الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عضو الكوكلوكس كلان الأسود

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2019 / 9 / 4
الادب والفن


ربما كان الفيلم الأخير للمخرج الأمريكي سبايك لي (BlacKkKlansman ، 2018) هو أفضل ما صنع حتى الآن. وربما كان أفضل ما يميز هذا الفيلم عن بقية أفلام سبايك لي السابقة، هو ما قاله سيلين ذات يوم من أن "الحكاية الثانوية هي الأهم". أو بتعبيراتنا نحن؛ قوة الفيلم الأساسية لا تكمن في صالة البيت الرئيسية بل في الغرف الجانبية، وفي العليات والأقبية. إن التفاصيل المبثوثة في ثنايا الكوميديا السوداء في (عضو الكوكلوكس كلان الأسود) تحتاج من أجل تذوقها والاستمتاع بها إلى مشاهد ذكي، وإلى مشاهدة مسترخية، ومتأملة.

صالة البيت الرئيسية؛ أي الحبكة الأساسية للفيلم، بسيطة، وتصلح بامتياز لقالب الكوميديا السوداء. رجل شرطة أسود شاب (رون ستولورث، قام بالدور الممثل جون ديفيد واشنطن، ابن الممثل دنزل واشنطن) يتسلل إلى داخل جماعة الكوكلوكس كلان العنصرية البيضاء، من أجل جمع معلومات عن أنشطتهم الإرهابية. القصة نفسها مقتبسة عن واقعة حقيقية حدثت بالفعل في سبعينيات القرن الماضي في مدينة كولورادو سبرينجز الأمريكية؛ حين نجح رجل بوليس أسود يدعى رون ستولورث، في التسلل لجماعة الكوكلوكس كلان وجمع معلومات عن أنشطتهم الإرهابية بالمدينة.

ومن أجل حبك خدعة رجل الشرطة الأسود رون، والذي يجري محادثات هاتفية طويلة ومنتظمة مع قادة الجماعة الإرهابية متظاهراً بأنه رجل أبيض متعصب ضد السود وباقي الأقليات الأمريكية، يستعين بزميل له؛ رجل شرطة أبيض يهودي (فلب زيمرمان؛ قام بالدور الممثل آدم درايفر)، من أجل أن ينوب عنه في الظهور للجماعة بشخصه، بلحمه ودمه، حين يحتاج الأمر للاتصال المباشر، أو حضور الاجتماعات الدورية التي يجريها أعضاء الكوكلوس كلان.

هنا، تبدأ الكوميديا الذكية في الفيلم، في الغرف الجانبية، وفي العليات والأقبية؛ أي في التفاصيل الدقيقة، وفي أسلوب المفارقات لتوليد الكوميديا. مفارقات من قبيل أن ضابط الشرطة الأسود رون يجد صعوبة كبيرة للغاية في الاندماج مع أقرانه وزملائه من رجال الشرطة، بينما تتقبله بمنتهى اليسر والسهولة جماعة الكوكلوكس كلان المتطرفة، وبكل ترحيب وحفاوة، بل ويصبح، وفي خلال فترة وجيزة، مؤهلاً للترقي فيها للمناصب القيادية العليا، وهو الذي ما يزال يخدم في الشرطة على الهوامش والأطراف؛ كموظف أرشيف يناديه زملاؤه بـ "الصبي".

من المفارقات المولدة للكوميديا أيضاً؛ هو اضطرار الشرطي اليهودي المتخفي فلب أن يزايد على أعضاء العصابة في إدعاء تعصبه وكرهه لليهود. وتتصاعد المفارقة حتى ينتهي إلى التصالح مع هويته اليهودية، وهو الذي كان من قبل لا يحفل قليلاً أو كثيراً بها. إن اللعبة التي يلعبها سبايك لي هنا (وقد شارك في كتابة السيناريو) هي لعبة مرايا جديرة بفنان كبيرة. أو إن شئت، لعبة ماتروشكا (العروسة داخل عروسة). فمن ناحية، هناك اضطرار فلب إلى أن يمثل جسدياً شخصاً آخر هو زميله الشرطي الأسود المختلف عنه ثقافياً وعرقياً ونفسياً، وحتى صوتياً بنبرة صوته المختلفة تماماً عن نبرة صوت فلب. أي أننا هنا بصدد لعبة تمثيل داخل التمثيل. ومن ناحية أخرى، فإن فلب مضطر أيضاً إلى تمثيل آخر مضاعف، بادعاء كراهيته لنفس عنصره اليهودي المنتمي إليه شخصياً، بل والمزايدة بالعنصرية والكراهية تجاه اليهود.

وتستمر المفارقات التي تولد الكوميديا الذكية. فمثلاً، نفاجأ بأن الشرطي الأسود رون قد أصبح مكلفاً من قبل شرطة المدينة بحماية زعيم عصابة الكوكلوكس كلان (والذي كان يتحدث معه محادثات طويلة على الهاتف)، والعمل كحارس شخصي له أثناء زيارته للمدينة واجتماعاته بأعضاء المنظمة اليمينية المتطرفة.

من المفارقات الذكية أيضاً، ما نراه من سلوكيات في المجتمع الصغير المغلق لأعضاء العصابة. إن أفراد الكوكلوكس كلان المتعصبين تجاه كل ما هو غير أبيض أو أنجلوساكسوني، المتسمين بالعدائية والعنف، نراهم في أثناء اجتماعاتهم في غاية اللطف والدماثة، والود والكرم. وتجري الاجتماعات، والتخطيط لعمليات العنف والاعتداءات، بمنتهى الهدوء والأريحية في صالات المنازل، وفي المطابخ أثناء إعداد الوجبات.

ومن التفاصيل الدقيقة الذكية التي تولد الكوميديا في الفيلم ما نراه من ضعف التنسيق والإدارة داخل عصابة الكوكلوكس كلان. حتى أن هناك واسطة ومحسوبية، بل وتمييز ومحابة أيضاً، بين الأعضاء وبعضهم البعض، وما لم تكن لديك القدرة على الاتصال مباشرة بالعراف الأكبر للجماعة لتسهيل أمورك، فإنك لن تستطيع الحصول بسهولة على كارت العضوية، وقد تضطر للانتظار طويلاً بسبب ضعف النواحي الإدارية والتنظيمية داخل الجماعة العنصرية، وبالتالي لن تستطيع الاشتراك في الأنشطة الإرهابية التي تنظمها الجماعة، ولا المشاركة في المسيرات العنصرية في شوارع المدن، ولا حفلات إحراق الدمى السوداء، أو التصويب عليها بالبنادق والأسلحة. ومن المضحك في الفيلم ما نراه من أن الأعضاء مضطرين لدفع تكاليف الأزياء العنصرية المميزة لعصابة الكوكلوكس كلان، والأدوات الإرهابية التي يستعملونها في حفلاتهم العنصرية، فكل ذلك غير مشمول ضمن اشتراك العضوية الذي يدفعه العضو للجماعة بانتظام.

ويظهر العراف الأكبر للجماعة في صورة تذكرنا على الفور بشخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ كمتأنق من الدرجة الثانية، أهوج وأرعن ونزق، يطربه المديح الفج، ويسهل خداعه واستغفاله بمعسول الكلام.

يتخلل الفيلم كذلك لقطات أرشيفية لبعض أهم الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية التي كانت تبث قيم العنصرية وتحتفي بها في ثناياها؛ من قبيل فيلم (ذهب مع الريح، 1939) على سبيل المثال.

بل إن سبايك لي يفتتح الفيلم ويختمه بمشاهد بارودية، وأخرى أرشيفية، تؤرخ للعنصرية والتمييز تجاه المواطنين السود على مدى التاريخ الأمريكي. في البداية، بلقطات لأشهر أفلام هوليود القديمة التي كانت تعلي من شأن العنصرية، بما في ذلك فيلم (مولد أمة، 1915) لأبي السينما الأمريكية "دي. دبليو. جريفث"؛ والذي يُظهر أعضاء عصابة الكوكلوكس كلان كأبطال قوميين لأمريكا.

ويختتم سبايك لي الفيلم بمشاهد وثائقية حديثة من أرشيف وكلات الأنباء، لمسيرات اليمين المتطرف الأمريكي في مدينة شارلوتسفيل، في بدايات العام الماضي، واعتداءاتهم على مواطني المدينة السود، بل ودهس بعضهم بالسيارات، بينما العراف الأكبر لجماعة الكوكلوكس كلان بالمدينة يؤيد سياسات ترامب، وتصريحات لترامب نفسه وهو يبرر تلك التجاوزات والاعتداءات بالقول "إن هناك عدداً من الأشخاص السيئين في كلا الطرفين".

الحقيقة، أنه لا يمكن مشاهدة الفيلم من دون تلك المشاهد، فبدون تلك النهاية يفقد الفيلم الكثير من مغزاه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج