الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهيبة قوة عملية أيضاً

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2019 / 9 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في البدء أقول: إني أستخدم كلمة أو مصطلح أو مفهوم أو حالة "الهيبة"، كما نحتته اللغة العربية في الأصل، وطورت معناه الإصطلاحي الراهن. ولست معنياً هنا بالحالات التي تتعامل مع هذه الكلمة كالعادة، وكأنها مترجمة الى العربية من لغة أخرى. ليس من العسير على المتابع أو الباحث أو كل مَنْ يريد الملاحظة، أن يكتشف مدى إنتشار وسعة التعامل مع مصطلح الهيبة والمصطلحات الأخرى بروحية وعقلية وأدوات المترجم وحسب. من أولى ثمار ذلك التعامل يكون فقدان الأصالة في البحث، وإضعاف التعامل مع الظواهر الإجتماعية في حالتها الطبيعية، وضمن بيئتها. ولا تزيد مثل تلك الرؤية عن كونها عملية تلبيس الكلمة لثياب خاصة بها، غير الثياب المناسبة لمحيطها، وتترك بعيدة عن عمق الظاهرة أو الكلمة نفسها. ولا يتوقف هذا الحال عند البعض بحدود تناول معنى الهيبة، بل يمتد الى مفاهيم ومصطلحات عديدة غيرها. بديهي أن الإنطلاق من أرض صياغة الكلمة، وإنتقالها من المعنى الوضعي، ومتابعة نموها نحو معناها الإصطلاحي، وضمن حالتها الإجتماعية الماضية، مروراً بتطورها صوب حالتها القائمة، يزيدها عمقاً ووضوحاً، خاصة عند إستخدم المقارنة العلمية الواثقة. بل إن هذا النوع من التناول، ومحاولة توخي الدقة، يفتح العقل إتجاه كل إبدعات العقل البشري، وهذا المنهج يخدم كثيراً المعرفة والحياة، حيث لا بحث علمي دون أرض صلبة للإنطلاق منها، وهدف يسعى إليه.

تكون الكلمةُ الحجرَ الأولى في أي بناء علمي، وفي عمق الإحساس بالظواهر، والفهم الصحيح لها. لأنها حصيلة تجريد وتجريب وملاحظة وغير ذلك من الوسائل. ولهذا نرى أن بلداناً لا يزيد قوام سكانها على بضعة ملايين، تستخدم لغاتها الوطنية في التعليم والتعلم لمختلف صنوف العلوم. وهذا الإستخدام عمّق قدرات تلك البلدان على الإبداع العلمي والثقافي والأدبي. وأنجبت تلك البلدان وتنجب اليوم علماءَ، إحتلوا مواقع رفيعة في بلدانهم، وعلى المستوى العالمي. وأما نحن فحتى على هذا الصعيد كنّا، لحدود بعيدة، ضحايا العدمية القومية أو التعصب القومي والديني، وأخيراً المذهبي. ومن الحقائق المعروفة أنه قدر إستيعاب اللغة الأم بجودة عالية، يكون إستيعاب اللغات الأخرى. وهنا ينبغي ألا ننسى ضرورة التعرف على الأثار النفسية والإجتماعية الضارة لحلول لغة أجنبية كلغة أم في الوطن الأم. إن إمتلاك لغة أو عدة لغات أجنية يكون عامل دعم ومساعدة حقيقي في نمو العمل العلمي والبحثي السليم والتنوير والإنتاج بعد إستيعاب اللغة الأم.

إن مصدر تحريك الملاحظة السابقة، هو ما أراه من حالات التيه، في التعامل مع كل مصطلح أو مفهوم، أو كلمة يجري تداولها، خاصة تلك المتعلقة بالعلوم الإنسانية. هذا مع الأخذ في الإعتبار حقيقة أن مصطلحات العلوم الإجتماعية والإنسانية عامة، ليست واضحة الأطراف تماماً، وكما ينبغي أن تكون. بل حتى حدود تلك العلوم كاملة فيها الكثير من التشابك والتداخل. وهذا الأمر حقيقة واقعية بحكم أن تلك العلوم تدرس الإنسان ومحيطه الإجتماعي، وضمن تشكيلاته التاريخية والقائمة وفي الآفاق. وربما من أخطر حالات التداعي ما نراه من تداع وصل عند القشرة السياسية حد أن تصاغ لها المفردات والمصطلحات السياسية والإجتماعيى والجغرافية حتى الأخبار اليومية وما الى ذلك. ولا غرابة أن نرى وصف الشعب المغلوب على أمره بالشعب المستقر، واللصوصية بالعملية السياسية، والمهادنة بالحكمة والتروي ... الخ. وعلى الرغم من حالة التداعي الخطيرة سياسياً وإقتصادياً، وحتى في بعض الجوانب التي تخص آمن وكرامة وسلامة الإنسان، ظلت الجهود العلمية والإنسانية الأصيلة تقدم الكثير.

تعريف ومعنى الهيبة في المعاجم العربية. هو إسم مصدره هاب. وتعني المهابة؛ الإحترام؛ الإجلال؛ الكرامة؛ الأصالة؛ الإحسان، الإعتبار؛ والحذر وغير ذلك. هَيَّبَ الشيءَ إِلى فلان: جعله مَهِيباً عنده. وهو نقيض الخيبة والعبوس. وجاء في مختار الصحاح على سبيل المثال: (الْهَيْبَةُ) الْمَهَابَةُ وَهِيَ الْإِجْلَالُ وَالْمَخَافَةُ. وَقَدْ (هَابَهُ) يَهَابُهُ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ (هَبْ) بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَ(تَهَيَّبْتُهُ) خِفْتُهُ وَتَهَيَّبَنِي خَوَّفَنِي. وَرَجُلٌ (مَهُوبٌ) وَ(مَهِيبٌ) يَهَابُهُ النَّاسُ، وَمَكَانٌ (مَهُوبٌ) وَ(مَهَابٌ) أَيْضًاً. وَ(الْهَيُوبُ) الْجَبَانُ الَّذِي يَهَابُ النَّاسَ.

إن التعريف المعجمي كاد أن يحدد معظم ما تتضمه الكلمة، ومعانيها العديدة مثل: المكانة، الإحترم، الحظوة، الإعتبار، والتأثیر. لم يبخل في إبراز بعض جوانبها النوعية، خاصة عند التفريق بين الهيبة التي تمتلك خصائص حميدة إجتماعياً، وتلك المنفرة مثل التجهم والعبوس. وهناك أنواع من الهيبة يمكن أن توصف بالطبيعية أو التلقائية وأخرى بالمفتعلة، أي تَصَنَّع الهيبة بدون مقوماتها، أو فرضها بالإكراه والقوة وإبتزاز وغيرها، من الوسائل غير المشروعة.

لا يفترض مضمونُ كلمةِ الهيبة في البدء وجودَ حالةٍ مجردة. بل يستلزم وجوداً إجتماعياً حقيقياً، وقائماً في علاقاته الإنسانية المتشابكة، سواءً كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة. حتى تتجلى في ذلك الوجود مظاهر الهيبة، الشخصية منها أو الجماعية، وكذلك هيبة الدولة، أو الدول فيما بينها، ونظرة الناس إليها. وتخص الهيبة ثلاثة مستويات: فرد؛ جماعة؛ ومجتمع. وهذه المراتب الثلاث تتبادل التأثير فيما بينها؛ كل طرف إتجاه الطرف الآخر. ويجري تبادل التأثير في داخل تلك المستويات الثلاثة، وكل على حدة. وحتى الشخص الفرد يعاني ويتأثر في حواره مع نفسه، تحت ضغوط رؤية الأطراف الأخرى إتجاهه، إيجاباً أو سلباً. وتتفاوت درجات التأثير المتبادل بين المستويات الثلاثة في عمقها. وتظل الأحكام المتعلقة بالهيبة تحت وطأة تأثير المناخ السائد ونوعيته وطريقته ودوافعه حول المجموعات وفي داخلها.

يواجه الشخص موضوعة هيبته أو فقدانها حين يكون وسط أشخاص أو وسط مجموعة الإجتماعية ما: جمعية؛ حزب سياسي؛ تنظيم نقابي؛ مصنع؛ حي سكني، مدينة؛ مدرسة...الخ. وكذلك الحال حين يكون معزولاً أو منفرداً، في كل الأحوال وبالضرورة يظل تحت دائرة تأثير المحيط الإجتماعي. تظهر الهيبة الشخصية في حاضنتها الإجتماعية، وهنا يمكن أن تضيع أو تفقد جزءاً منها أو كلياً. خلال الحراك الإجتماعي تقوم أو تتبلور هيبة المجموعة الإجتماعية، وحتى هيبة المجتمع ككل. وتنطلق النظرة للهيبة من داخل الطرف المعني بها، إتجاه ذاته وإتجاه الآخرين أيضاً. ويؤثر نشاط أي جماعة إجتماعية على هيبتها بين أوساطها وبين أوساط الجماعات الإجتماعية الأخرى، وفي المجتمع ككل. وتحدد طبيعة النشاطات أو النشاط الواحد حسب نوعيته بإتجاه رفع الهيبة أو الحط من قيمتها.

لا تقوم الهيبة الشخصية الحقيقية على المال أو القوة أو النفوذ فقط، وليست تلك الأسباب هي المعيار الأوحد في كل الحالات ودائماً. ولكن علم الإجتماع لا يتجاهل في الوقت نفسه حقيقة تأثير تلك العناصر على أنماط معينة من الهيبة غير الراسخة، التي يكون مصدرها أحد تلك العناصر أو بعضها أو مجتمعة. وقد يكون المال والنفوذ والسلطة التي تأتي الى أصحابها بصورة غير مشروعة أو أخلاقية أو بدون جهد علمي أو أي جهد معترف به، وفق القواعد المتعارف عليها، تكون ضارة بقوة بل لا تترك مجالاً للإحترام والثقة. نرى اليوم كيف تحولت الثقة ببعض السياسيين ورجال الدين في العراق الى صفر، ويتناسب عكسياً تزايد الأموال غير المشروعة مع إنحطاط الثقة. بل بات هناك تناسب واقعي بين حجم إنتهاك المال العام وإنحاط الهيبة والقيمة بالأفراد والجماعات على حد السواء. تقلصت لحدود مريعة ما يسمى بهيبة الدولة، خاصة قشرتها العليا في قيادات الجماعات والدولة معاً.

تنحط قيمة وسمعة وهيبة الدولة، أي دولة، في ظروفٍ ملموسة، تسود فيه مظاهر وحالات معينة، وعلى وجه التحديد، مثل: إحتلال البلاد من قوة أجنبية؛ وجود حكومة فاسدة؛ إنتهاك المال العام؛ إتساع اللصوصية؛ إنتشار البطالة؛ تراجع المداخل؛ بروز الرفاهية المفاجئة لبعض الأشخاص؛ الغرق في النزعات الإستهلاكية وما يترافق معها من تراجع قيمي واسع؛ إنتشار الدعاية السوداء التي تحتقر روح الإيثار والتضحية والشماتة بالفقر الذي يحيط بحياة المضحين والشرفاء والفقراء عامة؛ تحويل تلك التضحية الى حالات من الإرتزاق غير المشرف...الخ. مثلاً كان يخرج الإنسان المضحي من السجون، ليجد الناس تحيط به تكريماً وإعتزازاً، وهذا الموقف يعني قيمة روحية وأخلاقية تثير سعادة له لا نظير لها. أما الأساليب التي طورها الخارج ونفذها خدمه، فإنها تسد نوافذ التكريم الشعبي للمضحي، هذا إذا حافظت الضحية على الحياة أصلاً. وترافق مع ذلك محاولات دفع ثمن للتضحية تفرغها من محتواها الحقيقي، وتحولها الى بضاعة للإبتزاز، ويتزامن ذلك مع إغناء وتوفير شروط الكسب غير المشروع للقشرة العليا من كل الجماعات الإجتماعية القابلة للإخضاع، بما فيها تلك التي لا تخدم السلطات الطفيلية مباشرة، ولكنها لا تشن عملاً مؤثراً عليها أو ضدها، فيما خلا بعض الإستعراضات التي قد تخدم الحاكم، ولا تقدم نفعاً للمحكوم.

تشير العلوم الإنسانية، الإجتماعية منها والنفسية، الى الخيوط القوية التي تربط بعض صور الهيبة الزائفة، وذات بالمعنى السلبي للغاية، بالخضوع والخنوع والذلة. تلك الهيبة المزعومة يشعر صاحبها بعقمها وزيفها. ولكنه في كثير من الحالات يسعى لإيجاد مبررات يقنع بها نفسه، بهدف التقليل من نزيفه الداخلي، في المراحل الأولى قبل شلل أو موت الضمير. وعزاء المتزلفين في أن لكل متزلفٍ يوجد متزلفٌ آخر أقل منه شأناً، يدخل بعضَ الراحة الى نفسه القلقة، التي يتصارع في داخلها الألم النفسي مع ملذات الرفاهية الى أن يصل الى إنتصار الأخير على الأول. ويساعده في حسم تردده في البداية أن بضاعة لم تعد قادرة على الوقوف أمام الرأي العام غير الملوث. وإن شفيعه في هذا الصدد معرفته بأن أصحاب الضمائر القوية والحية قلة في أزمنة التردي.

إن الميل للإسترخاء والإبتعاد عن هموم الناس ومطاليبهم والدفاع عنهم حالة قد تصيب الإنسان، إذا لم يراجع نفسه في الوقت المناسب، ويُقَوّمْ كلَ خطوةٍ في حياته، في كل ما يتعلق بالشأن العام. كما أن الإنسان غير المتماسك بقناعة قد تُنتزع خصائصه الأصيلة، إذا تكررت الهزام والمصائب. وإذا إستطاب حالة يمكن أن توصف في أبسط درجاتها، بأنها حالة "لاخير ولا شر" على الأقل. وحين تتكون حالة عند الإنسان هي أقرب الى الخشية أو الحاجة، تتحول بدورها الى تنازلات تدريجية، وهو في ذلك الموقف يضع قدمه على سلم للنزول، وهذا السلم يضم درجات من التزلف والمهادنة، خاصة إذا شاءت ظروفه أن يكون بين المتسلطين وحتى بين الضحايا، وفي ظل ضعف رصيده المعنوي.

كان مؤسس علم الإجتماع إبن خلدون قد حلل أنواع النفوذ، وكيفية الولوج فيه أو ملامسته على الأقل، مشيراً الى أن المدخل الأوسع يأتي من باب الجاه، الذي أعتبره مفيداً لجمع المال. وقارن بطريقة ثاقبة بين صاحب الجاه وفاقده من حيث الثروة والمال. والتركم المالي يأتي من خلال تزلف المحيطين والحاجة الى الجاه. وأشار الى أن صاحب الجاه يكون محط إهتمام أصحاب الحاجات، سواءً كانت تلك الحاجات ضرورية أو كمالية. وقارن بين صاحب المال والسلطة من جهة وصاحب المال فقط. فالأول يحصل على تراكم أسرع وأكبر، والثاني تكون منافعه بقدر ما يدر سعيه وماله عليه. وتناول ما يحصل عليه الفقهاء وأهل الدين والعبادة، خاصة إذا حَسن الظن بهم من صاحب الأمر. وهذا المكاسب للغطاء الديني ترتبط بالسمعة عند العامة أيضاً. أي إعتقاد الجمهور بأن إرْفَاد هؤلاء بالإعانة يُمثل تقرباً من الله. وهنا تسرع الثروة واليسر الى إليهم، ويصبحون أغنياء من غير مال سابق، وهم قاعدون في بيوتهم لا يبرحونها، ومن غير جهد أو سعي، كما يعتقد إبن خلدون.

وكم كان دقيقاً عالمنا الإجتماعي العلامة ابن خلدون عند قوله: "في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق، وإن هذا الخلق من أسباب السعادة" عندهم. وأضاف بصدد مزيد من التوضيح: "قد سَلَفَ لنا فيما سبق أن الكسب الذي يستفيد البشر إنما هو قيم أعمالهم ولو قُدِرَأحَدٌ عُطُلٌ عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية".

ولم يذهب بعيداً دون التوقف عند نقيض أهل الخضوع، فيضيف العلامة ابن خلدون: "ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التكسب على أعمالهم ويصيرون الى الفقر والخصاصة". ولكنه توقف عند الحالة المذمومة لأهل الترفع عند تصورهم بأن الناس بحاجة لهم، وتوهموا بأنهم في حالة كمال تام.

تتشكل الصورة العامة عن الهيبة لشخص ما، داخل الجماعة أو الحزب أو الأشخاص المحيطين أو عند المجتمع ككل، بالنسبة للشخصيات العامة، تدريجياً. وتتحول الى سمعة مميزة له داخل الجماعات والأحزاب والمجتمعات. تشمل السمعة مواصفات متدرجة من القمة الى أسفل قاعدة الهرم القيمي. وتحتل مراتب متدرجة من أوطأ درجات السلبية الى أرفع مقامات الإيجابية. وهي تتضمن مواصفات سلوكية وأخلاقية وفكرية. هي بإختصار حكم عام في اللحظة القائمة، وغارٌ أو لصيق أو قريب الى أقاصي العمق التاريخي وما بينهما. ويحمل مآثر أو نقيضها، ونجاحات أو خيبات متفاوتة الأهمية.

نالت مسألة السمعة إهتمامات واسعة عند الأديان السماوية والأرضية، وفي المدارس والمذاهب الفلسفية، وعند المفكرين الأفراد. وكان للماركسية على الصعيد النظري إضافات هامة، خاصة بمجال دراساتها في علم الأخلاق. إعتبرت الماركسية الركض وراء السمعة لدوافع شخصية صفة مذمومة. داعية في الوقت نفسه معتنقيها الى صيانة شرفهم السياسي والفكري والأخلاقي، وكرامتهم الشخصية والعائلية والوطنية، وشرف الحزب ومؤسساته والمؤسسات التي يعملون فيها، وأينما يكونون. إن سمعة أي جماعة ترتبطت بالإضافة الى برامجها ووسائل نضالها، ترتبط بسمعة عضويتها، والعكس صحيح. ويلاحظ في الفترات الصعود السياسي تهتم الجماعات السياسية بالنوع وبسمعة أعضائها. وهذا الإهتمام يتراجع في فترات الإنكسارت، وضعف القيادة، ومن أخطر الظواهر على هذا الصعيد إنتعاش التباغض بين أعضاء المجموعة السياسية نفسها، وعند تقديم التنازلات غير المبررة، وتكرار الأخطاء، وفقدان القدرة على الرد إتجاه الإتهامات بما فيها المغرضة والتي لا تستند الى الواقع.

إن الوشائج التي تربط بين الهيبة والسمعة قوية ومتعددة. وإذا كان لابد من تلمس الفوارق بين المدلولين. فيمكن القول: إن الهيبة تتطلب إحتكاكاً مباشراً بين المستويات الثلاثة وفي داخلها كل منها. ولكن السمعة تأتي عبر عمليات تراكمية تحظى ببعض الإستقلال عن الطرف المعني ذاته في المراحل الأخيرة من تأسيسها. حيت تتشكل صورة عن سمعة شخص أو حزب أو دولة بالتناقل دون إشتراط وجد تجربة خاصة أو إحتكاك مباشر.

ظلت مسألة النفوذ والقوة والهيبة تشغل حيزاً مهماً عند الفلاسفة الإغريق والمسلمين وفي العصر الحديث أيضاً. وظل السعي لتعريف تلك المفاهيم وتحديد موقعها يتسع ويتغلغل في المباديء الأساسية لعلم الاجتماع. وتوسعت لتصل الى مفردات الشؤون السیاسیة الداخلیة منها والدولية، وتستعمل تلك الردائف أي القوة والنفوذ وصولاً الى الهيبة المعنوية، للعب دور مادي حيوي في خاتمة المطاف. وذلك في المستویات ثلاثة، كما جرت الإشارة سابقاً: المستوى الفردي والعلاقة بین الأشخاص؛ مستوى الجماعة الإجتماعیة والعلاقات بینها وفي داخل كل جماعة على حدة؛ ومستوى الدولة والنظام الدولي ككل. ويرى آخرون أن النفوذ أو السلطة يعني امتلاك قوة اجتماعية ضمن نسيج العلاقات، تُمكن المرء أو الجماعة أو الدولة من تنفيذ رغباتهم، بغض النظر عن مدى شرعيتها أو مطابقتها للقوانين الإجتماعية.

بقى مفهوم القوة على المستويات الثلاثة يُشكل ركیزة رئیسیة للهيبة، متمثلاً بالقمع بصفة خاصة. ولكن لم يَغيب طبعاً دور المراوغة والإحتيال والرشوة والفساد، بل تعززت تلك الخواص وإكتسبت العديد من المهارات الجديدة، والأكثر تطوراً، خاصة عبر جهود مختبرات علم الإجتماع والنفس وبقية العلوم الإنسانية، التي تسود فيها وتوجهها الشركات ومراكز المال. هذا الى جانب إستخدام التقنيات الحديثة وغيرها.

وفي العلاقات الدولیة تشكل القوة ركناً أساسياً أيضاً. وتسعى الدول الكبيرة من خلالها الى إنتزاع أكبر قدر ممكن من المنافع. ومن أسهل السبل فرض عقود التسلح الجائرة على الدول الضعيفة، والحماية مدفوعة الثمن وغير ذلك. وتعاظمت سياسة الإحتلال والحماية للحكام أو إستبدالهم عند الضرورة. وبعد الحرب على العراق وإنحلال المنظومة الإشتراكية الدولية. برزت الولايات المتحدة الأمريكية قوة عالمية أولى ووحيدة. ولكن هذا الأمر لم يدوم طويلاً. لتبدأ مرحلة من المنافسة الدولية من أجل عالم متعددة الأقطاب. وشهدت الهيمنة الأمريكية إستهتاراً مريعاً تمثل بالحصارات الإقتصادية، والإفراط بإستخدام التهديد والترويع بالقوة الغاشمة. ووصل الأمر حد الإحتلال المباشر حيناً والتلويح به في إحيان أخرى. وقد زاد من الإستخفاف بالمجتمع الدولي وقوى السلام من جانب واشنطن بروز حالات أكدت للولايات المتحدة الأمريكية أن عالماً متعدد الأقطاب، قد بات ليس مجرد شعار تسعى إليه بعض الدول وتتمناه أخرى، وإنما يملك بعض المقومات على أرض الواقع الدولي.

الهيبة الشخصية:
ضمن الشعور الإنساني الطبيعي أن يسعى كل إنسان أن يكون مقبولاً من قبل محيطه: عائلة؛ مدرسة؛ مصنع؛ حزب سياسي؛ جمعية خيرية... الخ. ولكن الرؤية للوصول الى هذا الهدف مختلفة عند الأفراد، كل حسب نوعية ومستوى تكوينه ومعارفه، والدور الذي يريده لنفسه في الحياة الخاصة والعامة.

تختلف التصورات بصدد الهيبة ومحتواها من شخص الى آخر. ويختلف الناس بصدد مصادرها، فهناك من يظن أن الهيبة يمكن تحقيقها من خلال جمع المزيد من المال والثروات، أو الحصول على مركز مهم في العمل، أو الترقية الوظيفية. ودخلت عناصر أخرى جديد في تصور الهيبة، نابعة من حالة التراجع القيمي في بلادنا، وأصبحت القبيلة أو المذهب، والقرب من أصحاب النفوذ أو الجاه أحدى مقومات الهيبة الشخصية. وليس غريباً أن ترى إستخداماً مبتذلاً لبعض الألقاب الدينية دون غيرها، خاصة في حالة إنعدام أي دليل على صدقها. وكذلك الإختفاء خلف الألقاب العشائرية، وحتى تزوير الألقاب العلمية وغيرها.

أعمق أنواع الهيبة هي تلك التي تنبع تلقائياً من داخل الشخص نفسه. وهو لا يتعمد إظهارها، بل هي تأتي من خلال الثقة التي يمنحها الناس للأشخاص والجماعات طواعية. إن الهيبة تتكون عبر عمليات وتصرفات مديدة، عززت ثقة الشخص بنفسه. وجاءت وتنامت من جراء طبيعة تصرفه مع الآخرين، والإصغاء الى ملاحظاتهم، خاصة السلبية منها؛ إصغاء يتسم بالروية ودون تحامل. والتريث في إطلاق الأحكام على الآخرين، والمشاركة الواعية في القضايا ذات الإهتمام المشتركة. وتجنب الصمت الذي يلوذ به الإنتهازيون وضعاف التكوين في طرح آرائهم ومواقفهم. وتأتي الهيبة وتتوطد من خلال إحترام خصوصيات الناس الآخرين، والنظرة الموضوعية إتجاه إنجازاتهم واحترامها.

وفي المعالجات المدرسية لهذا الشأن، يُذكر الكثير من الوصايا التي لا حصر لها، مثل: الود دون تصنع في التعامل مع مَنْ هم أكبر سناً ومقاماً، الجدية في التعامل مع القضايا الوطنية والسياسية والفكرية العامة المهمة، العمل على إكتساب المرونة في الجدل، التحلي بالوضوح في الموقف من المرأة والتعليم وبقية الخدمات العامة، الوفاء بالوعود والإلتزامات، السعي للإقتراب من تصور وضع وحال الشخص المقابل، إحترام الحقوق والواجبات الشخصية، إحترام حقوق وواجبات الآخرين أيضاً، تطوير مهارات التواصل الإجتماعي، التسامح بوعي وروية. وينبغي لمن يسعى الى خلق هيبته الخاصة أن يواجه نفسه بنقاط ضعفها، مثل: عقدة الخجل، ضعف إتخاذ القرارات الضرورية، التأني المبالغ به في مواجهة الأخطاء الذاتية، وأخطاء من هم في المحيط الإجتماعي، والأخطاء بصفة عامة أيضاً، الإبتعاد عن المراوغة والتذاكي، الإعتدال في مواجهة مثيرات الفرح أو الحزن... الخ.

هيبة الجماعة:
إن إصلاح الأضرار التي قد تصيب هيبةَ جماعة إجتماعية أو حزب سياسي ما، يُعد عملاً صعباً بطبيعته، يُماثِلُ في صعوبته محاولات إصلاح برامج الجماعات السياسية أو الإجتماعية في إطارها العام، وليس ما يدون في وثيقة لهذا الغرض. حين تتضعضع الهيبة تصبح عمليات إعادة ترميمها صعبة للغاية. هذا إذا ما بذلت جهود مناسبة وحقيقية وجادة. وتظل عمليات ترميم الثقة أكثر صعوبة من ترميم وإصلاح البرامج.

إن معالجة الثغرات التي تصيب هيبة الجماعة، تتطلب وقتاً أطول لإعادتها الى وضعها السابق، ناهيك عن تطويرها أو تعزيزها. وتتصف محاولات إعادة الثقة بهيبة الجهة المعنية بالتعقيد البالغ، وهي لحد ما تشبه محاولات إعادة الثقة بالسلوك السياسي لحزب أو جماعة تعثرت سياستهما مرات متكررة. إن إعادة الثقة بين صفوف الجماعة المعنية تتطلب إعادة الثقة داخل الجماعة نفسها، والثقة الداخلية خطوة أولى وضرورية لإعاتها في المجتمع ككل. بديهي أن مفهوم هيبة الجماعة الإجتماعي بكل أنواعها، يختلف حسب طبيعة ما تؤمن به كل جماعة، فيما يتعلق بطبيعة النظام الإجتماعي ودرجات التطور الإقتصادي والسياسي والثقافي الذي تريده وتسعى إليه.

ومن المعلوم أن موضوع الجماعات الإجتماعية موضوع واسع، يستحق التناول الواسع لأهميته، ومن الصعب إشباعه بمقال أو بحث واحد، بل يتطلب جهوداً كبيرة. وتناول الموضوع من جميع الزوايا ذات الإعتبار. قد لا يتسع المجال هنا سوى لإجراء مقارنة بين حزب سياسي في حالة تقدم وصعود، وآخر بدأت مسيرته صوب العد التنازلي. أسعى هنا الى إدراج بعض عناوين تلك المؤشرات فقط. وهي خلاصة لنماذج وحالات عديدة، وربما القارئ تأتيه عشرات الصور، وهو يتابع المقارنة. أن الحالات المدرجة أدناه، سواءً كانت إيجابية أو سلبية، قد جاءت بدورها عبر وتحت تأثير شبكة عوامل كثيرة:

ـ الحزب في حالة الصعود لا تكمن هيبته ونفوذه وقوته في عضويته فقط، وإنما بسعة دائرته الإجتماعية المحيطة به من أصدقاء ومتعاطفين. والحالة النقيضة في النقيض.

ـ الحزب في حالة الصعود يملك شعاراً مركزياً واضحاً وموثوق به، وتلتف حوله الناس وتحترمه، وفي حالة التراجع تتعدد الشعارت السياسية، ولكنها هلامية الطابع وغير واضحة المعالم، ولا تحظى بمساندة إجتماعية واسعة. وإن طبيعة الخط السياسي لأي حزب تشكل الدعامة الأساسية لهيبته.

ـ الجسم الرئيس لعضوية الحزب الصاعد تكون في داخله، وقد يبتعد أو يُبْعِدَ عنه عدداً قليلاً من أعضائه. ولكن في حالات فقدان البوصلة والتوان يكون الجسم الأكبر للحزب خارجه، وهذا مؤشر فشل ذريع، يتحول الى مميت إذا جرى التكابر عليه.

ـ الحزب المتماسك يهتم بنوعية عضويته وهيبتهم بين الناس. ويرى بأن أحكام الناس لا تبنى على الباطل، حتى إذا كان الناس غير قادرة على تقديم دعم ما لذلك الحزب. أما في حالة الفشل فلا يقيم الحزب وزناً للنوع في عضويته، ويتثاقل من أصحاب الرأي والحجة، ومن الذين يمتلكون قدراً مقبولاً من الإعتزاز بأفكارهم، والقدرة في الدفاع الصريح عنها.

ـ من أقصر السبل لكي يفقد الحزب ثقة الناس به، خاصة من الذين هم حوله، يأتي ذلك حين تسعى قيادة الحزب للتذاكي عليهم. وعند عدم وجود خيوط حقيقية تربطها بنمط وإسلوب ومستوى حياتهم، وفي إغتراب الحزب ككل عن حاضنته الإجتماعية، سواءً كانت طبقة أو تشكيلة إجتماعية أو غيرها. أما قيادة الحزب الوائقة بنفسها، فهي تعمل كل ما يُقَرّبَها من حاضنتها الإجتماعية ويتبادلان الإهتمام والحرص والإستعداد التضحية.

ـ جميع التحالفات بما فيها حالات التعاون المميز تُعد مهمة خطيرة، بقدر ما هي ضرورية. فمثلاً للحزب ذي الطبيعة العمالية يكون التحالف الطبقي الأكثر أريحية هو التحالف مع الفلاحين. فيما عدا ذلك هناك مواصفات ينبغي أخذها في الحسبان والحذر الشديدين، مثل: التحالف السياسي مع أي قوة سبق لها أن أوقعت بالحزب أفدح الخسائر وأبشع أنواع العدوان، التحالف مع قوى متقلبة لم تتبلور شخصيتها السياسية والفكرية وحتى السلوكية بعد، التحالف مع قوة تتوهم أنها تمثل حماية للحزب، وهذه مهانة، ينبغي أن يكون الموت دونها، ويجب عدم التغاضي عن الشؤون التي تتعلق بسيادة البلاد وحقوق الشعب خلال مساعي عقد التحالفات. والعمل على قياس رد الفعل الشعبي بميزان الذهب أو بما هو أغلى إتجاه أي تحالف يعقده الحزب.

ـ تحريم وجود تفاوت في ضمانات القيادة من جهة، وضمانات عضوية الحزب من جهة أخرى. وإن هذا التمايز هو أشد ما يطبع ويحدد خصائص القيادات الفاشلة والأنانية وضيقة الأفق. وينبغي أن تعرف كل قيادة أن عضوية الحزب ونظريته وتاريخه وتضحياته هي التي منحتهم الإعتبار. وهذا ما سارت عليه قيادات الأحزاب العمالية في العالم أجمع، خاصة في بدايات تكوينها. وقد ضرب الحزب الشيوعي العراقي على هذا السبيل في عقود سابقة أمثلة ملهمة وصوراً رائعة على هذا الصعيد، وظلت تلك التضحيات قوة وهيبة ساندة الى يومنا هذا. وهذه المؤشرات هي بعضٌ من بعض.

هيبة الدولة:
على الرغم من أن مفهوم الدولة واضح المضامين والعناصر إلا أنه قابل للمد والجزر حسب المصالح والمواقع بكل أنواعها وإطاراتها. ففي الأنظمة الإستبدادية يختصر المفهوم بشخصية الحاكم الفرد. وبهذه الحالة يتحول المصطلح الى أداة قمع وتهديد للحريات والحقوق العامة منها والخاصة. وفي الدول البرلمانية وشبه البرلمانية يكون الإلتفاف على الحقوق عبر أساليب مرنة معتمدة على تراكم الخبرات.

إن وضع ونوع السيادة في أي الدولة جزء حيوي من هيبتها الأساسية. وتضاف إليه مسألة تطبيق القانون، وصيغ ووسائل فرض إحترامه، بالإقناع أم بالإكراه والقمع، ومدى مشاركة الشعب في صياغته وإقرار. وفي كل المراحل تبرز أهمية العدالة في توزيع الخيرات المادية للبلاد على مواطنيها.

ومن أخطر الحالات أن تعيشها أي الدولة هي حالة اللادولة. كما هو الحال عندنا حالياً في العراق. وهذا الوضع يؤدي الى تعدد مراكز القرار، بكل ما تحمله هذه الحالة من مخاطر محتملة. وقد تنبع من هذه الحالة الدعوات الى "إستعادة هيبة الدولة". ولكنها من طرفين متناقضين، الشعب الذي يريد الأمن والعيش المناسب على أرضه، ومن خصوم الشعب الذين يسعون بوعي لتتحويل هذه الدعوة سريعاً الى حالة من الشلل وكبح إرادة النضال، تحت طائلة الخوف مخاطر حقيقة مثل الخوف من الإرهاب أو الحرب الأهلية أو التدخلات الخارجية، أو التستر وراء تلك المخاطر، وهم في الواقع من صناع أو خدم خلق عوامل تلك التهديدات المروعة. كما تؤكد التجارب الملموسة.

باتت بعض النخب السياسية والثقافية تدعو بغموض الى تفعيل القوانين، وتوفر الأمن والإستقرار السياسي والإجتماعي، ولكن مثل هذا الطرح قد يخدم من طرف خفي مصالح الطغم المهيمنة على الحياة السياسية والإقتصادية ومصائر البلاد بصفة عامة. إن الدعوات للإصلاح دون تأثير ملموس يترك الباب مفتوحاً للتدخلات الخطيرة المحلية والإقليمية والدولية. إن التعويل على سياسيين ورجال الدين قذفت بهم إلينا هذه المرحلة الخائبة، وأثبتوا من جانبهم بجدارة قل نظيرها فشلهم وفسادهم في أكثر الأوصاف رحمة بهم، تمثل أخطر مخدر للفعل الجماهيري. ومن مخاطر حرف الإنتباه يأتي التعويل على إمكانيات قيام إنقلاب عسكري في فترة تشير الى وجود جيوش متعددة في البلد. ومن جهة أخرى وصلت أوهام الحل عبر الإنتخابات الى الصفر. تدعو الحياة الى إعادة تقدير الوضع.

يثير إنتشار السلاح خارج إطار الحكومة الهلع المعلن وغير المعلن لدى أوساط واسعة من أبناء الشعب. وهذا الوضع عمّق حالات الإبتزاز والإرتزاق بما فيه حالات الدفع من أطراف أجنبية. آن الأوان لإعادة الإعتبار الى الأساليب المجربة التي لا تحشر الناس في إسلوب نضال واحد.

يتسع الحديث عن "هيبـة الدولـة" كلما بدر أي تململ في حركة المجتمع، خاصة إذا إكتسب الإعتراض الشعبي على سياسة الحكومة ملامح طابع فكري وتنظيمي واضح المعالم والأهداف والوسائل. وكالعادة في البلدان ضعيفة التطور يواجه الإعتراض بالقمع الشديد. وتعتقد بعض الأوساط المتنفذة من القائمين على دوائر ومقابض السلطة والنفوذ في بلادنا، بأن الحكومة التي لا تقمع لا مستقبل ولا إحترام لها. وتدعو الى الضرب بيد من حديد ضد "المندسين"، وهذا شعارهم التاريخي والمبجل والمجرب. ويكتب على جباههم في ساعات الأزمات. وإذا ظهرت الأزمات في مناطق من الدولة لها سمات مميزة تبدأ خطابات نقصف وندمر.

لا يمكن لحكومات تشكلت عبر إنقلابات عسكرية أو إحتلال خارجي أن تفهم مسألة تعزيز هيبتها من خلال الإستماع الى شكوى الناس، أو إعادة الإعتبار للقانون والإقناع والحوار والتنازلات المتبادلة دون إستخدام الإكراه التعسفي، وإنزال الدروع الى الشوارع بطريقة إستعراضية، تستهدف إخافة المحتجين والمطالبين بحقوق ملموسة ومشروعة. وفي حالات أخرى تُلقى المسؤولة على مسؤولين صغار لا الدور ولا شأن مهم لهم في تقرير المصائر، مقارنة بسلطات وإنتهاكات كبار المسؤولين واللصوص الكبار، وذلك لإمتصاص جزء من النقمة الشعبية، وإن كان ذلك ينفعهم فقط لبعض الوقت لتقاط الأنفاس.

قدم لنا التاريخ غير البعيد الكثير من التجارب التي تعكس سماحة الشعوب وعطاءها لتعزيز هيبة الدولة والتضامن مع قادتها لمجرد أنهم أصبحوا هدفاً لإعتداءاتٍ خارجية، كما حصل في عدوان تل أبيب عام 1967 على مصر. إنها الأصالة في أوقات الأزمات والظروف القاهرة، والكل يشهد كيف ساد الأمن والإستعداد للعطاء في كل مصر والبلدان العربية كافة.

إن القهر لا يترك هيبة صميمية للدولة، بل يحل الخوف وعدم الإكتراث والغضب والإحتقار الدفين في صدور الناس إتجاه حكوماتهم، وقد يمتد الى الدولة ككل. فيما خلا القشرة الحاكمة والمنتفعين منها والخانعين لها، ولكل صاحب سلطة يتباهى بالعار المبين. تنهار هيبة الدولة حين يعم الفساد والإستبداد والتطرف. ويضعف الدفاع الحازم عن حرمة الوطن، حين يُسمح للفاشلين ولصوص المال العام بالإفلات من العقاب المشروع، وحين تغض الحكومات الطرف عمن يدوس على دستورها وقوانينها، ويمس بحرمة مؤسسات البلاد وحدودها وخيراتها وتاريخها وأمجادها وكرامة أهلها.

وأخيراً، تبقى الهيبة قوة معنوية مؤسسة على وقائع الحياة الفعلية. ينبغي وضعها ضمن المعايير الأساسية لتقويم الأشخاص والجماعات والدول. وهي لا تُخلق من الوهم، ولا تذهب إليه دفعة واحدة. إن فقدان الهيبة هو بداية طريق النهاية الموحشة. وهي عند بدء ذبولها تقرع أجراساً يسمعها، كل مَنْ لا يعاني من الصمم الجسدي والنظري وضعف مجسات الضمير. الهيبة قوة فاعلة في دروب النضال الحق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران