الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفراغ الكوني

محمد الداهي

2019 / 9 / 10
الادب والفن


من أكثر الجراح الغائرة في التاريخ الحديث جرحُ فلسطين من جراء ما تعرض له أهلها من مجازر بشعة وإبادات جماعية وصدمات قوية. ومع ذلك ظلوا متشبثين ببصيص الأمل لإقامة دولتهم المستقلة واسترجاع حقهم المغتصب.
ومع توالي السنين توارثت الأجيال ذاكرة جريحة مثقلة بالألم والمعاناة والحزن. وهو ما دفع الأدباء والفنانين إلى إعادة تمثيلها بطريقة فنية بحثا عن " النغمة المفتقدة" التي يمكن أن تعيد للإنسان الفلسطيني إنسانيته، وتشعره بحقه في العيش الكريم.
للذاكرة الجريحة تجليات ومظاهر مختلفة. سأقتصر، لضيق الحيز، على جانب واحد منها، وهو ما يخص الفراغ الكوني المترتب على تجربة المنفى(L’exil ) والشتات (La diaspora ). إن دافع فلسطين المتأزم جعل المثقفين يتنقلون من مكان إلى آخر تطلعا إلى الامتلاء والاستقرار والطمأنينة. قد يستقر بعضهم في قطر ما ويتجنس بجنسيته، ومع ذلك يظلون مشدودين إلى مهبط الوجدان مقاومين كل أشكال الإبادة والمحو، محافظين على هويتهم وكينونتهم باتخاذ السلاح الإبداعي والفكري وسيلة للبقاء والاستمرار، متمردين على صنوف التحنيط والعقم والنكوص. فالمثقفون الفلسطينيون – حسب جبرا إبراهيم جبرا -"أينما كانوا، وأينما كتبوا، ومهما ألفوا، فإن خيالهم جزءا من الثورة الفلسطينية- بعضا من سلاحها، وبعضا من تبريرها في آن واحد" (أقنعة الحقيقة أقنعة الخيال، 1992، ص223.). وهو ما نعاينه في كتابات معين بسيسو(1826-1984)، وعبد الكريم الكرمي(1909-1980)، وغسان كنفاني(1936-1972)، وجبر إبراهيم جبرا (1920-1994)، وناجي العلي(1937-2008)، وإدوارد سعيد(1935-2003) ومحمود درويش(1941-2008) وغيرهم. حاول كل واحد منهم، وفق تمثيله الخاص للواقع وطبيعة تجربته في الحياة أن يكتب سيرة للأمكنة التي ارتادها معبرا عن قسوة المنافي القسرية والطوعية ومكْرها، ومصرا على ملاحقة الحلم الهارب إلى أن يسترجع وطنه السيادة والحرية المنشودتين.
عبر إدوارد سعيد ( عينة من مثقفي المنافي) عن وجوده خارج المكان ( وهو عنوان سيرته الذاتية التي عربها عن الانجليزية فواز طرابلسي 2000) مجليا ما خلفه المنفى من آثار وندوب على لغته وثقافته وهويته وكينونته. إن بدأت فلسطين تختفي تدريجيا من أحاديث أسرته بحكم البعاد والانشغال بأمور مغايرة أملتها طبيعة الحياة الجديدة، فقد تركت، مع مر السنين، جراحا في نفسية هذه الأسرة وغيرها من الأسر الفلسطينية، وأثرت في معارفها ومشاعرها محدثة تغيرات عميقة في مجرى التاريخ. ومما ابتليت به هذه الأسر، على اختلاف مشاربها ومستوياتها الاجتماعية، هو التفكك الذي تفاقم مع نكسة 1967. وأضحت، بمقتضاه، غير مرتاحة في أي فضاء انتقلت إليه اضطرارا وإن توافرت فيه شروط العيش المستحبة. وأصبحت هويتها المشتركة مضطربة ومزيفة لكونها، وإن تجنست بجنسية أخرى، تحس بأنها مقتلعة من جذورها، وغير قادرة على الاندماج في البيئة الجديدة ( صراع الهويتين الأصلية والمكتسبة في الفضاء الثالث).
ويعتبر إدوارد سعيد ثمرة ثقافة هجينة. ظلت، وإن أسهمت في صقل مواهبه وتنمية مؤهلاته وتوسيع رؤيته للعالم، نشازا بالنسبة له لكونها لا تخاطب طبعه ووجدانه، ولا تمت إلى ثقافته الأصيلة بصلة. وعوض أن تعزز هذه الثقافة إدماجه بالحياة الجديدة، عمقت لديه الإحساس بالضياع والتمزق. واستفحل هذا الإحساس لما أصيب بالسرطان، وأحس، أكثر من أي وقت مضى، باقتراب أجله. لم يجد بدا، في هذه الحال، من استجماع خيوط ما عاشه ، على وجه الخصوص، في مدينتي القدس والقاهرة حتى يكون له سندا ومناعة لمقاومة تداعيات المرض، والتغلب على هواجس الإحباط والخيبة والعجز.
ليس صدفة أن يستحضر إدوارد سعيد اسم الروائي البولوني الكبير جوزف كونراد. سبق أن نشر أول كتاب عنه عام 1966. وكان معجبا بتجربته في الحياة، ومنجذبا إلى عوالمه لكونهما يشتركان معا في النفي المكاني واللغوي. عاش كونراد في فرنسا، وكتب عن تجربته في الحياة باللغة الإنجليزية ( وهي لغته الثالثة بعد البولونية والفرنسية). وفي اتساق مع التجربة نفسها قضى إدوار سعيد، الفلسطيني الأصل، حياته جلها في القاهرة وأمريكا، وعاشها في لغة ( اللغة العربية) لكنه كتب عنها بواسطة لغة أخرى وهي اللغة الإنجليزية. وتولد عن هذا النزاع بين اللغتين شعور بعدم التناغم بين ماهيته ( عالمه الحميمي) التي تجسدها اللغة العربية وبين صيرورته(تربيته الاستعمارية) التي تشخصها اللغة الإنجليزية. ولما بادر بكتابة سيرته الذاتية شعر بأنه، من خلال عمليتي الاستذكار والنسيان معا، يقوم باستبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة. ورغم إحساسه بأن اللغتين معا بمثابة توأمين يتعايشان فيما بينهما داخل جسد واحد، كان مغتاظا من الغربة المزدوجة التي يسببانه له." فلا أنا تمكنت كليا من السيطرة على حياتي العربية في اللغة الإنجليزية، ولا أنا حققت كليا في العربية ما قد توصلت إلى تحقيقه في الإنجليزية"(خارج المكان،ص8). لقد عاش إدوارد سعيد في ظروف تتواجد فيها اللغتان معا وتتضارب وتتنافس دون أن تكون إحداهما رجع الصدى لأخرى، أو تدعي أنها متفوقة عليها. وهذا ما عاينه لدى والدته التي كانت تتحدث باللغتين وإن كانت تميل إلى اللغة الإنجليزية، وما حفزه- بعد تحكمه في ناصية اللغة الإنجليزية- على تحسين مؤهلاته التواصلية والفكرية باللغة العربية حتى يوطد الصلة بأصوله وينغمس في الثقافة العربية بدون قناع أو وساطة.
ظل إدوار- طيلة حياته- يشتكي من اضطراب هويته. فهو من حيث الجنسية مشدود إلى أمريكا، في حين أنه من حيث الوجدان مرتبط بهويته العربية. لم يستطب العيش في أي مكان لكونه- رغم ما يوفره له من رخاء ورفاه- لا يستجيب لنداء القلب ولا يحرك سواكن الوجدان. وإن كان يحن إلى موطنه الأصلي فلم يشعر بأي إحساس للعودة إليه بعدما عاين ما طرأ عليه من تحولات مفجعة، وما أصاب أهله من جفاء وغلظة في الطبع. و مع حلول الأربعينات لم يصبح من " الشوام" وإنما من "الخواجات" بما تتضمنه هذه اللفظة من لسعة عداء حيال الآخر المختلف عن مسلمي مصر. وإن كان يعتبر نفسه عربيا، ثمة مؤشرات تشي بأنه أجنبي. وقد عانى هو و أفراد أسرته من متاعب جوازات السفر وبطاقات الإقامة بسبب الوضع المتغير في مصر والعالم العربي، وهو ما أدى إلى هشاشة هويتهم وجنسيتهم، وقوى لديهم الإحساس بضآلتهم وعدم استقرارهم، وشكل تهديدا لمصالحهم بوصفهم أجانب ميسورين.
اخترت عينة أدوار سعيد - رغم تشعبها وسعتها- لإبراز ما يقاسيه ويعانيه المثقف الفلسطيني من المنافي، وما تسببه لهويته من اضطرابات، وتحدثه في نفسيته من صدمات وندوب إلى أن تضمد جراحه المثخنة بشكل نهائي. وهو الحلم الذي يراوده دوما، ويحفزه أكثر على الصمود والمقاومة رغم عناد الفراغ الكوني وعنته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا