الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول دور البروليتاريا المنحدرة من الريف في ثقافة المدن. -2 - الاخلاق والتقاليد

فلاح علوان

2019 / 8 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


-2- الاخلاق والتقاليد
ان الأفكار والأخلاق السائدة في المجتمع هي أفكار الطبقة السائدة①، ولكنها ليست مصنفة بصورة مباشرة على أساس فئات ذات مصالح بعينها. إن الأخلاق لا تنبت مباشرة من مصالح اقتصادية، بل تمر أثناء صيرورتها عبر طريق معقد اعتماداً على الطريقة التي تدار بها الحياة اليومية، أي المعيشة وفي إطارالبناء الفوقي، وعبر صراع اجتماعي، تخوضه الطبقات الخاضعة مع الطبقات المسيطرة حول متطلبات الحياة نفسها. وبالتالي فالأخلاق تحمل نفس تناقضات المصالح المادية للمجتمع الطبقي ونفس تنوعه وتباينه.
إن صعوبة اختبار طبقية الاخلاق بصورة مباشرة، وخاصة في المجتمعات الريفية والتي تتداخل فيها المراتب الاجتماعية مع الطبقات، تأتي من هنا، أي من ارتباطاتها المعقدة بتفاصيل ومسارات الحياة الداخلية، والروابط والأطر الاجتماعية والقيمية لمجتمع بسبيل الانحلال من جانب، وبسبيل التكريس السياسي من جانب آخر②. وهي تتحقق عبر عشرات الدرجات الانتقالية، والمؤقتة والعابرة والمشتقات الحاملة للماضي كشكل أو إطار شكلي يتطلبه البناء العام.
وحيث أن التمايز الطبقي في الريف لم ينشأ بفعل التطور الداخلي، بل جرى عبر تدخل إمبريالي قوض الشكل القديم للانتاج، وفرض شكل الانتاج لأجل التبادل في السوق العالمي، فان الاخلاق الناشئة على أسس شبه مشاعية قديمة، قد اصطدمت بالنمط الاخلاقي للمشايخ والمتطابق مع موقعهم الاجتماعي الجديد.③
ان الدور الشخصي للمشايخ④ في الهيمنة والاستحواذ، يمنح الصفات الشخصية موقعاً أكثر تأثيراً في النظرة العامة للعوامل التي تتحكم بالتمايز بين الناس وخلق التباين الطبقي. وحيث لم تكن ثمة ملكية خاصة بالمعنى الحقوقي أو القانوني المعروف، كانت الحيازة تعتمد على الغزو والسيطرة والعنف، وهذا العامل يلعب دوراً فعالاً في تشكل عقلية الناس.
ان كون السيطرة على وسائل المعيشة في الريف، يجري تحقيقها بوسائل الاكراه الشخصي أكثر مما يجري عبر الوسائل الاقتصادية، راجع الى عدم تبلور أطار حقوقي محدد للملكية وجهاز ينظم علاقات الملكية الخاصة. هذا الواقع ينعكس في أفكار الناس وعقليتهم السياسية بصورة عميقة. ان هذا النمط من السلوك هو مرآة للنزعة العامة للتسلط وتحقيق المكانة، وهي تعكس اسلوب الصراع حول الثروة والمكانة في المجتمع الذي نحن بصدده.
لم يطور الفلاحون أيديولوجيا فلاحية، اذا جاز القول، خاصة وان الفلاحين من الناحية الطبقية ينتمون الى البرجوازية الصغيرة*، ونفسية المالك الصغير مهيمنة ومكينة جداً في فكر الفلاح. ولكن الفلاح المالك الصغير في العراق، خلال عهد شبه الاقطاع العشائري، كان استثناءاً⑤، ويكاد يقتصر وجوده في المناطق التي يسودها نمط المغارسة، أي زراعة الاشجار الدائمية كالنخيل والفواكه. أما الفلاحون في اقطاعيات زراعة الحبوب فهم منزوعو الملكية تماماً، ويكاد نصيبهم من المنتوج أن لا يؤمن معيشة دون الكفاف بكثير.
وهكذا تسود أخلاق وأفكار المشيخة في الريف، كونها هي الفئة المسيطرة والمالكة، وهي ممثل الطبقة السائدة. ويتمثل الفلاح هذه الاخلاق، رغم خضوعه واستعباده. وتتمثل هذه الايديولوجيا في مجتمع الريف في سنن وتقاليد العشيرة. وإذا كانت الأخلاق السائدة هي أخلاق الطبقة السائدة وأفكارها، فكيف يتحقق هذا في نموذج العشيرة التي يتشارك أفرادها في الحفاظ عليها كمنظومة تعتمد أسمياً على رابطة الدم، ويجري خضوعهم لها؟ ان هذه التقاليد والبنى الأخلاقية الناجمة عن هذا التناقض العميق، لا بد وأن تكون معقدة ومتناقضة، وتساهم في تشكيل شخصية مغتربة.
ان مجتمع العشيرة في العراق بمعنى ما وبدرجة ما هو مشاعية من الناحية الشكلية، ولكنها مرتبطة بالنظام الامبريالي وخاضعة له. وان وجود المشاعة في الارض والماء والمراعي، قبل استملاك الشيوخ، هي واقع وان كانت الأرض من الناحية القانونية مملوكة للدولة⑥. وهذا الشكل من العشائرية يتطلب من الأفراد المنضمين تحت لوائه التضحية، الثأر، المعاشرة، العون، رغم ان الاستغلال الذي يتعرضون له، لم يكن يقارن بأي مستوى استغلالي آخر، ويتطلب كذلك انتزاع عملهم شبه المجاني من قبل الشيوخ ليتم دمجه بالسوق العالمية⑦.
إن أخلاق المشيخة هي التعبير المركز والمكثف عن قيم "العشيرة" وهي أخلاق القطب السائد في العشيرة، بما فيها من استعلاء وعجرفة واستصغار وذكورية وتمييز، وهي مطاعة ويجري تمثلها من قبل الفقراء والمعدمين الذين لا يبدو، من الناحية الشكلية انهم يخضعون لكيان استغلالي منفصل عنهم، قدر كونهم شبه أُجراء ضمن كيان مشترك واحد هو العشيرة. ومن يعارض أو يخالف هذه القيم لايعود في عداد أفراد القبيلة أو رجالها، وينبذ ويعزل وينظر اليه بدونية. ان تعقد الأخلاق والروابط يجد تفسيره في العلاقة المعقدة بين المصالح المادية والمشاعة الظاهرية، وإن الفلاح كان يواجه الشيخ كونه متحكماً في اطار العشيرة لا مالكاً معزولاً.
هكذا تتبلور الجبلة الاخلاقية النفسية للفلاح المعدم من مزيج عناصر متباينة ومتعارضة، وتصبح اطاراً عاماً للاخلاق، وتصبح متشربة من قبل الأفراد وبهم تضمن دوامها وإستمرارها، إنها نتاج لعملية الحياة والصراعات الداخلية والصراع مع الخارج ومع الطبيعة. ورغم إنها لا تعبر عن ذات الانسان بصورة ارادة وحرية، بل انها تتضمن وتستبطن إغترابه وخضوعه وهامشيته، وتكتسب معنى اجتماعياً عاماً لحد جعلها مبررة ومعقولة، بالرغم من غرابتها وتعارضها مع روح الانسان.
إن رسوخ هذه التقاليد والقيم المتقادم والمزمن نسبياً يوحي بأنها خالدة أزلية، مولودة خارج تاريخ الناس المعاصرين وستدوم بعدهم. إن صوفيتها وصنميتها دفعت باتجاه خلق وهم اعتبارها جزءاَ من العرق، أو متداخلة مع العرق⑧. ورغم عمومية الظاهرة الا انها تتضمن تنوعاً يخص كل موقع اجتماعي بدرجة معينة.
ان الأدوار المتبادلة بين تأثير البنى السياسية على البنى الاجتماعية والثقافية، ودور الثقافة والتقاليد في ترسيخ أنماط من" الادارة" الاجتماعية أو الهيمنة الاجتماعية، سيتخطى بعيداً موضوع نقاشنا الحالي المتعلق بمدينة بعينها، وسيمثل الاطر العامة للفكر والتأثيرات المتبادلة والتي لا تقتصرعلى مجتمع بالذات. وسنشير إشارات الى هذه المسائل، لأن بحثها وتحليلها يتطلب دراسات مستقلة موسعة.
ان الاستعلاء والقسوة والشدة والعجرفة في تعامل الشيخ مع الفلاحين، ليست مسألة شطط أخلاقي رغم انها تدور في نطاق الاخلاق من حيث المظهر، ان أساسها الموضوعي هو ان السيطرة على وسائل العمل والمعيشة التي ترتكز على استملاك الارض والماء والصيد، تتطلب ما يطابقها من الناحية الاخلاقية والفكرية، والذي يجري التعبير عنه في سلوكيات الشيوخ وحواشيهم، والذي يبدو تفرداً وخصوصية واستعلاء.
ان ما يبدو غموضاً في السلوك، هو انعكاس للحاجة الى الخصوصية أو إختلاق الخصوصية كمنطلق لخلق تمايز، ويكرس كوسيلة للتباين الاجتماعي، وتعد القواعد الاخلاقية أساسات لترسيخ المراكز والمواقع السلطوية.
في مجرى الحياة اليومية، يتطلع قسم من الفلاحين، الوسطيين في الغالب، الى البروز والصعود، وهم يبدأون بانتحال سلوك ونمط الشيوخ، كمدخل للتمايز عن سائر الفلاحين. إن أبرز ما يميز أخلاق المشيخة وحواشيها، هي النزعة المبالغ فيها الى التفرد باسلوب حواري وشخصي والتمايز عن الاخرين، على اعتبار ان هذا التفرد يمثل شخصاً من موقع أعلى. وفي الفئات الانتقالية والوسطية والفئات المستعدة للاجرام والعدوان، والتي تقابل حثالة البروليتاريا في مفاهيمنا المعاصرة، يتجسد الميل لتقمص هذه النزعة الاستعلائية المتشبهة بالمشايخ، كمدخل للتمايز وبناء خصوصية اجتماعية، وإذا ما قربنا هذا السلوك الى لغة السياسة والاجتماع، فهو يشبه تأمين أيديولوجيا فجة لمصلحة مادية مستقبلية.
ان الغموض في التعابير واللغة المواربة والملغزة، والسلوك الذي لا يبدو تعبيراً مباشراً وواضحاً عن الحياة والذات، وثقافة عدم الوضوح أو الاستقامة في المحاورة، والتورية والتعمية والالتواء في الحوار. هذه كلها سمات تكاد تكون غالبة في حوارات المصالح التي تجري اثناء الخلافات بخاصة، وهي لا تشكل ترفاً أو خروجاً عن المألوف، قدر كونها ناجمة عن قوالب ثقافية نشأت خلال تداخل وتعايش وتصارع الانماط الاخلاقية ذات المصالح المتعارضة.
ان تكريس السرية هي ثقافة السائد، أو صاحب المصلحة في التفرد واكتساب الخصوصية، ويجري تقمصها من قبل العامة، مما يزيد في رسوخها وعموميتها، فتصبح سلاحاً بيد المسيطرين أو الشيوخ.
ومن الوسائل التي يسلكها المتطلعون للتسلط والتشبه بالمشايخ والمسيطرين، هو السلوك التهكمي، الذي يصنف نفسياً على انه شكل من العدائية او العدوانية، التي تستهدف النيل من المقابل لغرض تحقيق نفوذ نفسي واستعلاء. وحيث انه لا يمكن ممارسة السخرية بطلاقة واقتدار الا على الناس الادنى موقعاً، أو على انسان مهظوم أو غير عدواني أو غير ذي خبرة في مواجهة هذا السلوك. فان هذا يعكس بوضوح الجانب الدنئ للسلوك الساخر العدواني، كونه يستقوي دائماً بما هو سائد من قيم، ويكون هدف السخرية عادة الشخص الذي لا يطابق سلوكه ما هو سائد، أو من لا يؤدي متطلبات القيم السائدة.
إن التهرب من المباشرة والحوار الواضح المباشر وتبادل الحجج، هو تهرب من طريق يوصل الى المنطق والى الحقيقة، وهذا ما يتعارض مع توجه الفئات التي يشكل خلق الخصوصية والتمايز عن الاخرين هاجسها. وحيث انه ليس ثمة بعد، وسائل مادية أو امكانيات فصل بين الفئات الاجتماعية على أساس تطور طبقي، فأن هذه الفئات تنزع الى نيل موقع أو نيل مكاسب عبر السيطرة والهيمنة على موضوع أو هدف عادة ما يكون ذا صبغة رمزية. وتبدو أحياناً ثمة نزاعات بدون هدف مباشر أو واضح، ولكنها في الحقيقة تخفي محاولة للنيل والبروز.
ورغم ان هذه الممارسات تبدو هامشية وغير محورية، الا انها تتضمن كل خلاصة الروح الثقافية العدوانية وروح الهيمنة، وهي وجه من أوجه المجتمع الاستبدادي التسلطي، الذي يمحو ذات الفرد مقابل تكريس ذات العشيرة والجماعة، والقائمة على الهيمنة على الادنى والخضوع المشين للاعلى.
إن خاصية التمركز والتركز بيد الاقلية بمقدار ما تنطبق على الثروات والرساميل، فانها تنطبق كذلك على الوسائل المادية والقدرات التي تتجسم بصورة إمكانات معنوية. وكل حصيلة البناء الاخلاقي والقيمي والفكري والسياسي تتركز بيد الطبقات المسيطرة، مثلما تتركز بايديهم الثروات. ويحصل هذا عبر عملية صراع وتنافس واحتيال ومساومات ونزاعات، وتعتبر مخالفة هذا الشكل القيمي مواجهة مناهضة للنمط السائد، مهما بلغت رمزية المخالفة وبعدها عن المصالح المادية المباشرة.
ان الاستقواء ببناء تسلطي قائم وراسخ، يمنع تطور الفردانية والذات الفعلية، ويطمس الشخصية الحقيقية والميول الحقيقية لصالح القيم السائدة واسترضائها، ويتضمن في داخله نواة وأساس قيام أخلاق وقيم انتهازية ووصولية، وخاصة بين الناس الوسطيين والمتطلعين للبروز. وتشتد خطورتها كونها تقع بالسليقة وكجزء من الاخلاق والعادات اليومية التي نشأ عليها الناس، وحين تصبح محاولة تقوية للمكانة الشخصية على حساب الاخرين، دون وجود موضوع خارجي محدد للتنافس تبرز من خلاله القدرات والفروق الشخصية.
ان مفتاح التعرف على مضمون هذه الظاهرة، أي الاستعلاء على الناس الاقل شأناً من قبل الوسطيين، والخضوع الشديد لمن هو أعلى في نفس الوقت، هو السعي لأستكمال مكانة شخصية، كوسيلة لتحقيق موقع اجتماعي، وبالتالي نصيب من الثروة. ويتأتى تكامل هذه الخصائص عن طريق سلب البعض حق تساويهم مع الآخرين من الناحية الاخلاقية والمكانة الشخصية.
ان هذه النزعة واسعة الانتشار، وتبرز مع أول فرصة تتاح لها، وهي السمة التي ستتطور على أيدي البرجوازية الصغيرة اللاحقة وحثالة البروليتاريا، لتصبح منطلق الانخراط مع المؤسسات الفاشية بغرض تحقيق موقع اجتماعي يتيح التسلط على الاخرين.
ان دوام الاشكال الايديولوجية التي تنتمي لمراحل أصبحت من الناحية الاقتصادية والسياسية من الماضي، وتفعيلها المقصود، يخفي وراءه أهداف ومصالح طبقية وسياسية. وهذه الايديولوجيا البدائية المستمدة من التقاليد، والتي تبدو جزءاً من واقع الحال، هي من أخطر الاشكال الايديولوجية بيد الطبقات المسيطرة.
__________
1- وردت هذه المقولة في العديد من الادبيات،. “والأخلاق السّائدة في عهد من العهود ليست سوى أخلاق الطّبقة السّائدة” لينين. الى الشباب. وكذلك في كتاب “الماركسية الغربية وما بعدها”.. تأليف مجموعة مؤلفين. منشورات الرابطة العربية الاكاديمية للفلسفة. 2014 ص ص 51. كما وردت في العديد من كتابات ماركس وانجلز.
2- د. مسعود ضاهر. المشرق العربي المعاصر من البداوة الى الدولة الحديثة. معهد الانماء العربي. بيروت 1986. ص ص 71.
3- طلائع الثورة العراقية. محمد سلمان حسن. ص 11. الطبعة الثانية. مطبعة العاني. بغداد.
4- كارل ماركس .رأس المال. الكتاب الثالث. ترجمة فالح عبد الجبار. دار الفارابي. بيروت ص981.
*- كارل ماركس. الثامن عشر من برومير لويس بونابرت. مختارات في اربعة أجزاء. الجزء الاول.دار التقدم. موسكو 1968. ص 284.
5- حنا بطاطو. الشيخ والفلاح في العراق 1917- 1958. ترجمة د. صادق عبد علي طريخم. ط1 بغداد 2018.
6- عزيز السباهي. مواقف من المسألة الزراعية في العراق. الطبعة الاولى. دار الرواد. بغداد. 2010 ص69.
7- محمد توفيق حسن. نهاية الاقطاع في العراق. دار العلم للملايين. بيروت. 1958. ص23.
8- غوستاف لوبون. سيكولوجية الجماهير. الطبعة السابعة. دار الساقي. بيروت.2016. ص 55.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله ينتقم لمقتل 3 من قادته وإسرائيل تحشد ألوية عسكرية ع


.. التصعيد الإسرائيلي الإيراني يسحب اهتمام الغرب من حرب غزة




.. الأردن يؤكد أن اعتراضه للمقذوفات الإيرانية دفاعا عن سيادته و


.. رئيس وزراء قطر: محادثات وقف إطلاق نار بغزة تمر بمرحلة حساسة




.. تساؤلات حول أهلية -المنظومة الإسرائيلية الحالية- في اتخاذ قر