الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين و توجه الطبع المنتج أو غير المنتج. راينر فونك

حميد لشهب

2019 / 9 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يمكن الحكم على دين ما وعلى الممارسات الدينية انطلاقا من التأثير الذي تحدثه في نفس الإنسان، يعني أي نوع من أنواع توجه الطبع أو توجه العواطف تحدثها وتقويها عند الممارس لهذه الديانة أو تلك. وقد اهتم فروم فيما يتعلق بالدين بالجانب السلطوي فيه ووضح المنطق السادي المازوخي له. كما أنه وضح ديناميكية الإستيلاب في علاقة الفرد بالله، بحيث أن المرء يتخلى عن أهم قواه الداخلية في هذه العلاقة بما في ذلك التحكم في الذات وقدرته على التعقل وعلى الحب وعلى الحكمة وعلى القوة الخلاقة فيه، ويعكس هذه القدرات الذاتية على الله، خاضعا ومستسلما له. وهكذا فإن منبع الحياة وقيمها لا يوجد في الإنسان ذاته، بل إنه يأخذها كهدية إلهية قابلا إياها شاكرا حامدا.

تثقل تأثيرات مثل هذه الديانات والعلاقة بالله ظهر الممارس بطريقة يفقد فيها المرء الثقة في نفسه ويستقر خوف كبير أو صغير داخله دون ضياع العلاقة بالله، كما أن الشعور بأن المرء يعيش ذاته يعتبر خطيئة ومليء بالخجل، ويصبح حب الآخرين ليس قدرة إنسانية خاصة وأصيلة لكن فقط هدية من الله.

على الرغم من أن هذا النموذج ما يزال حاضرا في الممارسات الدينية، فإن هناك توجهات طبع جديدة طفحت على السطح في السنوات الأخيرة. والملاحظ هو أن هذه التوجهات الجديدة هي التي تحدد اليوم الظاهرة الدينية في كليتها، وتفرض على المرء الخضوع لها بطريقة مطلقة، يعني الدفع به إلى تبعية نرجسية تشبه التبعيات الجسدية المعروفة لأدوية أو مخدرات بعينها. من زاوية سيكولوجية فإن الأمر يتعلق في غالب الأحيان بأنسقة نرجسية جماعية، يكون فيها الفرد المأخوذ معزولا عكسا للنسق الأصلي وللأفكار الدينية للشيخ أو رئيس الفرقة الدينية التي ينتمي إليها. ويمكن أن نلاحظ أيضا بأن هناك الكثير من الممارسات الدينية التي لا تتطلب بالضرورة هذا الإرتباط النرجسي بها في طريق البحث عن الخلاص، بل أكثر من ذلك فإنها تحاول إقامة نظام عُصابي، يفهم الواقع بطريقته الخاصة.

للظاهرة الدينية في المجتمعات المصنعة أهمية خاصة: كيف هو الإستيلاب الديني في المجتمعات المنظمة على أساس السوق؟ كما رأينا، فإن المرء يعكس في التوجه السلطوي قدراته وإمكانياته الذاتية على سلطة خارجة عنه. أما في توجه السوق (أو أكثر من هذا في التوجه الهدام Nekrophile) فإن الإستيلاب يكمن في كون الإنسان يعكس قوته الخلاقة على الأشياء التي يصنعها بيده باحثا عن تحقيق ذاته في هذه الأشياء بطريقة يبحث فيها عن الخلاص بالميل إلى الأشياء (وليس بالإستسلام إلى سلطة ما). فالإستيلاب يعني هنا عدم التركيز على القوة الذاتية، بل انتظار الخلاص بفضل الأشياء التقنية والأشياء المصنوعة من طرف الإنسان.

يعتبر الدين هنا مفهوما متبادلا من طرف السوق وتوجه الإمتلاك ويتمظهر التدين بالإعتراف بالتبعية للتسويق والبحث عن النجاح الإقتصادي وتقنية بيع النفس بالنفس إلخ. وتتمثل أوقات صلاة إنسان السوق في حملات الإشهار في التلفاز، ذلك أن الإشهار يخلق عالما يعد بالخلاص، يمكن للإنسان أن يحصل عليه بشراء قنينة خمر معتق لكي يصبح عطوفا وأحدية الريبوك Reebock ليصبح رياضيا.

يقدم مشكل الدين نفسه بالنسبة لي بطريقة يستقطب فيها استراتيجيوا السوق اليوم الناس موهمين إياهم بأن الواقع المصنوع يخلص أكثر ويحقق رغبات أكثر بكثير من الواقع الفعلي في تناقضاته. ولهذا السبب تزدهر وتزهر حاليا عوالم الإنترنيت وصناعة الترفيه والأسفار الخيالية. ويقدم الدين نفسه اليوم في شكل برامج ترفيهية والتسويق الثقافي لأبناء العم ماك (ماك دونالدس) و ثياب بينيتون Benneton أو في عالم هوجو بوس Hugo Boss وفوق جزر عطلة روبينسون.

قد نتساءل هنا عن البديل، عن فهم وممارسة الدين يسمح بالخلاص ويتضمن تأثيرا إيجابيا، يعني الدين المنتج/الخلاق لكي نستعمل عبارة فروم نفسه. في سنة 1950 نشر كتاب فروم "التحليل النفسي والدين"، الذي حلل فيه ليس فقط استيلاب الدين السلطوي، بل قدم أيضا خصوصيات الدين الإنساني الخلاق، الذي يقود الإنسان إلى أن يصبح راشدا، يختار التوجه الخلاق الذي يمكنه أن يصبح ذاتا من جديد دون أن ينكر حدوده ومحدوديته الدنيوية. وكما قام بذلك فرويد، فإن فروم انتبه في إطار نشاطه العيادي بأن ما يشفي ليس هو الإنصهار في متطلبات الحياة، لكن صيرورات بلوغ نفسية تسمح للخاصيات الشخصية بالظهور والتحقق لكي تصبح جزء من الأنا. فالسماح بتفتح ما هو مكبوت وما هو مخبأ وما يقاومه المجتمع يساعد على بلوغ النفس مرحلة نضجها. والأساسي هنا هو ليس تعرية الرغبة الجنسية المختبئة وراء كل هذا، بل أكثر من هذا السماح بعيش القوى النفسية كقوى ذاتية وتشجيع الميول النفسية التي تقوي الذات وتوجهها إلى المحبة والتعقل وربط علاقة بينها وبين المحيط الطبيعي و الإنساني الذي تعيش فيه. وكلما عاش الإنسان حياته كفاعل ذاتي في هذه الحياة، كلما استطاع أن يطور قوى العقل والحب فيه، وهي قوى تسمح له بربط علاقة بالعالم وبالناس دون أن يفقد ذاته.

ترجمه عن الألمانية: حميد لشهب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية