الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلقة الثالثة..حلم التغيير للدولة والسلطة في سورية

منذر خدام

2019 / 9 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


(الحلقة الثالثة)
حراك الشعب السوري من الحلم بالتغيير إلى الكارثة المحققة
الفصل الأول
4-تحديات الحداثة في سورية
لقد انشغلت الأوساط الثقافية والسياسية السورية لفترة طويلة، قبل تفجر الأزمة الراهنة، بهموم ثقافية وسياسية عديدة ومختلفة كانت قضية بناء مجتمع سوري حداثي في القلب منها. لهذا الغرض كانت تعقد الندوات وحلقات النقاش والمؤتمرات الأكاديمية تشارك فيها نخب من المثقفين والأكاديميين العرب، وعملت السلطة السورية في عهد بشار الأسد على تشجيعها، بل ورعاية الكثير منها. قيل في حينه ان السلطة تحاول التأسيس لنهج " التحديث والتطوير" الذي تبنته، لذلك اعلنت عن العديد من المشاريع البحثية ورعتها في مجال التعليم والسكان والتنمية البشرية وغيرها، لكن كان اهمها على الاطلاق مشروع "دراسة مسارات التنمية في سورية حتى عام 2025". إلى جانب هذه النشاطات البحثية التي رعتها السلطة السورية، نشطت أيضا هيئات المجتمع المدني، وبصورة خاصة جمعيات العاديات، والمهرجانات الثقافية لطرح قضايا التحديث والتطوير ومشكلاتها على النقاش العام. في هذا الاطار كرس مهرجان جبلة الثقافي السادس، إحدى محاوره الأساسية للحديث عن " تحديات الحداثة العربية"(10) شارك فيه الدكتور عزمي بشارة، والدكتور جورج قرم وغيرهما، إضافة إلى جمهور سوري غصت به مدرجات المركز الثقافي في جبلة.
في محاضرة الدكتور جورج قرم التي كان لي شرف تقديمه وإدارة الحوار معه دعا الدكتور بداية إلى تجاوز الثنائيات التي شغلت الحداثة الأوربية، وتجاوزتها، لكنها لا تزال تشغل الحقل الثقافي، والفكري العربي، مثل العلاقة بين الحداثة والأصالة، التقليدي والمحدث، الداخل والخارج، التراثي والمعاصر، العروبة والإسلام، وغيرها . وقد توقف طويلا عند مسألة الإصلاح الديني، والعلمانية، وعدها قضايا غريبة عن واقعنا. مع ذلك فقد قال بضرورة إعادة الاجتهاد إلى المجال الديني، لكونه المقدمة الضرورية للحرية الفردية، التي ركز عليها كثيراً في محاضرته، وعدها الشرط الضروري للحداثة. فحسب رأيه مادام النص الديني مسمطاً، ممتنعا عن القراءة الجديدة، والمتجددة، انطلاقا من احتياجات الواقع المتغيرة، فلا مجال للحديث عن أية حداثة عربية.
كان لافتا رفض الدكتور قرم ربط الحداثة بالديمقراطية، فهي بحسب رأيه ليست شرطاً للحداثة، واسترسل في تقديم الشواهد على ذلك، من واقع العديد من الدول الأوربية، والأسيوية.
وأكثر من ذلك فقد طالب بضرورة مهادنة المثقفين للسلطات الحاكمة، فهو يحسب دور المثقف يقتصر على المساهمة في حصول التراكم الثقافي!. لم يقل الدكتور قرم كلمة واحدة في محاضرته الشفوية عن علاقة الحداثة بالتنمية، و كما هو معلوم، فهو خبير اقتصادي مهم. وعندما وجه له سؤال حول ذلك، تجاوزه بسرعة لافتة.
لم يخف الدكتور قرم ميوله الوحدوية العربية، لكنه لم يبين ما علاقة ذلك بالحداثة. بمعنى هل الوحدة العربية تشكل المدخل إلى الحداثة، أم العكس هو الصحيح. من جهة أخرى، كان لافتا إعجاب الدكتور قرم بحزب الله اللبناني، وبأدائه العسكري والسياسي، فهذا موضوع مجمع عليه تقريباً، على نطاق واسع، في أوساط المثقفين، والرأي العام العربي، بحسب رأيه. واكثر من ذلك، فإن الدكتور قرم تجاوز حدود الاعجاب بحزب الله، وحركة حماس، أي بقوى المقاومة الفاعلة في لبنان وفلسطين، ليعدهما روافع حداثية، من خلال إعلائهما لشأن العرب والمسلمين، وتركيزهما على أهمية الكرامة، والعزة العربية، في خطابهما السياسي والجهادي.
ركز الدكتور قرم في محاضرته على ضرورة بناء عصبية عربية جديدة، بالمعنى الخلدوني، كإحدى روافع الحداثة العربية، لكنه لم يوضح كيف يمكن بناء هذه العصبية، إذ غلب على المحاضرة الطابع النظري العام، وبعدت كثيرا عن أسئلة الواقع العربي، وهذا ما عبرت عنه أسئلة الحضور، وعبرت عنه بدوري صراحة في تعليقي الختامي على المحاضرة، وهذا ما أحاول عرضه من خلال تحليل الواقع في سورية.
بداية يمكن موافقة الدكتور قرم على أن مفهوم "الحداثة" ، أو مفهوم "المعاصرة" الذي يحبذ استخدامه، له الدلالة الاصطلاحية التي أشار إليها، أي :بناء نظام معرفي وإدراكي جديد، في جوهره نقدي تجاوزي، لكنه تفاعلي جدلي، يحجز في التاريخ ما هو مفوت، وفقد ضرورته، ويفسح في الحركة، وأداء الدور، لما هو جديد، وضروري. والمفوت هنا لا يقتصر على القديم الذي تجاوزه الزمن في ضرورته، فحجزه التاريخ، في ذاكرته الواعية أو اللاواعية، لا فرق، بل ما هو جديد أو متجدد، لكنه لا يؤدي دورا تجاوزيا في الزمن، بل نكوصياً، ارتدادياً، أو يرهن حركة الواقع لقضايا لم يحن أوانها، ولا تشكل ضرورة في حركة الواقع. المفوت سواء كان قديماً، أو جديداً، يجهد حركة الواقع، يربكها ، يحاول إعادة توجيهها في غير وجهتها الضرورية. يلخص ما ذهبنا إليه القول بأن الفكرة الصائبة، هي صائبة في زمنها فقط، تؤدي دورا تقدميا تجاوزيا فيه. لكنها ما إن تنتقل إلى زمن آخر، لا تشكل ضرورة في منطقه، حتى تصبح خاطئة، تجهد حركة الواقع، تؤدي دوراً رجعيا فيه.
لا يمكن موافقة الدكتور قرم رفضه للغة المفهومية الغربية، فالمفاهيم ليس لها وطن، بل غرض. المشكلة لا تكمن في المفاهيم ذاتها، بل في كيفية استخدامها. بصورة عامة ينبغي اتخاذ موقف نقدي من المفاهيم، وليس رفضها لمجرد كونها غير عربية، أي ينبغي إعادة تكييفها لتصلح أداة تحليلية لقضايانا. من الجيد أن تكون لدينا اللغة المفهومية الخاصة بنا، لكن ما العمل إذا كان التفاوت التطوري بيننا وبين البلدان الرأسمالية المتطورة، منحها ميزة السبق في ابتكار اللغة المفهومية، واستخدامها في الإجابة عن أسئلة قضايا التطور لديها.
الإشكالية الرئيسة في المحاضرة، جاءت من عنوانها، فالعرب ليس لديهم حداثية، حتى يكون أمامها تحديات، بل تحديث، وثمة فرق كبير بين الحداثية والتحديث. ولذلك بدت المحاضرة وكأنها تخاطب واقعا آخر. كان من الأفضل الحديث عن تحديات التحديث العربي، أو معوقات دخول العرب في الحداثية. لكن في كلتا الحالتين كان سياق المحاضرة سوف يختلف.
عملية التحديث تجري في سورية، على سبيل المثال، كما تجري في بقية الدول العربية، لكن عملية التحديث لن تؤدي بالضرورة إلى الحداثية، لأنها لا تشتغل على بناء نظام معرفي وإدراكي جديد، بل مظاهر جديدة، إنه تقليد للغرب في مظاهر حضارته، لا في عمقها، في بعض وسائل عيشه، لا في أنماط تفكيره. والتحديث لا يعني بالضرورة تقدم نوعي، بل تراكم كمي قد يفضي إلى تحول نوعي، وقد لا يفضي، بسبب كون هذا التراكم الكمي ليس محكوما بضرورات الداخل السوري فقط، بل أيضاً، و غالبا، بضرورات الخارج. فالتحول النوعي يعني بالضرورة قطع جدلي، ليس مع الماضي المحلي فقط، بل مع الخارج أيضاً، بما يمثله من قوة توجيهية، ومصالح غير متبادلة، إنه تحول من التحديث إلى الحداثية. بالضبط هنا يطرح تساؤل في غاية الأهمية: كيف يمكن تحويل التحديث إلى حداثية؟
إذاً؛ التحديث هو الفعل الجاري في سورية وفي البلدان العربية عموماً، وهو يشمل وسائل عيش السكان ككائنات بيولوجية، لا وسائل إنتاج هذا العيش التي تجعلهم كائنات إنسانية، إنه تنمية لوسائل الاستهلاك، لا لوسائل الإنتاج، تنمية للحجر، لا للبشر. هذا النوع من التنمية التحديثية له مساران ممكنان: الأول منهما هو أن يستمر كما هو لكن بوتائر متباطئة، بالعلاقة مع وفرة الموارد الريعية، وعند حد معين من عدم كفاية هذه الموارد، ينفجر المجتمع ويرتد أعضاؤه إلى هوياتهم الصغرى المتناحرة، الدينية والإثنية، أو القبلية والعشائرية. وقد تصير الموارد نادرة، ليس بندرة مصادرها، بل بسوء توزيعها وإدارتها، مما يولد استقطابات حادة في المجتمع، بين فئة قليلة تستحوذ على القسم الأكبر من نواتج التحديث، وأغلبية ساحقة تلهث وراء لقمة العيش. هذا المسار هو الجاري عمليا في مختلف الدول العربية، وفي سورية على وجه الخصوص، لأنه المسار الذي يلبي احتياجات الاستبداد، فهو شرطه الضروري للاستمرار في الوجود في سورية، ويلبي احتياجات الخارج الذي ينظر إلى المنطقة العربية كجزء مهم من مجاله الحيوي. التنمية وفق هذا المسار هي تنمية التخلف بصورة حديثة، إنها تحديث للتخلف.
المسار الثاني وهو أن يشكل التحديث ضغطاً تراكميا على كيفيته، فيحولها من تنمية للحجر إلى تنمية للبشر، ويعيد بالتالي تكوين الفواعل الاجتماعية، بما يجعلها القيّمة على مصيرها، الصانعة لتاريخها. هذا المسار سوف يتطلب بالضرورة تغييرات جوهرية في طبيعة النظام السياسي، وفي طبيعة التنمية، وتوجهاتها.
إن العقبة الكأداء، والمشكلة الأساس في غربة العرب عن الحداثية، وتخلفهم عن دخول العصر بمتطلباته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية تكمن في طبيعة النظام السياسي الاستبدادي العربي.
الدكتور جورج قرم لا يجد أي رابط بين الحداثة والديمقراطية، لأنه يحسب هذه الأخيرة نتاج للحداثة وليست سببا لها. ويعرض شواهد على صحة ما ذهب إليه من تاريخ الحداثة الأوربية، وغير الأوربية، مثل ألمانيا في عهد بسمارك، ومثل كوريا الجنوبية، ومثل الصين حالياً وغيرها. غير أن الدكتور قرم لم يلحظ الفارق بين الأنظمة السياسية التي ساقها كشواهد، والأنظمة السياسية العربية، إنه الفارق بين النظام الدكتاتوري، والنظام الاستبدادي. إن التشابه الظاهري بين بعض سمات النظامين، خصوصا في الحقل السياسي، جعلت كثيراً من الباحثين والمفكرين، والمثقفين السوريين والعرب لا يفرقون بين الاستبداد، والدكتاتورية.
الدكتاتورية نظام سياسي يتمحور حول الدولة، في حين النظام الاستبدادي يتمحور حول السلطة. في الحالة الأولى يعمل الدكتاتور على بناء الدولة، ولتحقيق هذا الهدف المركزي، فهو يكرس جهد السلطة لتنمية المجتمع، في مختلف الحقول، الاقتصادي، والعلمي، والعسكري، والقانوني، وفي جميع الجوانب التي تجعل الدولة قوية ومهيبة. التنمية التي تنتهجها الدكتاتورية هي تنمية حقيقية تركز على الإنتاج، وليس على الاستهلاك، على البشر بالتوازي مع الحجر، ولهذا الغرض فهي تعمل على خلق بيئة استثمارية جاذبة، تقوم أساساً على الحرية الاقتصادية، والتنافس في بيئة تشريعية وقانونية مضبوطة. في مثل هذا النظام وبعد حد معين من التراكم التنموي الكمي، والتحول النوعي في البنى الاجتماعية يتراجع طابعها الأهلي، لصالح نمو طابعها المدني، يصير التحول في المستوى السياسي أمرا لا مفر منه، وهذا ما حصل بالفعل في جميع الأنظمة الدكتاتورية، وهذا ما سوف يحصل في الصين في المستقبل. والتحول هنا عملية موضوعية وليس إجراء فوقياً، فالتراكم التنموي الجاري، يولد نظاما في المصالح، يتجاوز إمكانية الغلاف السياسي الخارجي الضابط للسلطة على احتواء التراكمات الحاصلة في المجتمع، فتدفعه للتحول إلى شكل من أشكال الديمقراطية.
أما بالنسبة للنظام الاستبدادي، فهو يتمحور كما ذكرنا حول السلطة، لذلك يكرس المستبد كل جهده، لتقوية السلطة، سواء بتقوية الأجهزة الأمنية وتمكينها، أو بإضعاف المجتمع بإنعاش جميع البنى الأهلية وتمكينها في حدود مواجهتها للبنى الأهلية الأخرى، وتحويل البنى المدنية إلى هياكل فارغة، تؤدي دور الأجهزة تجاه منتسبيها، وتجاه السلطة.
التنمية التي يقوم بها النظام الاستبدادي هي تنمية ريعية، تركز على قطاع الاستهلاك، وعلى القطاعات الخدمية سريعة الربحية، وكذلك على ما يسمى بمشاريع الأبهة، المستنفذة للتراكمات المالية.
النظام الاستبدادي هو نظام فاسد، الإفساد فيه هو أسلوب في إدارة الدولة والمجتمع، وليس مجرد ظاهرة ترافق أي عمل تنموي. وفي المحصلة فإن نتائج هذا النوع من التنمية تصب في جيوب طغمة من بطانة المستبد، لترحل بعد ذلك إلى الخارج.
النظام الاستبدادي تغلب عليه السمة الذاتية الإرادية، تستنسخ فيه مستويات الإدارة المختلفة للسلطة صورة المستبد، في التعامل مع موضوعاتها.
في ضوء السمات السابقة الذكر، يصير مسار التحول من النظام الاستبدادي، إلى النظام الديمقراطي مساراً انفجارياً، في الغالب الأعم، يحتاج إلى بيئة دولية مناسبة. ففي سورية على وجه الخصوص، وفي الدول العربية بصورة عامة، يجري التحول الديمقراطي مستنداً إلى البنى الاجتماعية الأهلية، أقوامية كانت أم دينية، أم قبلية وعشائرية، يحاول التوليف بينها بصورة تلفيقية، على حساب منطق الدولة. ويعود سبب هذا التركيز على البنى الأهلية، إلى غياب فكرة المواطنة أو تغييبها، او عدم نضجها واستقرارها في الوعي العام، لصالح فكرة الانتماء إلى الطائفة، والعشيرة، والعائلة وغيرها من بنى أهلية.
إن التفريق بين النظام السياسي الدكتاتوري، والنظام السياسي الاستبدادي، مسألة في غاية الأهمية لفهم طبيعة الأوضاع العربية ومنها السورية، وصعوبة دخول العرب في الحداثية. وفي سياق التفريق بين النظامين تبرز أيضاً مسألة غياب عصبية جامعة، بالمعنى الخلدوني، على الرغم من الظروف الموضوعية، والتحديات الكبيرة التي واجهت، ولا تزال تواجه العرب، في أمنهم وفي غذائهم، وفي مائهم، وفي ثروتهم، وبالتالي في وجودهم. والعصبية الخلدونية المقصودة في الظروف الراهنة، ليست سوى مشروع نهضوي قومي حداثي عام، أو مشروع تنموي قطري يتمحور حول فكرة بناء الدولة الحداثية المزدهرة القوية، بأفق قومي. وإذا كانت المشاريع القومية في صيغتها الناصرية، أو البعثية، أو في صيغة القومين العرب، قد منحها التاريخ فرصتها، فأفضت إلى أسوأ استبداد عرفه السوريون، والعراقيون، والمصريون، وبلدان عربية أخرى استلهمت الفكر القومي ذاته، منذ بدء ما يسمى بعصر النهضة العربية الحديثة، بسبب تجاهلها لأهمية الحرية والديمقراطية. من جهتها المشاريع النهضوية القطرية بأفق قومي، او بدونه، لا تزال في حيز الوجود الممكن بالقوة.
لا نغالي إذا قلنا أنه لم يتهيأ لأمة من الأمم، في العصر الحديث والراهن، من مقومات النهوض والحداثة، مثلما توفر للعرب مجتمعين، أو مثلما تهيأ لبعض دولهم المركزية الأساسية ومنها سورية. فالموقع الجيوسياسي بين القارات الثلاث فريد من نوعه، والثروة الريعية الوفيرة، والتراكمات المالية الناجمة عن الثروة الريعية كبيرة جداً، والقوة البشرية الكبيرة، وكثرة العلماء العرب المهاجرين والمقيمين، والثقافة والتاريخ المشتركين، يضاف إليها التحديات الكبيرة التي خلقها زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وبروز مشاريع إقليمية لا تخفي مطالبها تجاه العرب، جميعها عوامل للنهوض والتقدم، ومن ثم للحداثية. وبدلاً من ذلك تحولت هذه المقومات، بفضل الاستبداد العربي إلى عوامل قوة للآخرين، وتخلف للعرب.
لقد استطاعت إيران خلال نحو ثلاثة عقود أن تتحول إلى دولة قوية، علمياً وتكنولوجياً، واقتصادياً، وثقافياً، وسياسياً، على الرغم من الطابع الديني لنظامها السياسي، بل بسببه. لقد نجحت إيران في الانفتاح على شكل من أشكال الديمقراطية، وان تجمع غالبية الإيرانيين الساحقة على عصبية خلدونية، يكثفها مشروع تنموي طموح لكنه واقعي، يقوم على العلم والثقافة، وتوظيف جميع ثروات البلد، والمجتمع في خدمة هذا المشروع. بالطبع إيران تملك مقومات كبيرة للنهوض والتقدم، مثل الموقع الجيوسياسي، والثروة الريعية، والكتلة البشرية، وهي مقومات كانت متاحة لإيران في عهد الشاه، لكنها لم تستخدم لصالح نهوض إيران. فقط في عهد الجمهورية الإسلامية، استطاعت إيران أن تواجه التحديات التي فرضت عليها، من قبيل حرب ظالمة استنزفتها، وحصار غربي خانق، وتحولها إلى أسباب للتقدم، والقوة. هذه التراكمات النهضوية التحديثية الجارية في إيران سوف تزيل مع الزمن ما يمكن أن يشكل إعاقة لها في المستقبل، سواء على صعيد المجتمع، أو على صعيد الفقه الديني، أو على صعيد النظام السياسي، وإن إرهاصات ذلك بدأت في الظهور. ثمة مغالطة كبيرة لدى بعض الدارسين والمهتمين بالشأن الإيراني، الذين يربطون بين الحراك السياسي الذي شهدته إيران، في الفترة الأخيرة، بين من يسمون بالإصلاحيين والمتشددين، والتدخلات الخارجية. فالخارج بلا شك يحاول استغلال الأحداث، لكن ما يجري في إيران هو نوع من التنافس بين رؤيتين سياسيتين، كلتاهما تتمحوران حول فكرة بناء الدولة الإيرانية الحداثية، وإزاحة ما بدأ يظهر على السطح من معوقات لها في طبيعة النظام السياسي القائم.
تركيا بدورها نموذج نهضوي حداثي آخر، بدأ عملية التحديث في ظل الدكتاتوريات العسكرية، لكنه سرعان ما تجاوزها إلى النظام الديمقراطي، نتيجة التركيز من حيث الأساس على فكرة الدولة الحداثية. ما كان من الممكن ان تؤدي تركيا هذه الأدوار السياسية اللافتة في المنطقة، لولا رؤيتها الاستراتيجية لأهمية المجال الحيوي العربي لاستمرار مشروعها النهضوي الحداثي. من هذا المنطلق وحده يمكن فهم حدة موقفها من إسرائيل، التي تربطها بها مصالح كبيرة ومتنوعة، ويمكن فهم خروجها عن بيت الطاعة الأمريكي، وتوجيهها رسالة ذات دلالة بالغة لأوربا بأنها لا تستجدي الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ولا ترضى بأن تكون زيلا فيه، فلديها خيارات أخرى، لا تقل أهمية عن الاتحاد الأوربي.
بدوره المشروع الصهيوني في فلسطين، استطاع أن يحول الخرافة والأسطورة، إلى عصبية خلدونية، يترجمها على الأرض نهضة علمية، وتكنولوجية واقتصادية لافتة، مكنته في أن يقف في وجه النظام السياسي الرسمي العربي ويهزمه. وإن القول في أن دعم الدول الغربية لهذا الكيان كان العامل الحاسم في نجاحه وبقائه، هو قول فيه الكثير من المبالغة. وعموما هذا سبب آخر، كان ينبغي توظيف التحدي الذي مثله أمام العرب، لنهوضهم وتقدمهم، وليس سبباً لتخلفهم وضعفهم.
هذه نماذج نهضوية إقليمه مجاورة تتنافس على مجالنا الحيوي، وقد نجحت إلى حد بعيد، وهناك العشرات من النماذج الأخرى في مناطق مختلفة من العالم. ويبقى السؤال، لماذا يفشل العرب وينجح غيرهم؟ لنبحث عن الجواب في طبيعة النظام السياسي العربي، لا في غيره، فما هو كامن في غيره، يندرج في إطار التحديات التي ينبغي أن تحفز العرب على النهوض والتقدم، وليس العكس.
كان لافتا في محاضرة الدكتور جورج قرم تركيزه على أهمية الحرية الفردية، كمدخل إلى الحداثية. ونحن بدورنا نتقف معه في ذلك، كما نتفق معه في رؤيته العامة للعلمانية.
الحرية صيرورة تكون إنساني، إنها عملية تحول من وضعية الكائن البشري إلى وضعية الكائن الإنسان، بما يعنيه ذلك من تحول عميق في البيئة الموضوعية المادية، والثقافية المحيطة بكلا الوضعيتين. لذلك تعد الحرية من جملة الحقوق الطبيعية للإنسان، مثل الحق في الأكل والشرب، والحق في العمل، والحق في بناء أسرة، وغيرها. الحرية عملية مولدة لغيرها من العمليات، فبدون الحرية لا مسؤولية، ولا محاسبة. وبدون الحرية والمسؤولية والمحاسبة تسود شريعة الغاب. في غياب الحرية يسلطن الخوف، وتموت إبداعات ومبادرات الناس، ويصبح الطريق إلى التخلف والضعف والهزيمة ذو اتجاه واحد.
من نافل القول مدى اهمية الحرية بالنسبة للتطور العام لأي بلد، وان الحرية لا تشترطها إلا الحرية ذاتها، بغض النظر عما تولده في المجتمع من تفاعلات. إنها إطلاق لقوى المجتمع الخلاقة، التي من خلال تفاعلها تتحدد فاعلية أعظمية لقوى التقدم الاجتماعي.
إن تخصيص الكلام عن الحرية، وإبراز أهميتها هو من قبيل وضع المفتاح الأول والرئيسي للتقدم الاجتماعي باليد، أما المفتاح الثاني فهو الديمقراطية. فإذا كانت الحرية ذات قيمة عامة، فإن الديمقراطية شديدة التميز، إنها بناء نظام في المصالح يتيح فرصا متكافئة لبروز جميع تناقضات المجتمع، وصراعها، وحلها بطريقة سلمية وقانونية. في إطار هذا النظام تمارس القوى الاجتماعية حقها في الاختلاف، وحقها في الدفاع عن كونها مختلفة. الديمقراطية، وعلى الرغم من ضرورة تكثيف حضورها في الحقل السياسي، فإنها تتجاوز ضرورة حضورها في هذا الحقل، إلى الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها من الحقول. إنها ببساطة ركن أساسي من أركان الحداثية، لا تكون هذه الأخيرة بدونه، ولذلك كان لافتاً تجاهل الدكتور جورج قرم في محاضرته عن "تحديات الحداثة" لأهمية الديمقراطية، وعدها نتيجة للحداثة، وليست سببا من أسبابها، في جوابه على أحد الأسئلة.
أما بالنسبة للعلمانية، ورفض الدكتور قرم لدلالتها الاصطلاحية المتكونة في السياق الأوربي، والوظيفة التي أدتها في ذلك السياق، فهذا أمر نتفق معه به. غير أن الرفض لوحده لا يكفي، خصوصا، وأن العلمانية هي من الموضوعات المطروحة بكثافة في الحقل الثقافي والسياسي في سورية وفي بقية البلدان العربية، وتشكل حداً معياريا لتمايز جميع أطياف الإسلام السياسي النشيط، والفاعل في الوقت الراهن، وكذلك لجزء كبير، ومهم من الجمهور العام. الموقف من العلمانية من وجهة نظرنا لا يتحدد من خلال فصل الدين عن الدولة، والمدرسة عن الدين، كما جاء في السياق الأوربي، فالدولة العربية ليست دينية، والدين لا يسيطر على المدرسة، بل على العكس، كان الدين ولا يزال يؤدي وظائف متنوعة في خدمة السلطات الزمنية، تستخدمه لتأمين الغطاء الأيديولوجي لسياساتها.
مفهوم العلمانية، من وجهة نظرنا، يحيل بدلالته الاصطلاحية إلى ثلاث مكونات هي: الإقرار بالاختلاف، والإقرار بالحق فيه، والإقرار بالحق في الدفاع عن الوجود المختلف. وبناء عليه فإن العلمانية ليست هي تلك التي تتعين سلبا بدلالة الدين، بل بدلالة المقدس، سواء أكان دينيا أم وضعياً لا فرق، أي بدلالة رفض الاختلاف، ورفض الحق فيه، ورفض الحق في الدفاع عنه، أو هي تلك التي تتحدد إيجابا بدلالة الإقرار بالاختلاف، والحق فيه، والحق بالدفاع عنه. وعليه تسقط صفة العلمانية عن النظام السوري، وعن كل نظام دكتاتوري، أو استبدادي مهما كان موقفه من الدين، لمجرد أنه لا يقر بالحق بالاختلاف، ولا بالحق في الدفاع عنه، أي لكونه يزعم امتلاك الحقيقة كاملة، ويعايرها في الواقع بدلالته اتفاقا.
العلمانية، بالمعنى الذي ذهبنا إليه، تتيح فرصا أمام جميع القوى الاجتماعية للتنافس في سبيل استقصاء مصالحها، والدفاع عنها على قدم المساواة، إنها فتح لخيارات أمام القوى الاجتماعية المختلفة لتجيب عن أسئلة الواقع، بغض النظر عن منطلقاتها الفكرية، والأيديولوجية. العلمانية المطلوبة هي إلغاء للأحادية في التفكير، وفي السياسة، وفي البناء الاجتماعي، وفي النظرات ومنظومة القيم. المشكلة لا تكمن في الدين ، بل في بعض القراءات الأيديولوجية والسياسية المتطرفة للدين . بفضل هذه القراءات المتطرفة، أو تلك التي تختزل الدين في جانبه الطقوسي، أو الأيديولوجي، تم القضاء على الروح النهضوية في الدين( قدرته على تكوين عصبية خلدونية)، وتم تحويله، من ثم، من رافعة ممكنة وقوية للتقدم، إلى أداة من أدوات التخلف، في يد بعض القوى السياسية الفاعلة. لقد استطاع حزب الله، وحركة حماس في فلسطين، كحركات تحرر وطني، أن تقدم نموذجاً من العصبية ، وتوظفها بصورة ناجحة ضد العدو الصهيوني. وأكثر من ذلك فقد قدم حزب الله نموذجا في الخطاب السياسي، وفي التعامل السياسي، زاوج فيهما بصورة لافتة بين التشدد العقائدي، والبراغماتية، وهو بذلك تجاوز الكثير من الأحزاب السياسية غير الدينية. مع ذلك، ورغم كل ما قدمه حزب الله من نموذج ناجح كحركة مقاومة، وكحزب سياسي، فهو لا يرقى إلى مستوى أن يشكل رافعة حداثية، طالما هو منغلق على نفسه كحركة مقاومة، وكحزب في إطار الطائفة والمذهب. من الأهمية بمكان أن يتحول حزب الله، أو تنظيمه المقاوم على الأقل، إلى حركة وطنية، تتجاوز علبته الطائفية، إذا كان عليه ان يساهم بالحركة الحداثية بصورة عامة.
الدين هو معطى أصيل وعميق في حياة العرب، في ثقافتهم، وفي حياتهم الاجتماعية، وفي منظومتهم القيمية، وهو ينوس بين: وادفع بالتي هي أحسن، ولا إكراه في الدين، وبين واقتلوهم حيثما ثقفتموهم. وبالانحياز إلى الطرف الأول من هذه المعادلة، وقراءتها بصورة نهضوية حداثية، كما هي في جوهرها، يمكن تشكيل عصبية بالمعنى الخلدوني، تدخل العرب في العصر بصورة ديناميكية. لكن لماذا تنجح القراءات السياسية للدين من موقع الطرف الآخر(واقتلوهم حيثما ثقفتموهم)، في حين تتعثر كثيراً قراءته من موقع الطرف الأول المعبر أساسا عن جوهر الدين؟ لنبحث عن السبب لا في الدين ذاته، بل في النظام السياسي الاستبدادي العربي. إن قتل الروح السياسية في المجتمع، وتعميم القمع، وتخريب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والإفقار الممنهج للأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع لصالح طغمة ضيقة من زبانية السلطات السياسية، ونهب الثروة الوطنية وتهريبها إلى الخارج، والفشل الذريع في المسائل الوطنية، خصوصا أمام العدو الصهيوني، والاذعان المذل للهيمنة الأمريكية، والمشاركة في حروبها الظالمة في العراق وأفغانستان، وغيرها كلها عوامل ساهمت في خلق بيئة ملائمة للتطرف. النظام السياسي الرسمي العربي الاستبدادي، هو المسؤول أولاً وأخيراً عن التطرف الذي تشهده ساحة العمل السياسي في البلدان العربية، وإن المخرج الوحيد من كل ذلك يكمن بالضبط في تعميم مناخات الحرية والديمقراطية.
كما ذكرنا سابقا فإن النظام ذاته في بداية عهد بشار الأسد حاول ان ينظم ويرعى العديد من المشاريع البحثية لخدمة سياساته الجديدة في التحديث والتطوير، ومع ان العديد منها قد تم إنجازه بمشاركة مئات الباحثين السوريين، لكنه وضع في الدرج، ولم ينفذ منها شيئا، بل تم الارتداد على الهامش الضيق للحرية الذي فتحه فغلقه، مما كان له دور في انفجار الأزمة في عام 2011.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10-جورج قرم، تحديات الحداثة العربية،16/7/2010، http://www.georgescorm.comتاريخ الدخول 27/10/2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل