي لمحة البصر كسروا أقفالها وكان كل يريد الاستئثار بحصة ، بكت إحدى الفتيات ودعت الجمع إلى التفرق قائلة أن والدها وقع تحت الصندوق ، ما أن فسح لها المجال للتقرب حتى تناولت علبة وهربت بها ، كانت حيلة ذكية للوصول إلى بغيتها ، اختفت محتويات الصندوق واختفت ملابسنا ، ظن ( المهاجمون ) أنها من محتويات الشحنة الجوية ، حاولت إرجاعها لكن الحشد ظن انها حيلة أخرى مثل حيلة الفتاة .
استغرقت رحلة العذاب شهرين ، عدنا إلى منازلنا وكانت لكل عائلة نصيبها من فقدان قريب أو عزيز، إنا فقدت عمي إبراهيم توفى ودفن هناك .
عدنا الى منازلنا وتفاجئت أن الخيمة التي كنت اسكنها في ( جه لى ) كانت تحوي لوازم بيتية أكثر مما يحتويه منزلي ، كان قد تم نهبه بالكامل واقتلعت الأبواب والشبابيك ، اما سياراتنا فكانت ان تحولت الى خردة .
كان حظي اسعد من حظ بعض السكان الذين تم نسف دورهم . (الفاتحون) عندما دخلوا المدينة ولم يجدوا فيها غير بعض الشيوخ والعجائز انتقمو.ا على طريقتهم بنهب المدينة والأسواق وتفجيرها بالديناميت .
مسلسل العنف لازال جاريا في العراق على قدم وساق ، الكل يأمل أن ينقطع وان تعود الحياة الى طبيعتها وان ينعم الجميع بالأمن والسلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف مستمر على مناطق عدة في قطاع غزة وسط تلويح إسرائيلي بعملي


.. عقب نشر القسام فيديو لمحتجز إسرائيلي.. غضب ومظاهرات أمام منز




.. الخارجية الأمريكية: اطلعنا على التقارير بشأن اكتشاف مقبرة جم


.. مكافأة قدرها 10 ملايين دولار عرضتها واشنطن على رأس 4 هاكرز إ




.. لمنع وقوع -حوادث مأساوية-.. ولاية أميركية تقرّ تسليح المعلمي