الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مازن لطيف (بطل رواية توراة المتنبي) لنعيم عبد مهلهل يكتب عنها.. العراق الغافي بين قباب الاضرحة وحكايات الغرام

مازن لطيف علي

2019 / 9 / 25
الادب والفن



يكتب نعيم عبد مهلهل رواية (( توراة المتنبي )) والصادرة قبل أيام عن دار نينوى للطباعة والنشر في دمشق والتي نشر جميع فصولها في صحيفة العالم قبل عامين وتحت ايحاء حكاية عشتها انا وهو في ذكريات حكايات الغرام وتواريخ الامكنة المقدسة التي انتبهت اليها من خلال مزاولتي لبيع الكتب الممنوعة من التداول خلال ايام الحصار في سنوات تسعينيات القرن الماضي ، وكان التأريخ اليهودي في العراق الممتد من السبي البابلي في عهد نبوخذ نصر والى القرار الذي اصدرته الداخلية العراقية والخارجية في العهد الملكي بترحيل يهود العراق الى فلسطين بعد حرب عام 1948 .
التأريخ هذا يوظفه نعيم عبد مهلهل في ذلك الطلسم الغامض مع اختفاء نسخ من التوراة طبعت في زمن مدحت باشا ، ليقع احدها بيد كاتب هذا المقال ، ويسجل معه تفاصيل قراءة ازمنة التأريخ الذي ساهم اليود بصنعه كمهرة وتجار واطباء وفنانين ووزراء ومعلمين .
يكتب نعيم عبد مهلهل روايته متأبطا تلك التوراة ويسير في تفاصيل الروي مع الذين امتلكوها وعاشوا هاجسها الاجتماعي عبر الحياة السرية لبعض التجار اليهود في بغداد والناصرية عندما كانوا يأمون بيتا للذة السرية في منطقة البتاوين تديره يهودية تدعى هيام ثم تودعه امانة عند رجل مسيحي صادفته انا والروائي في احدى مقاهي البتاوين لنكتشف العلاقة السرية بين بيت الغرام هذا والتوراة المفقودة ، حيث يتحدث الروائي عن توراة اخرى بنسخ عديدة شاهدها في مرقد النبي العزير القريب من ضفاف دجلة في اهوار ميسان حيث خدم الروائي جنديته وكان قد شاهد النسخ التي اختفت لاحقا مسروقة من قبل ضباط في احدى فرق الجيش العراقي في حرب الثمان سنوات لتبقى توراة المتنبي وحدها من يحاول معها الناشر ان يعيد صياغة ما حصل له في تجارب الحياة وخصوصا في سفرته الاخيرة الى تونس حيث يستعيد مع شفاه المرأة التي يهوى تواريخ مشابهة لتلك اللذة السرية التي عاشها اليهود وهو يزور امكنتهم في تونس وتأثيرهم في الحياة الاجتماعية لذلك البلد .
الرواية بفصول متشعبة وتتغير احداثها حيث لا يستطيع هذا العرض أن يلم بهاجسها المتنوع لكنه في النهاية القارئ يستطيع ان يجد كل المدلولات التي اراد فيها نعيم عبد المهل ان يوصلنا الى قصة التوراة وهي تحرك فينا الرغبة لمعرفة الدور الحضاري ليهود عراقيين لا شأن لهم في السياسة وإنما كانوا يتعاطون مع المذاهب الاخرى حياة التعايش والمحبة والمصالح المشتركة.
نعيم عبد مهلهل ينشئ لنا في تجانسه هذا عالما من الفنتازية التأريخية المحبوكة بجمالية لغته التي يعرفها الجميع والتي يحاول فيها في اغلب اعماله الروائية التي تتعدى الستة روايات كل عام ان يحول الواقعي الى اسطوري ، ولكنه هنا يعكس لعبته الاثيرة في السرد الروائي ويحول الاسطوري الى واقعي ليثيرنا بتواريخ الامكنة وصانعي نبضها اليومي كما في وصفه الشيق عن ضريح النبي التوراتي ( العزير ) وتناوله الجميل لتأريخ المتنبي كشارع للثقافة والحلم والمقاومة الثقافية لأنظمة القمع والتسلط ، وفي هذا المقطع المأخوذ من الرواية نكتشف في انسيابية لغة الوصف لدى مهلهل صورة المكان مجسدا كلوحة تشكيلية وكحدث لتأريخ البشر ووجوهه المميزة ومنهم بائه الكتب الشهير المرحوم نعيم الشطري :
(( لقد كنت أحد شهود العيان على أسرار وهمسات هذا الشارع، وقريباً من خفاياه فقد كان العديد من باعة الكتب من الأدباء والمثقفين يمثلون بحق المعارضة الحقيقية للسلطة، التي كانت تحسب ألف حساب لهذا الشارع، وتبث العسس والعيون في طياته ودكاته والأزقة المؤدية إليه، وأمست اللعبة مكشوفة لنا ولرواده، حيث شهدنا كيف تعرض باعة الكتب إلى مضايقات أمنيّة، ومنهم من تعرّض للملاحقة والسجن، ومن نجا من هذا، عبر الحدود إلى منفاه وأغلبهم ذهبوا إلى عمان ودمشق.
كنت متخصصاً في بيع الكتب الممنوعة، والآن أتمنى أن أعيش تخصص الغور في روح تلك التوراة العتيقة التي أتت محملة مع كتب كثيرة إلى شارع المتنبي لتباع بالمزاد، وهي تسكن حنجرة صديقي نعيم الشطري ليبيعها في مزاد الجملة والمفردة، وما إن وقفت أمام عربة يدفعها صبيّ تحمل كتباً لمعلم متقاعد أحرجه شحة الخبز والدواء فقرر أن يدفع بمكتبته إلى مزاد الشطري، حتى شعرت بهاجس غامض أن كتاباً سحرياً يناديني من بين كل هذه الكتب، ولأنني لم أنتبه له بين زحمة وأكداس عشرات الكتب قررت أن أشتري الكتب كلّها من دون أي مزاد. وأعطيت لنعيم عشرة دنانير تعويضاً عن مناداته وذهبت بالكتب كلها إلى بيتنا دون أن أودعها في مخزن مكتب صديق كما كنت أفعل كل مرة. ولا أدري لماذا أخذت الكتب كلها إلى غرفة النوم وما إن أضاءت والدتي فانوس غرفة النوم حتى قفزت تلك التوراة إلى أجفاني ومنذ تلك اللحظة عقدت معها مودة قرائية وأظن أنها هي من حفزني على البحث والكتابة عن التأريخ التوراتي في العراق.))
رواية توراة المتنبي لنعيم عبد مهلهل هي رواية التأريخ وقراءة تدويناته بشكل آخر قد يختلف فيه مهلهل عن بقية مجايليه عندما تراه يأخذ راحته في المضي مع شخوص مدونته ويسهو في بعض اخيلته ليجنح الى لغة شعرية مكثفة قد لا تتلاءم مع حدة ملامح الوجوه الحزينة للتاجر اليهودي يوم يشعر ان عليه يهاجر من البلاد التي تعود عليها وعلى نمط عيشها منذ ايام بابل وبنى فيها شرفات الخشب المميزة والخانات الكبيرة ومانشيتات الصحف التي كان اليهود من بعض روادها كما ان صالح الكويتي اليهودي الذي له الفضل في تطوير الموسيقى العراقية الحديثة . وهو ما عرجت اليه الرواية وكأن نعيم عبد مهلهل اراد ان يحول التوراة التي امتلكها ذات يوم الناشر ( أنا ) الى بانوراما تتحدث عن جانب مهم من التأريخ العراقي الذي تم نقل ارشيفه الى الولايات المتحدة بعد ان وجدوه عائما تحت رطوبة المياه الجوفية في قبو في مديرية المخابرات في الحاكمية وتسعى الحكومة العراقية لأعادته ثانية الى مكانه الحقيقي.
الرواية ايضا لها حديثا ممتعا عن دمشق وحارتها وشراكستها ، وينجح نعيم عبد مهلهل في احيا الربط بين خماسية تلك الامكنة ( بغداد ، ناحية العزير ، الناصرية ، دمشق ، تونس ) وكل تلك الامكنة تترابط داخل الرواية بحبال من الذكريات والهاجس الذي يعيشه بطل الرواية ( الراوي ) وصديقه ( أنا ) الذي اشار اليه الروائي بأسم مستعار هو محمد.
توراة المتنبي التي كتبها نعيم عبد مهلهل وراجعت انا فصولها فصلا فصلاً مكتوبة في دراية وابداع لروائي محترف هو من بعض ظواهر الكتابة العراقية الجديدة .وهي موجودة اليوم في مكتبات شارع المتنبي وادعو الى قرائتها لمعرفة اسرار حقبة من حقب التأريخ العراقي الحديث يضيف اليها نعيم عبد مهلهل اشياء كثيرة من بهارات لغته الاسطورية المعجونة بمحلية المكان وايحاءات السهل الممتع والسرد الروائي المدهش.
لغة الرواية الشعرية هي ما نختم فيها العرض الذي اظنه شيقا ونعيم يرسمها لنا كقصيدة تعيش داخل رواية تعيد لنا لذة القراءة والتمتع في عالم كان بالأمس يمنع الهمس به واليوم تستطيع بحريتك ان تتحدث عن اسراره التي ذهبت ولن تعود ومن هذه اللغة الشفافة في توراة المتنبي ما يتحدث به نعيم عبد مهلهل بقوله :
((أذهب إلى المدينة، ومثل بساط ريحٍ يطير فوق بيوت حارات باب توما، تبدو مدينتي السومرية هناك. طغراء وطوبوغرافيا لروح الأمكنة السحرية في ميزوبوتاميا:
فأتخيلها، أتخيل حياتي التي ذهبت كما غيمة شاخت وناحت وهامت على عشب الذكريات تطرز للشيب دمع التوجع في ابتعاد البلاد، وحزن العباد.
بقيت تلك الأساطير عند من ظلوا هناك يلوكون حسرة لمّ الشمل وعودة شاشات السينمات الصيفية والكتب المستعارة من المكتبة العامة، هذا البقاء الذي وفر لهم مساحة قليلة من الأمل بأن يعاش العمر كما تريده أفئدة القلوب لا كما تريده الفلسفات الفجة التي تعقد بأن كاتم الصوت والخنجر الغادر والعودة إلى داحس والغبراء هما الحل الأمثل لصناعة مملكة تعدد الزوجات والولاية والوصاية وماعون الثريد.
أولئك الذين تركتهم هناك، الصديق والعشيقة وعابر السبيل وزميل الدائرة ومؤذن الجامع وشرطي المرور وبائعة القيمر والقهوجي وعضو قيادة الفرقة السابق وسائس عربة الخيل وبائع الصحف اليومية، يعيشون أزمنتهم بقدر مركّب ومرتبك نتاج ما نسميه في التداول اليومي (سقوط النظام) ويعني هذا انهيار الحكم السابق ومجيء المحتل ومعه الساسة الجدد الذين بشّر بهم رامسفيلد ونتمنى أن لا يبشروا به، لأنه كما نابليون جاء بمعادلة الرياضيات ولكن عن طريق حربة البندقية، ولهذا تاه هؤلاء الطيبون بين القبول والرفض وساعات القطع المبرمج الذي يعانون منه من تسعينيات القرن الماضي وحتى الساعة. وفي كلتا الحالتين فالمُتمنى لن يأتي كما المشتهى، الذي يجيئنا دائماً ما كان يجيء قبلنا لأهل سومر وبابل وآشور، وأغلبه خيول لغزاة وحكام طغاة وشيئاً من خيال جنائن معلقة وأماسي لربيع قصير كتبنا فيه الأساطير وقصائد الشعر الشعبي وبعضاً من دواوين الشعر الحر وأغنيات الريف، وغير هذا، فنحن مسحورون بالهاجس الصعب والذي فيه اكتشفنا الكلمة وبسبها دفعنا الثمن غالياً منذ احتراق أور وحتى احتلال بغداد.))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد