الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة كأسلوب حياة[1]: الحياة المفحوصة

إبراهيم جركس

2019 / 8 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة كأسلوب حياة[1]: الحياة المفحوصة
========================
قليلاً جداً مانسمع الحديث التالي يدور بين الأصدقاء أو الأزواج أو الأقارب:
الشخص: مرحباً ياصاح، ما الذي تنوي فعله اليوم؟
الصديق: ما رأيك بأن نتعاطى بعض الفلسفة اليوم!
الشخص: يبدو أمراً ممتعاً.
الصديق: هيا لندعو بعض الأصدقاء.
حسناً، لنواجه الأمر. طوال المئة أو المئتي سنة الماضية لم تكن الفلسفة موضوعاً جذّاباً في ثقافتنا. ولكن أرجو أن يتغيّر هذا الواقع. لأن هذه الممارسة الأعمق والأكثر إثارة والأكثر ممارسةً من قبل عقل أي إنسان مهما كان بسيطاً قد تمّ إساءة فهمها بما يكفي.
ربما لم يكن هناك أي نشاط تمّت إساءة فهمه والتعامل معه أكثر من الفلسفة. لقد لخّص المؤرخ الأمريكي هنري آدامز مجمل تاريخ الفلسفة على أنه مجرد ((إجابات غير مفهومة للمشاكل العالقة)). وإذا رجعنا بالزمن إلى القرن السادس عشر نرى أنّ المفكر و"الفيلسوف" الفرنسي ميشيل دي مونتين أعلن أنّ "الفلسفة هي الشك". بالتأكيد مَنْ مِنّا يحبّ الشك؟ الشك أمرٌ غير مريح أبداً. وقد يكون الشكّ مخيفاً.
أمّا |الفيلسوف| الألماني الجامح فريدريك نيتشه مضى خطوة لأبعد من ذلك ليُشَبّه الفلسفة ((بالعبوة الناسفة، في حضورها يكون كل شيء في خطر)).
كم بتنا نسمع من النكات والطرائف التي تستخف بالفلسفة وتقلل من قيمتها وأهميتها. ففي الأزمنة القديمة، أعلن المفكر وروجل الدولة الروماني الشهيرشيشرون: ((لايوجد شيء عبثي أة سخيف لم يقله فيلسوف)). طبعاً هو نفسه كان فيلسوفاً.
# الفلاسفة مجانين!... غريبي الأطوار!... كئيبين!... سوداويين! وأحياناً بوهيميين!... عندما نسمع كلمة "فيلسوف" سرعان ما تخطر في بالنا الصورة الحديثة للفلاسفة بأنّهم شخصيات غريبة الأطوار، والمظهر والملابس، أفكارهم غريبة وغير اعتيادية.
كان سقراط شخصاً اجتماعياً يحبّ التنزّه في الطرقات وحضور حفلات التعارف والانخراط في أحاديث مع أي شخص لديه القدرة على خوض نقاشات فلسفية. بالنسبة له، لم تكن الفلسفة موضوعاً مجرّداً عقلياً وجامداً، ألعوبة للمتحذلقين والأكاديميين، بل مكوّن أساسي لحياة سليمة وواضحة ومستقيمة. حتى أنّه مضى لقول مقولته الشهيرة التي تُزعَمُ أنّه قائلها، والتي تحوّلت إلى مَثَل شهير ((الحياة غير المفحوصة غير جديرة بأن تُعاش)).
ولكن مامعنى هذا التصريح بحق الله؟ الجميع يعرف معنى مقولة "هذه السيارة تساوي مليوني ليرة سورية"، أو"هذا القميص يساوي ألفي ليرة"، أو أنّ"هذا الحذاء لايساوي أكثر من خمسة آلاف ليرة"؟.
ما معنى أن نقول نفس القول عن نمط معيّن من الحياة – مايسمّيه سقراط بنمط "الحياة غير المفحوصة"_ الذي يستحق أن يُعاش؟
عملياً، يقال عن أي شيء أنّه "يساوي" أو "يستحق" عندما تكون قيمته مساوية أو أعظم من السعر الذي يُدفَع من أجله. وعندما أرغب بشراء أي شيء فأنا أتساءَل ما إذا كان هذا الشيء فعلاً يساوي أو يستحق الثمن المطلوب فيه؟ هل صفاته وخصائصه تستحق كمية المال المطلوب فيه؟
زوج الأحذية الذي يراه الثري في نظره أنه يستحق سعره أو كمية الأموال التي يدفعها من أجله قد يراه الفقير باهظٌ جداً. إذاً على الأفراد الأقل ثراءً العمل جيداً وبذل جهد أكبر وقضاء ساعات أطول في أعمالهم لإنتاج نفس الكمية من الأموال لدفع مايستحقه هذا الحذاء من المال. لذا يتوصل الفقير إلى نتيجة مفادها أنّ الحذاء لايستحقّ ثمنه أو سعره الذي طُلِبَ منه.
ولكن كيف يتماشى هذا الحكم المألوف مع مقولة سقراط الشهيرة؟... ما هو ثمن الحياة غير المفحوضة؟... ماذا تستحق فعلاً؟... حسناً، علينا أولاً أن نفهم ماذا كان سقراط يعني بالضبط بهذه العبارة؟
ما المقصود "بالحياة غير المفحوصة"؟ لسوء الحظ، إنّه ذلك النمط من الحياة الذي يعيشه أغلب الناس: الاستيقاظ صباحاًن ارتداء الملابس، تناول طعام الإفطار، الذهاب للعمل، استراحة الغداء، ثمّ العودة إلى العمل، العودة إلى المنزل، تناول الطعام مجدّداً، مشاهدة التلفاز، تصفّح الجرائد أو المجلّات، تبادل بعض العبارات والمجاملات أو الجدالات مع افراد العائلة، أو مع أصدقاء عبر الهاتف، تبديل الملابس وارتداء ثياب النوم، الخلود إلى السرير، ثمّ النوم بعمق جرّاء الإرهاق والسأم. ليتكرّر نفس الروتين في اليوم التالي مع بعض التغيير في التفاصيل، مرّةً بعد مرة بعد مرّة، على مدى شهور وأعوام، وربّما عقود، بدون حتى مجرّد التفكير بما يعنيه كل ذلك أو كيف يجب أن نمضي حياتنا بصورة أفضل وأكثر حيويةً وعَطاءً.
نحن نستيقظ صباحاً ونحن مسبقاص في خضمّ يَمّ الحياة. الطّوافة راسية فعلاً عند الشاطئ، والتيار يسير بنا إلى الأمام فعلاً.
عندما كنّا صغاراً، كان الآخرون يقرّرون ماذا نلبس وماذا نأكل وكيف نأكل، ومواعيد تناولنا الطعام ولَعِبَنا ونومنا واستيقاظنا. في كثيرٍ من الأحيان، حتى بعد أن كبرنا وغدونا راشدين، لايزال الآخرون يقرّرون مانقوم به خلال يومنا. نحن نتّخذ عشرات القرارات يومياً، ونختار عدّة خيارات، لكننا نحدّد خياراتنا ضمن طيف ضيّق جداً من الخيارات المحدودة والمُتاحة التي يقدّمها لنا أصدقائنا وعائلاتنا ومُدَرائنا وبيئتنا. نادراً ما نتوقّف قليلاً مع أنفسنا ونتأمّل حياتنا وما نريده فعلاً من الحياة، أن نتأمّل حقيقتنا وما نريد أن نكونه، أن نفك!ر بالفرق الذي نرغب بإحداثه في هذا العالم قبل أن نرحل عنه. وهذا هو معنى الحياة غير المفحوصة _الحياة المُعاشة في مستوى معيّن كالسائرين نياماً، نهدر الساعات والأيام والشهور والسنوات. إنّها الحياة التي نعيشها في وضع الطيار الآلي_ حياةً قائمة على قيم ومعتقدات لم نتأمّلها أو نتفحّصها من قبل، ولم نختبرها أو نعيشها بالشكل المطلوب، ولم نجرّبها بأنفسنا.
يبدو أنّ أغلب الناس يخافون عملية الفحص الذاتي، كما لو أنّ إعادة النظر في معتقداتهم وقيمهم الرئيسية وإعادة تقييمها يمثّل تهديداً بطريقة ما. لكنّ الفحص الفلسفي التأملي لمعظم افتراضاتنا ومعتقداتنا والتزاماتنا الأساسية ليس بالضرورة ذو تأثير أكّال، بل على العكس من ذلك قد يكون له تأثير تطهيري أو تنقوي. إنّ الهدف الرئيسي للفحص الفلسفي ليس النقد بالمعنى السلبي أو الانتقاد الأجوف، أو أي نوع من الرفض والإقصاء والاعتراض. الهَدف الأساسي هو الفَهم. ومع ذلك، غالباً ما يؤدّي مقدار أكبر من الفهم إلى إعادة التركيز وترتيب الأولويات: التخلص من الأنشطة والعادات غير الضرورية وغير المهمة وتبنّي آراء الآخرين ومعتقداتهم _أي إعادة التوازن إلى حياتنا وتغييرها بطريقة إيجابية نحو الأفضل.
أمّا الحياة غير المفحوصة من جانب آخر ليست بالفهم العمق والمركّز للحياة. إنّها ليست توجيه إيجابي لحياتنا نحو الأفضل. ونحن ندفع ثمناً باهظاً لعيشنا هذا النمط من الحياة. ماهو هذا الثمن؟ يحدّده سقراط فعلاً عندما يقول أنّ هذا النمط من الحياة، نمط الحياة غير المفحوصة، لايستحقّ ما تدفعه من ثمن_ فهو يقول ببساطة أنّ نمط الحياة هذا غير جديرٍ بأن يُعاش.
الثمن الذي ندفعه يتمثّل في حياتناكلها. ولن ندفع ثمناً باهظاً كهذا لأي شيء فيها. لاحظ أنّ سقراط لم يَقُل أنّ الحياة غير المفحوصة لاتستحق أن ندفع ثمناً لها. فهو يترك الباب مفتوحاً أمامنا إذ أنّ هناك بعض القيم والعادات الإيجابية موجودة في أي نمط من الحياة مهما كان، مهما كانت سطحية أو بسيطة أو غير مفحوصة. قال هذا الفيلسوف العظيم أنّ هذا االنوع من الحياة غير المفحوصة لايستحق الثمن الباهظ الذي ندفعه من أجلها _أي تكريس كل جهودنا وطاقاتنا في اتجاهات وخيارات ليست من اختيارنا شخصياً.
أمّا الفلسفة من ناحية أخرى _بوصفها نشاطاً فكرياً تأملياً بَنّاءً وإيجابياً_ تمنحنا السبيل لقضاء حياة أكثر حكمةً وتنوّراً، وتكريس جهودنا وطاقاتنا الحياتية في أمور قد ثبُتَ استحقاقها للأثمان التي ندفعها لها. إذن، هل الحياة المفحوصة محكومة بأن تكون جديرة بأن تُعاش؟ هل هذا النمط من الحياة _وحده_ جديرٌ بأن يُعاش؟... لا يقول سقراط شيئاً حول الأمر. لكنّ عبارته الشهيرة عن الحياة غير المفحوصة يبدو أنّها تتضمّن هذه النتيجة. لكنّ الفيلسوف الحكيم يتركنا لنستخلص هذه النتيجة من تلقاء أنفسنا، عن طريق مراجعة أنفسنا وفحص حياتنا. وأنا أتمنّى أن تكون عزيزي القارئ قد وجدت الفائدة في هذه المقالة وأن تجد في المقالات اللاحقة سبيلاً لتفحص حياتك وتعيد تركيزك على حياتك وترتيب أولوياتك.
((اجعل من معرفة نفسك شغلك الشاغل، وهذا أصعب درس عليك أن تتعلّمه بالعالم)) ثيرفانتيس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست