الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من وراء إنحراف الثورات؟

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2019 / 9 / 21
مواضيع وابحاث سياسية



يذهب الكثير من علماء إجتماع الثورات، وعلى رأسهم كرين برنتون Crane Brinton في كتابه "تشريح الثورة" إلى القول بأن كل ثورة تعود إلى نقطة الصفر بعد فترة من إنتصارها، لكن بتطورات طفيفة، فيعود الإستغلال والإستبداد الذي قامت ضده بشكل آخر، ويتم قهر وإستغلال الطبقات الشعبية التي كانت هي وقود تلك الثورات. يذهب مثلا المفكر الإيراني على شريعتي في طرحه بالنسبة للأديان التي يشبهها بالثورات بقوله أن بعد وفاة النبي الذي أتى بذلك الدين، يختطفه المستبدون والإستغلاليون، فيحرفونه لخدمة مصالحهم بواسطته، ويساعدهم في ذلك تحالفهم مع الكهنة أو رجال الدين الذين يبررون لهم ذلك بتأويلات وفتاوي لاعلاقة لها بجوهرها. يمكن تطبيق نفس القاعدة على الثورات، وقد سبق لنا أن طبقنا هذه القاعدة في مدخل كتابنا "رؤساء الجزائر في ميزان التاريخ- تقييم أكاديمي لنصف قرن من تاريخ الجزائر المستقلة-" عندما حاولنا تفسير الإنحراف الذي وقع للثورة التحريرية الجزائرية بعد1962.
لكن لم يجب أغلب دارسي الثورات عن من وراء ذلك الإنحراف فعلا، فهل اخفوا بحكم إنتمائهم الطبقي البرجوازي بأن وراءه هي الطبقة البرجوازية، خاصة المتوسطة منها، فالوحيد الذي أجاب على هذا السؤال، لكن بالتلميح فقط هو ماركس الذي واجه هذه الطبقة المتوسطة، وقال مثلا عن المثقفين وأصحاب المهن الصغيرة بأن ذهنيتهم هي ذهنية برجوازية إستغلالية، لكن فقط لم تتاح لهم فرصة التحول إلى برجوازية عليا مثل الملاك الكبار، فكل الثورات تم إختطافها من هذه البرجوازية المتوسطة بالتحالف مع البرجوازية العليا على حساب الطبقات الشعبية المحرومة بإستغلال وصولهم إلى السلطة.
فمثلا الثورة الفرنسية في 1789 تصدرتها البرجوازية مستخدمة الطبقات الشعبية، لكن بهدف التموقع والإستيلاء على السلطة على حسابها، ولهذا تم إقصاء وتهميش كل مفكر أو مجموعة تطرح مسالة الطبقات الشعبية وضرورة عودة مكاسب الثورة لصالحها مثل دعوة الصحفي والمفكر فرانسوا بابوف François Babeuf المشهور بلقب غراشوس Grachus في الثورة الفرنسية،1789 والمعروف بدفاعه المستميت عن الفقراء، وكذلك وقوف الطبقة البرجوازية المتوسطة تتفرج على كومونة باريس في1871، وهي تباد على آخرها إلا لأنها طرحت فعلا وعمليا السلطة الفعلية لهذه الطبقات الشعبية المحرومة عن طريق اللجان الثورية، وعادة ما يتهم أصحاب هذا الطرح بالراديكالية والتطرف، وفي بعض الأحيان بالمثالية والطوباوية، وهو ليس صحيح تماما، فهذه التهم هي مجرد ذرائع للحفاظ على مصالح الطبقة المتوسطة وتحويل سلطتها إلى أداة لخدمة مصالحها الخاصة، فحتى الثورة البلشفية خانت فلسفة ماركس، فقد كان قادتها مجموعة من طبقة متوسطة حتى هي، فوضعت نظاما ديكتاتوريا بإسم حزب واحد يمثل البروليتاريا، لكنه ما هو إلا أسلوب لإقصاء هذه الطبقة عمليا من صناعة القرار، فنشأت طبقة برجوازية بيروقراطية كرس لها اليوناني كورنيليوس كاستروياديس cornelius Costriadis كل كتاباته وأعماله منذ نهاية الأربعينيات، وكانت واضحة في مجلته "بربارية أو إشتراكية، فكما للثورة الفرنسية بابوف، فللثورة البلشفية لها أيضا ليون تروتسكي الذي أبعد تماما بدعوى راديكالية طرحه، لكنه في الحقيقة كان يرفض خيانة الستالينية التي أستولت على الثورة على حساب البروليتاريا.
يمكن لنا سرد الكثير من الأمثلة عن سرقة الثورات من طرف هذه الطبقة المتوسطة الإنتهازية، فحتى دعاة الإشتراكية في عهود عبدالناصر وبومدين وغيرهم كانوا يستخدمونها فقط كغطاء للإستيلاء على الثروة والسلطة، فقد سألني الكثير عن نموذج ثورة الياسمين في تونس، فأجبت أنها ثورة فاشلة على كل الخطوط، فهي مجرد ثورة سمحت للطبقة البرجوازية التي أقصاها نظام بن علي للتموقع والصعود والمشاركة في السلطة دون أخذها بعين الإعتبار الطبقات الشعبية، مما جعل الكثير من هذه الأخيرة صوتت على السبسي لأن مصالحها لم تتم رعايتها، فهي لاتأكل الحريات التي يهتم بها فقط النخب السياسية والمثقفين والإعلاميين لأنها وسيلتهم للترقي، لكن البسطاء من الناس تهمهم أكثر الرفاهية والعيش الكريم، فمثلا لو نأخذ الثورة الإيرانية نجد بأن رجال الدين الذين كانوا قادتها تحولوا بعد ثورة 1978 كلهم إلى طبقات غنية جدا بإسم عدالة الإسلام كما كانت تدعي.
يأخذنا هذا كله للحديث عن ما يسمى بثورة الجزائر السلمية منذ22فيفري2019 التي تشارك فيها كل الطبقات، خاصة الشعبية منها، فهي اليوم تسرق من نفس هذا الصنف، ويتمثلون في مجموعة سياسويين ومثقفين يبحثون عن مكان للتموقع في النظام سواء القائم حاليا أو القادم الذي تطالب به الثورة، لكن لامكان للطبقات الشعبية فيما يطرحه الطرفين سواء النظام القائم أو الآتي الذي لايختلف تماما عن أنظمة سياسية تخدم طبقة محدودة دون الطبقات الشعبية، والسؤال المطروح اليوم هو: ما هو الحل لجعل كل الطبقات تستفيد من الثورة مستقبلا، وتعود عليها جميعا، وعلى رأسها الطبقات الشعبية؟.
طرحنا هذه المسألة ذلك في عدة كتب ومقالات، أهمها كتابينا "النظام الدبديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-" و"ربيع جزائري لمواجهة دمار عربي"، ويمكن تلخيص أهم مبدأ أو آلية وهي تغيير طريقة التمثيل للأمة. ان مبدأ "سيادة الأمة" الذي وضعه جون جاك روسو لم يطبق بشكل فعال بسبب الإعتماد على إنتخابات على أساس دوائر إنتخابية تتمثل في ولايات أو عمالات أو محافظات، مما جعل الكثير من الشرائح الإجتماعية والمهنية غير ممثلة في السلطة التشريعية وفي مختلف المجالس التمثيلية، ولم تجد من يدافع عن مصالحها، بل أنتجت لنا طريقة التطبيق هذه طبقة برجوازية أستحوذت على السلطة والثروة من خلال توزيع غير عادل للثروة وتوجيهها لهذه الفئات، وأصبحت تخدم مصالحه. فعلى هذا الأساس نقول أنه من الضروري للنقابات العمالية بكل شرائحها العودة إلى طرح المشكلة الجوهرية للمسألة الإجتماعية لحلها من الجذور لكن بطرح آخر، فعليها أن تطرح الحل الجذري للمشكلة وهو أخذ السلطة الكاملة لكل الشرائح الإجتماعية وتحويل الدولة إلى خدمتها بدل خدمة مجموعة أو طبقة أو أوليغارشية مالية على حساب الطبقات المحرومة والمستغلة، ولايتم هذا إلا بنظام ديمقراطي وإجتماعي بتشكيل ما نسميه البرلمان الإجتماعي بدل البرلمان السياسي الموجود اليوم في الأنظمة الديمقراطية، فيصبح التمثيل في البرلمان المنتخب على أساس شرائح المجتمع وفئاته المهنية كلها، بدل التمثيل على أساس دوائر إنتخابية يمكن أن تكون الكثير من الشرائح الإجتماعية والمهنية غير ممثلة في البرلمان، والذي يمكن مثلا أن تسيطر عليه فئات فقط مع إنعدام التمثيل لفئات أخرى عديدة، فيجب على كل الشرائح والفئات الإجتماعية والمهنية بما فيهم البطالين ورجال المال وغيرهم أن يكونو ممثلين في البرلمان، وذلك بإعتماد كل شريحة إجتماعية أو مهنية كدائرة إنتخابية، ويكون عدد ممثليها في البرلمان حسب العدد المنتمي إلى هذه الشريحة أو الفئة الإجتماعية والعمالية.
لكن رغم ذلك فإنه غير كاف ومضمون خدمة كل المجتمع إلا إذا أمتلك كل ممثلي شريحة أو فئة إجتماعية أو مهنية حق الفيتو في كل مشروع قانون يخصها، ويمكن ان تتفاوض مع السلطة التنفيذية في حالة ضرورة الحفاظ على توازنات، أما إذا تعلق القانون بمصالح عدة شرائح، فيتم التفاوض حوله بتنازلات فيما بينها لحفظ مصالح الجميع، وبهذا الشكل يتم نقل الصراعات الإجتماعية التي تشل الحركة الإقتصادية بفعل الإضرابات إلى مبنى البرلمان، لكن هذا لايكفي لتحقيق مصالح كل شريحة إجتماعية إلا إذا بقيت مصالح ممثليها المنتخبة في البرلمان مرتبطة إرتباطا وثيقا بمصالح شريحتها الإجتماعية، مما يجعلها حتى ولو أهتمت فقط بالدفاع عن مصلحتها الإجتماعية الخاصة، فإنها ستحقق بذلك حتما مصلحة الشريحة الإجتماعية التي تمثلها، ولا يتم ذلك إلا بإلغاء كل الإمتيازات لهؤلاء الممثلين بحكم تواجدهم بالبرلمان بإستثناء الحصانة التي يجب حصرها فقط في العمل السياسي وحرية النقد والتعبير والممارسة، وليس توسيعها إلى المسائل الجنائية، خاصة الإقتصادية منها كما يقع للحصانة في الجزائر التي حرفت عن وظيفتها، مما يدفع رجال المال الفاسدين لولوجه بكل الأساليب كي يحصنوا أنفسهم من الفساد والمتابعات القضائية.
لكن يجب أن نضع في ذهننا إمكانية شراء هؤلاء النواب الممثلين للشرائح الإجتماعية والمهنية من أصحاب المال أو من السلطة التنفيذية، وهو ما يتطلب تفعيل ميكانيزمات عملية لمبدأ "من أين لك هذا؟"، ويطبق على الجميع، وهو مبدأ مطبق بصرامة في الكثير من دول الغرب التي وضعت له ميكانيزمات تطبيقه، فهو مبدأ كفيل بمحاربة الفساد والأموال المشبوهة. يمكن العودة إلى الملامح الكبرى لهذا النظام السياسي الجديد والبديل الذي سيؤسس فعلا لدولة ديمقراطية وإجتماعية وعلمية في مقالتنا المنشورة في هذا الموقع بعنوان "أسس جديدة لدولة ديمقراطية وإجتماعية-من أجل نظام سياسي بديل" (الحوار المتمدن عدد 4504 يوم06/07/2014).

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران1-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص