الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الديمقراطية العراقية - ... ديمقراطية ممسوخة

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2019 / 9 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يقصد بنظام الحكم الديمقراطي بإختصار وكما هو معروف, نظام الحكم الذي يشارك فيه جميع المواطنين البالغين سن الرشد (الذي عادة ما يكون بعد سن الثامنة عشرة من العمر ) ذكورا وأناثا , بتشريع القوانين التي تنظم أوضاع مجتمعاتهم الإجتماعية والإقتصادية والثقافية من خلال ممثلين عنهم, منتخبين بصورة نزيهة وشفافة لمدد محددة بموجب قوانين إنتخابية معينة . ويضمن نظام الحكم الديمقراطي لكل مواطن حرية الرأي والمعتقد والتعبير بكل الوسائل الممكنة بشرط عدم المساس بمعتقدات الآخرين أو الإعتداء على الممتلكات العامة والخاصة , وعدم تعكير صفو السلم المجتمعي أو إجبار الغير على تغيير معتقداتهم او مصادرة حرياتهم تحت أي ظرف كان أو أية ذريعة . ويتم تداول السلطة سلميا في ضوء النتائج البرلمانية الإنتخابية بحيث تستلم الكتلة النيابية الأكثر عددا في البرلمان زمام السلطة طيلة الدورة البرلمانية المحددة قانونا وإستمرارتمتعها بالأغلبية البرلمانية , وتمارس الكتل البرلمانية الأخرى دور رقابة عمل الحكومة ومحاسبتها. ويمارس مجلس النواب بعموم أعضائه دور تشريع القوانين التي تقترحها الحكومة. ولا يصبح للديمقراطية أية معنى إذا لم يؤمن نظام الحكم الديمقراطي تمتع المواطنين بجميع ثروات أوطانهم وتوظيفها لمصلحة رقي وتقدم بلدانهم, وتوفير فرص العمل اللائق لطالبيه وتأمين التعليم والعدالة الإجتماعية والرعاية الصحية لكل مواطن .
والديمقراطية بهذا المعنى , هل مورست يومنا في العراق منذ تشكيل دولته الحديثة عام 1921 وحتى يومنا هذا ؟ الجواب أن الحكومات التي تعاقبت على إدارة العراق , لم تمارس يوما اي قدر ولو يسير من نظام الحكم الديمقراطي وذلك لأسباب عديدة , تأتي في مقدمتها النزعة الإستبدادية المتوارثة والترسبات العشائرية لدى الكثير ممن أتيح له حكم العراق, وعدم شيوع مفهوم الثقافة الديمقراطية بين الناس بسبب تفشي الجهل والشعوذة والتدليس وقلة فرص التعليم, ناهيك عن الفقر والجوع والبحث المضني عن لقمة العيش والتي جميعها هموما تشغل بال المواطن . وهذا لا يعني عدم محاولة بعض الحكومات إرساء نظام حكم ديمقراطي بصورة أو بأخرى, لكن لم يكتب لها النجاح طويلا . كانت أولى هذه المحاولات قيام الزعيم الوطني البارز سعد صالح جريو وزير الداخلية في وزارة توفيق السويدي عام 1946 , بإجازة (5 )أحزاب سياسية, أربعة منها أحزاب يسارية معارضة , وفسح المجال أمامهم للعمل العلني وإلغاء الرقابة على الصحف. ولكن سرعان ما إضطرت الحكومة إلى الإستقالة والتي لم يمض على تشكيلها ( 100 ) يوم بسبب الضغوط الداخلية والخارجية التي مورست عليها , وتشكيل حكومة ارشد العمري التي ألغت إجازة الأحزاب.
وجرت محاولة ثانية في زمن حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم حيث أصدرت قانون الجمعيات ذي الرقم ( 1 ) لسنة 1960 الذي سمح بتشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات المهنية , تشكلت بموجبه الكثير من النقابات والجمعيات المهنية , ولم تتشكل سوى ( 3 ) أحزاب لم تكن فاعلة في المشهد السياسي , بينما حظر نشاط الأحزاب السياسية الفاعلة يومذاك بسبب الصراعات الدامية فيما بينها من جهة , وبين بعضها والسلطة القائمة ومداخلات بعض الدول الأخرى في الشؤون الداخلية العراقية من جهة أخرى. شهد بعدها العراق سلسلة إنقلابات عسكرية وصراعات دامية في الثامن من شباط عام 1963 وفي السابع عشر من تموز عام 1968 , وحروب لم يشهد لها العراق مثيلا لها من قبل , كان آخرها غزو العراق وإحتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في آذار عام 2003 , راح ضحيتها آلاف العراقيين دون أن تلوح في الأفق حتى يومنا ثمة بارقة أمل بالخروج من هذا النفق الظلم حيث لم يعد هناك معنى لحياة الناس , ناهيك عن صيانة حقوقهم وحفظ كراماتهم, إذ بات العراق اليوم في مهب الريح.
وعلى الرغم من إعتماد الحكم الملكي ظاهريا نظام الحكم الدستوري النيابي ونظام الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية , إلاّ أنه لم تجر يوما إنتخابات نيابية حرة ونزيهة , إذ يتم إختيار أعضاء مجلس النواب عادة من كبار الإقطاعيين ورؤساء العشائر والموالين للحكومة عبر إجراء إنتخابات شكلية مضمونة النتائج سلفا, أي فوز معظم النواب بالتزكية أي بدون منافس. ولعلها من المرات القليلة التي تمكنت فيها بعض أحزاب المعارضة من الفوز بنحو ( 13) مقعدا من مقاعد مجلس النواب البالغة نحو ( 135 ) مقعدا عام 1954 , وبرغم ضمان الحكومة غالبية نيابية مريحة جدا , إلاّ أن ذلك لم يرق للحكومة مما دعاها لتعطيل عمل مجلس النواب الذي لم يمض أكثر من شهر على تشكيله ودعوتها إلى إجراء إنتخابات جديدة لضمان ولاء مطلق لجميع النواب , فكان لها ما أرادت.
وعلى العموم يبقى نظام الحكم الملكي , أفضل نظم الحكم التي عرفها العراق ,إذ كان هناك قدرا معقولا من الحريات العامة المضمونة بموجب دستور دائم , وعرض الناس وبيوتهم مصانة لا يقتحمها زوار الليل , ولا تداهم بيوتهم دون إذن قضائي, وأبلاغ أصحابها مسبقا وبحضور مختار المحلة , وبقى المجتمع العراقي مجتمعا مدنيا لا تسوده فوضى إنتشار السلاح ايا كانت مسمياته , وهناك سلطة قضائية تمتاز بقدر عال من الموضوعية والمهنية , ولا يوجد إحتكار للسلطة من قبل فرد واحد وإنما يتم تداول السلطة بين عدد غير قليل من الزعماء السياسيين الموالين للنظام الملكي الهاشمي. كان الحرم الجامعي مصانا لم تقتحمه القوات الأمنية على الرغم من المظاهرات المعادية التي تشهدها معظم الكليات والمدارس الثانوية وإنها مصدر إزعاج لها . بخلاف ما آل إليه حال العراق في العهود الجمهورية اللاحقة التي صادر حكامها حقوق البلاد والعباد بدعاوى الشرعية الثورية التي لم يجن منها الناس سوى التعسف والفوضى ومصادرة الحريات وسفك الدماء وسوقهم إلى الحروب العبثية قسرا, وتمجيد الفرد الحاكم القائد الملهم . لم تعرف هذه الحكومات أي شكل من أشكال الحكم الديمقراطي حيث لا دستور دائم ولا أحزاب سياسية مجازة ولا صحف حرة , بل شعارات جوفاء لا معنى لها تتحدث بها ليل نهار عن الحرية والديمقراطية التي توصفها تارة بالرشيدة وتارة بالديمقراطية المركزية. أدت السياسات الرعناء لهؤلاء الحكام إلى تدمير العراق وتفتيت نسجه المجتمعي بحيث بات اليوم يصارع من أجل بقائه بلدا حرا موحدا ومستقلا ينعم أهله بالأمن والآمان .
وتحل بالعراق الكارثة الكبرى بعد غزوه وإحتلاله عام 2003 من قبل القوات الأمريكية ومن تحالف معها من الدول العربية, وتعاون بعض السياسيين العراقيين المغتربين من حملة الجنسيات المزدوجة الذين وجدوا في الإحتلال فرصتهم السانحة لنهب ثروات العراق لتأسيس حياة مزدهرة لهم ولعوائلهم في دول الإغتراب بعد إنتهاء فترة صلاحيتهم , دون إكتراث لمصلحة العراق وأهله الذين دمرتهم الحروب وسحقهم الحصار الإقتصادي الجائر , ودون أي وازع إخلاقي على الرغم من دعاوى البعض منهم الدينية ولباس ثوب التقوى والورع .
بشر الغزاة المحتلون وأعوانهم الشعب العراقي بنظام ديمقراطي يضمن لجميع العراقيين حقوقهم ويصون كراماتهم التي هدرت سنيين طويلة وتأمين العيش الكريم لهم في بلد آمن ومستقر. وبعد مرور أكثر من ( 16 ) عام على إحتلال العراق , نرى عراقا ممزقا تسوده الفوضى وينعدم فيه الآمان وينخره الفساد وتنهشه الأمراض, عراقا لا يقوى على حماية نفسه من أضعف جيرانه , إذ تتناقل الأنباء إستيلاء الكويت على بعض أباره النفطية الحدودية وممراته المائية دون أي رادع , حيث راح يستجدي مجلس الأمن لردعها دون أن يلقى أذنا صاغية من أحد, وهو بالأمس القريب جعل منها أثرا بعد عين لا وجود لها. فأي هوان هذا الذي يعيشه العراق . ولا يختلف الحال مع بقية دول جوار العراق التي قضم البعض منه اراض عراقية أو غيّر مجاري بعض الأنهار المتجهة نحو العراق أو حرمانه من حصصه المائية , ناهيك عن إختراقها العسكري لحدوده الدولية بين الحين والآخر, فالعراق ارضا وسماء ومياه مباحا . وعلى الصعيد الإقتصادي أصبح العراق مدينا لصندوق النقد الدولي بمليارات الدولارات بعد أن كان يقدم المنح المالية إلى الكثير من الدول . أصبحت ثروته النفطية رهينة للدول الأجنبية بعد أن كانت ملكا صرفا للعراق إستخراجا وإنتاجا وتسويقا من قبل كوادر عراقية, وتوقفت عجلة الصناعة والزراعة بصورة تكاد تكون شبه تامة , حيث بات العراق يستورد جميع إحتياجاته من دول الجوار بصورة لا تصدق لدرجة أن العراق الذي كان بلد التمور الأول في العالم أصبح الآن يستورد التمور من دول الجوار .
أما الديمقراطية التي يتحدثون عنها والتي وصفوها "بالديمقراطية التوافقية" فهو نوع غريب من الديمقراطية الهجينة لم يألفه العالم من قبل , ذلك أنها تعني تقاسم الكتل السياسية الفائزة بمقاعد مجلس النواب ثروات العراقية كمستحقات لها بموجب القسام النيابي , أي يعطى لكل كتلة عددا من الوزارات بحسب حجم الكتلة للتصرف بها كيفما تشاء , ويختلف وزن كل وزارة عن الأخرى بحسب عائداتها المالية التي يؤخذ في الإعتبار في توزيع الحصص. وتتناقل وسائل الإعلام قيام هذه الكتل بمساومة المتطلعين لتولي المناصب الوزارية والوظائف القيادية في بورصة بيع وشراء المناصب في أغرب عملية فساد سياسي في العالم . لذا لا نجد من يرغب من الكتل السياسية بتمثيل دور المعارضة المتعارف عليه في الدول الديمقراطية حيث يؤدي ذلك إلى حرمانها من المنافع الحكومية , فلا عجب أن توصف بعض الصحف العالمية مجلس النواب العراقي بأسوء مجلس نواب عرفه العالم , ويدرج العراق في أعلى قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم.
أنتجت "الديمقراطية التوافقية" نظاما سياسيا هجينا لا عقيدة له , ولا يمتلك منهجا سياسيا واضح المعالم وليس لديه القدرة على التواصل أو القدرة على التأثير داخليا أو خارجيا في محيطه الإقليمي أو الدولي , تسيره أهواء وأطماع أفراد وجماعات لا هم لها سوى نهب المال العام بأقصر الطرق وأسهلها وتهريبها خارج العراق لتكوين ثروات هائلة تمكنهم وعوائلهم من العيش الرغيد سنين طوال بعد معاناة فقر مدقع وطول حرمان. أن ما يعيشه العراق حاليا هي فوضى سياسية وإجتماعية عارمة وسط أزمات متلاحقة بسبب سياسات حكومات ضعيفة أنتجها نظام المحاصصة الطائفية والأثنية الذي أدخلته الإدارة الأمريكية إلى العراق وتعهدت برعايته ليصبح العراق بلدا ضعيفا ومفككا, وبدلا أن يكون هناك جيش عراقي قوي يحمي العراق من أي إعتداء خارجي , أصبحت هناك جيوش تحت مسميات مختلفة وولاءات متعددة وإرتباطات مشبوهة مع دول خارجية, وكذا الحال مع قوى الأمن الداخلية والمخابرات , كما أصبح العراق ساحة تصفية حسابات بين دول مختلفة ليس للعراق فيها أية مصلحة. ولم يعد للعراق مركز قرار واحد بل تعددت مراكز القرار فيه بين أكثر من جهة.
ويتوهم كثيرا من يعتقد أن إجراء الإنتخابات النيابية بحد ذاته دوريا على الرغم ما يدور حولها من شبهات تزوير وتلاعب بأوراق التصويت يعني ديمقراطية الحكم , فالإنتخابات وجه من وجوه الديمقراطية عندما تجرى بصورة نزيهة وشفافة , فكيف تكون ديمقراطية ويشوبها الفساد وتشترى الأصوات ,وتخوضها أحزاب سياسية ذات أذرع مسلحة في مجتمع يسوده العنف ويعاني من الأزمات وعدم الإستقرار على مدى سنوات طويلة , ناهيك عن الجهل والتجهيل وكل اشكال الدجل والتدليس كما هو حاصل الآن في عراق اليوم.ولا عجب أن تتمخض هذه الإنتخابات عن مجالس نواب فاسدة ومفسدة , لم تقدم شيئا للشعب العراقي سوى المزيد من الخيبات , همها الوحيد منح نوابها الرواتب والإمتيازات المالية والوجاهة التي تخولهاللدخول في بورصة وشراء المناصب.
وخلاصة القول أن ما يشهده العراق اليوم لا يمثل نظاما ديمقراطيا البتة , بل نظاما فوضيا مترهلا يعيشه يومه ولا ينظر إلى المستقبل , تحركه نوازع ومصالح فئات طائفية وأثنية تحت العباءة الأمريكية ومداخلات الدول الإقليمية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العربية ترصد حجم الدمار الكبير في المخيم الجديد في النصيرات


.. البحر ملاذ سكان رفح والنازحون هربا من القصف الإسرائيلي




.. حروب المسيّرات تزيد الطلب على الصواريخ الاعتراضية المضادة له


.. جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي




.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار