الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العطش المعرفي اي واقع في المحتمع العربي

عادل امليلح

2019 / 9 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


جاء في كتاب تاريخ موجز للزمن، للعالم البريطاني "ستيفن هوكينج" ما يلي «إن الرغبة الإنسانية العميقة في المعرفة لهي مبرر كافي لبحثنا المتصل.. » ومنه يمكننا القول أن المعرفة مهما كانت طبيعتُها فهي تقتضي وجود الرغبة قبل كل شيء، وما العطش المعرفي إلا تلك الرغبة الإنسانية في السعي وراء المعرفة، وليس أيّ سعي، بل سعيًا تتجسد فيه الروح العلمية للأفراد والمجتمعات، وكذلك للأمم والحضارات الراغبة في التطور والتقدم، تفكيرًا وعملاً، لسيرِ في ركب الحضارات المتقدمة والطامحة إلى التميز ثقافيًا وإقتصاديًا وعلميًا..

وإذا كانت معدلات القراءة ودعم البحث العلمي ونهج برامج تربوية متطورة ومتكاملة بالإضافة إلى توظيف الإعلام المعرفي تشكل أحد المرتكزات الأساسية لهذا الطرح، فإن بُروز رغبة الفرد في بناء ذات واعية ومثقفة هي قبل كل شيء العمود الفقري والجوهر الحقيقي لهذا العطش، غير أن هذه الرغبة لا تأتي بالصدفة أو عبر قرارت عاجلة، بل نتاج مراحل من التعلُم والبناء يرسخ من خلالهما الفرد والمجتمع قناعات خاصة، بضرورة مطلقة تجاه العلم ومنطق العلم، ذلك أنه الخلاص الوحيد والأوحَد من الجهل والتخلف، وإغفال دوره المحوري لهو سيد الأسباب في إفشال أي مشروع حضاري وسياسي وتنموي، وكل رؤية تهدف إلى الرقي بِذات الفرد وذات المجتمع، ولذلك فإن المعرفة ليست ضربًا من الترف وصورة من صور الكمال كما يعتقد البعض، ولكنها عماد كل حضارة ورُكنها الأساسي الذي تَرتكن عليه، وبدونها لاتقوم لها قائمة أبدًا، ولعل أعمق مثال على هذا واقع المجتمع الأوروبي منذ بداية القرن الرابع عشر، حيث بدأت النُويّات الأولى للمعرفة تَشع في كيان الحضارة الأوروبية، في حين كانت حضارات أخرى قد أخذت منحى الآفول والضعف مثل الحضارة العربية الإسلامية التي رَسم على إثرِ واقعها أنذاك إبن خلدون نظريته حول دورة الحضارة.. وبما أن الكون لايقبل الفراغ، فإن الفراغ المعرفي في الحضارة الإسلامية قابله إشعاع معرفي في الحضارة الأوربية مشكلاً ريعان شبابها ومهد إنطلاقها صوب الإزدهار والتقدم، ولقد كانت المعرفة خلال هذه الفترة تقوم على أساسين: الترجمة الكثيفة للتراث الأندلسي العربي والتراث اليوناني والروماني من جهة، ومن جهة أخرى العقلية التوفيقية التي حاولت التوفيق بين الفكر الأرسطي والمسيحية، هذه النزعة التي عكستها الفسفة الرُشدية (نسبة إلى إبن رشد) في الحضارة العربية الإسلامية عندما حاول التوفيق بين الشريعة والحكمة ويبين ما بينهما من إتصال وإنفصال.. وعلى كل حال فعندما كانت الحضارة الإسلامية تختم مسيرتها بالخلدونية، كانت الحضارة الأوروبية تفتح مسيرتها بالأپلارية (نسبة إلى أبلار) والأكوينية (نسبة إلى توما الأكويني).. حيث يعود الفضل لهما في إحياء النقاش الفلسفي بعد قرون من العقم الفكري والجمود المعرفي، ومع مطلع القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت أوروبا قد بلغت درجة اليقين بأن لامناص لها من طغيان الكنيسة وفكرها الخرافي وتجبر رجال الدين ورجال السلطة، إلا من خلال تأثيث أوروبا جديدة، قائمة على العلم والمعرفة، أوروبا العقل، أوروبا تتخطى حدود القيم المفلسة والمبادئ الميتة التي أسست قرونا من السواد، جعلت الإنسان الأوروبي يعيش بين براثين القهر والظلم..
ولما كانت الكنيسة تستمد جذورها ومشروعيتها من الكتاب المقدس، وتدعي خلافة الرب في الأرض، وتضع شروطًا معينة أمام العقل، وتتحالف مع الإستبداد.. كانت النزعة الثورية ضدها تختمرُ رويدًا رويدا، هذه النزعة التي آمَنَ رُوادها بضرورة إستنطاق الطبيعة والرفع من قيمة العقل إلى حدود القداسة، بالإضافة إلى إعادة إحياء التراث الأرسطي خاصة واليوناني عامة، بعدما عطلته الأغسطينية (نسبة إلى القديس أغسطين) ووسمته بالوثنية واللافعالية.. مما أعطى دفعة قوية للوضعية (أي قدرة الإنسان على خلق قوانين وتشريعات بديلة للقوانين الدينية، مثل القانون الوضعي، وإن كان هذا المفهوم سيعرف تطورا كبيرا فيما بعد، مثلا وضعية سان سيمون وأغوست كونت..) والبحث في سبيل كل ما هو وضعي، وبما أن هذا يتطلب بحثا متواصلاً ومتأصلاً، وجهدًا فكرًيا عظيمًا، فإن الظرفية السياسية في أروبا كانت مواتية للعلماء والمفكرين بالإضافة إلى أسباب أخرى أسهمت في إستمرارية الصرح المعرفي الأوروبي وتطوره، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، حرية التنقل التي كانت متاحة أمام المفكريين والعلماء في بعض الدول الأوروبية، خاصة تلك المعارضة لمنهج الكنيسة وسلطتها، مما وسع دائرة إنتشار المعارف وتبادل المواقف، وكذلك الفرار من الكنيسة التي جعلت الهرطقة شعارًا لكل من يخالف تعالِيمها، وهذا جعل المعرفة موضة العصر، قابل الأوروبيين ذلك بلهفة جامحة في إمتلاكها والسعي وراءها وأيضا إمتلاكهم لثقافة القبول بكل ماهو جديد، بغية فهم القوانين العامة التي تحرك هذا الكون والبحث عن سبُل التغيير والرقي، توج ذلك ببروز مشاريع إصلاحية كبرى غاية في الثورية، ومشاريع علمية عظيمة لايزال يتردد صداها حتى يومنا هذا، جاءت اللوثورية (نسبة إلى المصلح الديني مارتن لوثر) بمذهبها الجديد متجاوزةً الرؤية الوحدوية للكنيسة الكاثوليكية، ثم تلاها الفتوحات العلمية على يد كل من كبرنيقوس وغاليليو التي محقت الثوابث والمسلمات وقلبت الأوضاع في أوروبا رأسًا على عقب، وبعدها الثورة النيوتنية في الفيزياء.. لقد كانت اللحظة الفارقة في تاريخ العلم والمعرفة بظهور عباقرة الإبداع والإبتكار، الذين كان لهم أيما دور في إرساء قواعد الغرب الحديث..
إن الثورة الفرنسية(1789م) باعتبارها أول ثورة إيديولوجية شهدها العالم، والثورة الصناعية(1750م) بكونها إنقلابا في أنماط النشاط الإنساني وبداية علاقةٍ جديدة بين الإنسان والطبيعة، لم تكن هتين الثورتين نتاج الظرفية، وإنما نتاجًا حتميًا لمرحلة تكثيف المعارف الأولية وإشاعتها بين العموم، وكذلك إستفادت من الآفاق الجديدة التي فتحها العقل أمام الإنسان، بعدما كان مختزلا في التعبد والتقليد.
أروبا اليوم بكل ما تعرفه من تطور وتمايز وتقدم، إنما كانت بواعثها الأولى، ذلك العطش المعرف أو النهم المعرفي الذي ساد المجتمع وكان هاجسها الأول والأخير، وما إنفك أن إنقلب ثورة كونية هزت ملامح العالم بأسره، إذا سرعان ما إنتقلت إلى بعض مستعمراتها كالولايات المتحدة الأمريكية، ثم إستجابت لها بعض المجتمعات كالثورة الفكرية في مصر… واليوم لم يعد الأمر بيد الحضارة الغربية فقد ظهرت فرقاء أخرى كالصين والهند واليابان…
وإذا كانت هذه الصور من واقع التاريخ تشكل أمثلة حية لما قد ينتج عن العطش المعرفي وسيادته مجتمع ما، فإنه بالنسبة للمجتمعات العربية يكاد يلثم العدم، ودليلنا على ذلك أننا نلاحظ أن معدلات القراءة لاتتجاوز بضع صفحات للفرد سنويًا، ومستوى التعليم وقيمة البحث العلمي، تبقى دون الحد الأدنى لنسلم بوجود رغبة المعرفة، أما عن دور الإعلام المعرفي فلا مجال هنا للتلميح!! اللهم الفضاءات التي وفرتها الثورة الرقمية، والوسائط الإفتراضية، وما يزيد الطين بلة أن نسب الأمية الحقيقية والمقنعة تكتسح السواد الأعظم من المجتمعات العربية.. كل هذا وغيره يشكل سدا منيعا أمام التقدم وينقص حظوظنا في أن نعيش بكرامة في هذا العالم الموسوم بالصراع والإستغلال.
والواقع أننا لا ندري الأسباب الحقيقية التي تجعل من أمة بهذا القدر معطلة معرفيًا وعقليًا، وإنني أظن أن التخلف المعرفي الذي نعاني من تبعياته مرتبط بالجهل من جهة، وعدم وجود ثقافة علمية من جهة ثانية، ومهما تكن الأسباب فإنها لاتبرر أبدا هذا التأخير الذي يترجم في نظري إلى إنعدام الرغبة والقدرة في التقدم والتطور، سواء من طرف مؤسسات الدولة أو من طرف المجتمع المدني والأفراد، فليس من المعقولية في شيء أن يقابل الفرد العربي فلسفة التجهيل التي تنهجُها العديد من الأنظمة بتجهيل ذاتي مماثل، ففي الدولة التي تعادي المعرفة لابد للفرد أن يسعى إلى تملكها مهما كان الثمن، وثقافة الشتم والشكيمة، وأسلوب الهجاء والرثاء أشياء عفى عنها الزمان، فعصر اليوم هو عصر الفعل، ولا فعل من دون معرفة.
ولذلك فإن النخبة العربية اليوم يقع على عاتقها البحث عن السبل الممكنة لتجاوز هذه الوضعية التي أقل مايمكن القول عنها أنها مقرفة للغاية، وتعيد سؤاسؤالمدني والطبيعي إلى الواجهة، فنحن لاندري إذا كنّا نعيش حياة الطبيعة أم حياة المدنية بتوصيف هوبسْ!! وموقف الأخر منا سلبي للغاية فهو ينظر إلينا من نافذة الموارد المادية وليس من كوننا بشرية لها ثقافتها وإرثها، ذلك أننا نفتقد إلى الوزن العالمي، لذلك فهي مطالبة بالواقعية والعضوية تجاه المجتمع وتجاه العالم وأن تتجنب الخطاب المتعالي الذي إعتادت بعض النخب إتقانه، لأن أي مشروع حضري مهما كان، يستلزم وجود مجتمع المعرفة، مجتمع علماني متحر، حتى، يتسنى له القبول والتبني للكل ثقافة علمية، ومثال على ذلك الربيع العربي الذي إفتقد إلى وجود أُسس نظرية توجهه، وبالتالي نقول بضرورة إشاعة المعرفة أولا ودعوة العموم إلى ممارسة الفعل المعرفي، والإنخراط في القراءة المكثفة والبحث المتواصل، وهذا يقتضي تحديدا دقيقا للأولويات..

إن أي رغبة في التقدم والتطور اليوم مرهونة بإقتصاد المعرفة، وتنامي الكتلة الديمغرافية اليقِظة، التي تؤمن بالعلم وتمارسه في حياتها العلمية والإجتماعية، ذلك أننا نؤمن بحق، أن المجتمع الذي تشاع فيه ثقافة العلم، لايمكن أن يُخذل أبدًا، ولايمكن إختراقه والتطفل عليه، لأنه مزود بسلاحين سلاح المعرفة وسلاح الوعي، ولسوف نأَكد دائما على أن بناء مجتمع المعرفة ومجتمع التنوير، يقتضي إعادة توجيه البوصلة نحو الطبيعة لأنها مصدر أكثر قيمة للحقيقة، بمعنى لايجب أن ننغمص في الخطاب الفلسفي والديني وحده بل ضرورة الخطاب العلمي، فالطبيعة هي مختبر التجديد والتقييم.

وأختم بهكذا القول ((إن المعرفة هي التي تولد الثورات العلمية والفكرية وهي السبيل للتغيير والرقي الإجتماعي والتقدم الحضاري، وغير هذا فهو ضربُ من التقليد والتخلف وكذلك الإستمرار في مسيرة النكسات والنكبات التي إعتدنا المسير فيها منذ قرون خلت))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت