الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنوات الطفل الأولى

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 9 / 26
التربية والتعليم والبحث العلمي


رب الولد في طريقه، فمتى شاخ أيضا لا يحيد عنه.
اجمع التربويون منذ أمد بعيد على أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل لديها التأثي الأكبر في تكوينه؛ فكل ما يعيشه الأطفال في هذه المرحلة ستؤثر فيهم لبقية عمرهم. وقد كتب المصلح التربوي الألماني فروبل في القرن الميلادي التاسع عشر أن الحياة الروحية للإنسان تتشكل إلى حد كبي بتجارب الطفولة المبكرة. فعلاقة الطفل المستقبلية مع أولياء الأمور ومع الله ومع المجتمع ككل وحتى مع الطبيعة تعتمد بصورة رئيسية على مدى تطور نموه خلال تلك المرحلة وهذا ما أكدته علميّا الدراسات الحديثة. وعلى ضوء هذه الحقيقة وبسبب المسؤولية الجسيمة الملقاة على كل والد ووالدة، فمن الضروري جدا رعاية الرباط الذي يربط الطفل الرضيع مع ً والديه ابتداء من الولادة.
فيجب على الوالدين أن يتذكرا أن الله هو الذي رزقهما بهذا الطفل، وأنه على عاتقهما تقع مسؤولية توجيه الطفل في المسار الذي يحقق قصد الله له سواء كان ولدا أو بنتا أن أهمية التفاعل مع الطفل الرضيع لا نعطيها حقها مهما شددنا عليها. لقد كانت أمي تقول دائما أن التربية تبدأ بالمهد. فيجب أن نحمل الأطفال الرضع و نمسدهم ونداعبهم. ويجب أيضا أن نغني لهم ونحكي معهم ونبتسم لهم. فأهم من كل شيء هو أنهم يجب أن يكونوا محبوبين بمحبة كبية غي مشروطة.
إلا أنه يجب على الآباء الاحتراس أيضا من رؤية أطفالهم من خلال نظارات وردية اللون، لأن الحياة لا تكون مفروشة بالورود دائما. فقد رأيت حياة الشباب تتحطم لأنه عندما كانوا صغارا، لم يقدر آبائهم على أن يرفضوا لهم طلبا ويقولوا لهم «لا:» لأن أطفالهم لم يكونوا في نظرهم سوى «ظرفاء» وبالتالي فشلوا في تأديبهم فقد تأ ّسر هؤلاء الآباء كرهائن من قبل أطفالهم الذين أفسدهم الدلع الزائد وهم يكبرون، وصار الأولاد بالتالي لا قدرة لهم على تقبل أي فشل أو مشقة في حياتهم، ولا يرضون بتحمل مسؤولية أفعالهم.
وعندما يبلغ الطفل سنة إلى سنة ونصف من العمر، أي في المرحلة التي يتعلم فيها الزحف والمشي، فينبغي تحفيزه وتشجيعه في ذلك العمر بألعاب بسيطة وبأناشيد الأطفال. ولنعلم بأن قدراتهم العقلية في هذه المرحلة لا تُضاهى، والشيء الذي لا يتعلمونه الآن لن يتعلموه لاحقا إلا بجهود كبية. ولهذا السبب يتحدث الخبراء عن «نافذة الفرص» التي لن تنفتح ثانية انفتاحا واسعا أبدا، أي بمعنى عدم تضييع الوقت والفرص وللتأكد من ذلك، فلا يمكن قياس نمو وتطور الطفل على أساس مدى تعلمه فقط أو مقدار ما ينجزه. لأن النمو النفسي والروحي للأطفال مهم بالدرجة نفسها كذلك، وغالبا ما يكتسبونه عندما يعتمدون على أنفسهم. فالوقت الذي يقضونه بمفردهم معتمدين على أنفسهم يلعب دورا حاسما في تنمية قابلية بناء الخيال والتصورات لديهم وسيتعلم الأطفال فيه كيفية الاستمتاع دون تدخل الكبار.
فالساعات التي يقضونها في أحلام اليقظة واللعب الهادئ تغرس فيهم الشعور بالأمان وتعمل على توفي السكينة النفسية اللازمة في خضم إيقاع الحياة اليومية. غي أننا نرى من ناحية أخرى، وفي كثي ّ من الأحيان، أن الكبار يعكرون صفاء أجواء الأطفال دون داع أوسبب ويضايقونهم بتدخلاتهم المزعجة. فلا يستطيعون المرور من جانب طفل دون رفعه وحمله وتقبيله أو فعل شيء به. ولو رفض
الطفل أو قاوم فسوف ينجرح الكبار، والذي كان مشهدا سعيدا مجرد قبل لحظات صار الآن مشهدا من الغضب والإحباط. ويأخذ المصلح التربوي فروبل هذه الفكرة ويخطو خطوة أبعد إلى الأمام ويؤكد على أن اللعب الخالي من المقاطعة شرط أساسي لتعليم الطفل على العمل غي المنقطع. فالطفل الذي يلعب بكامل التركيز سيصبح عندما يكبر شخصا عازما ودؤوبا ينجز العمل المكلف به ولا
يتركه إلى أن ينتهي منه.
وفي كل مرة نلتقي مع طفل ونتحدث معه، فمن الضروري جدا أن نأخذ بنظر الاعتبار وبكامل المحبة طبيعة الطفل الداخلية: مثل روحية البساطة والصدق وسرعة التأثر، فهذا الأمر حاسم جدا وفي غاية الأهمية. فلا تعني تربية الأطفال صياغتهم في قالب معين وفقا لرغباتنا وأفكارنا الخاصة بنا. وإنما تعني ساعدتهم ليصبحوا وفقا لما هم عليه في فكر الله.
أن «التخلي» عن عقلية الكبار التي عندنا ليس أمرا سهلا أبدا، ّ حتى أن تلاميذ السيد المسيح سخطوا على الوضع عندما تم دفع الأطفال من بينهم ليتقربوا إلى يسوع المسيح. لأنه عندما يتواجد الأطفال، فلا تسي الأمور بحسب المرام. فنرى الأثاث تُ َّ خدش، وتربة الزهور تُداس، والملابس الجديدة تتمزق، واللُ َعب تضيع أو تنكسر.
لأن الأطفال يريدون التعامل مع الأشياء ومسكها واللعب بها. فهم يريدون أن يمرحوا، وهم بحاجة إلى مكان وفرصة ليقوموا بأعمال صبيانية وشقيّة وضوضائية. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الوالدين اللذين لديهما أطفال صغار، فقد تبدو السنوات الأولى مرهقة جدا في بعض الأحيان – وفي نهاية يوم طويل، فقد يبدو الأطفال كأنهم مصدر إزعاج أيضا أكثر من كونهم نعمة. فهم ليسوا دمى خزفية لامعة وجميلة بل عفاريت لا ٍ يمكن التنبؤ بما سيفعلونه بأياد َد ِبقة، وأنوف تسيل، وأحيانا بكاء في الليل، لكن مع ذلك، فلو أحببناهم حقا، لوجب علينا الترحيب بهم كما هم عليه وعلى طبيعتهم.
العصا والتوبيخ يعطيان حكمة، والصبي المطلق إلى هواه يخجل أمه.
على الرغم من وجود الملايين من الأطفال في أرجاء مختلفة من العالم من الذين يترعرعون في ظروف فقر مدقع، إلا أن معظم الأطفال في بلادنا لديهم أكثر بكثي مما يحتاجون إليه. فالجيل الذي نربيه لا يمكننا تسميته بغي اسم جيل
مدلل خربان وفاسد. أما نحن أولياء الأمور، فغالبا ما نكون سريعين في إلقاء اللوم على النهج المادي الذي يسي عليه المجتمع ككل، أو على الإعلانات التجارية المتواصلة التي يراها أولاده يوميا، لكن في الواقع المشكلة تبدأ بفترة طويلة قبل أن يتعرض أولادنا لأي من هذه القوى. وطبقا لخبرتي، فإن الأطفال المدللين هم نتاج الآباء المدللين – ونشي هنا إلى الآباء الذين يصرون على تطبيق أسلوبهم الخاص بهم، حيث تتمحور حياتهم حول الوهم بأن الإشباع الفوري أو الترضية الفورية تجلب السعادة.
أن تخريب الأولاد بالدلال لا يحصل من خلال تكديس الأطعمة واللُعب الملابس فحسب، بل أيضا من خلال الإذعان لطلباتهم وأهوائهم. وهذا بحد ذاته أمر سيء بشكل كبي حتى وهم لا يزالون صغارا في سرير الطفولة، لكن كلما كبروا في السن ازدادت المشكلة سوءا. والأولاد المتأكدين إلى حد ما من أنهم سيحظون بالأسلوب الذي يريدونه تراهم يسببون نزاعا كبيا عندما يرفض الآباء رغباتهم
أو تخيب آمالهم، وسرعان ما تنكشف طبيعة علاقتهم مع والديهم على حقيقتها. فكم من آباء مضطربين يصرفون كل جهودهم لمجرد محاولة مواكبة طلبات أولادهم! وما أكثر الآباء الذين يذعنون لأولادهم لمجرد تهدئتهم!
ويفسد الأولاد أيضا عندما يجري تقديم خيارات زائدة لهم. ومما لاشك فيه إن الأولاد يلزمهم أن يتعلموا صنع قراراتهم بيدهم، لكن أولئك الذين يقدمون لهم باستمرار خيارات جمة، ليختاروا من بين الأطعمة على سبيل المثال أو مذاقات (نكهات) أو مشروبات أو فعاليات، فهم بالحقيقة يضرونهم ضررا بليغا. فالأولاد الذين يشاهدون ثلاث ماركات مختلفة من منتجات كورن فلكس في وجبة
الفطور هم بالحقيقة ليسوا أكثر سعادة من أولئك الذين يأكلون ما قد وضع لهم على المائدة. إذ تخلق الخيارات الكثية خصلة التردد لدى الأولاد، وسلوك عدم الاقتناع بالأكل عند تناول الطعام، بالإضافة إلى عدم الامتنان لما عندهم. غي أن الأولاد يتوقون في الواقع إلى رسم حدود لهم فيما يخص السلوك. فعندما يتم تحديد السلوك تحديدا واضح المعالم لهم نراهم يرتاحون نفسيا وتزدهر صحتهم النفسية، وهذه حقيقة واقعية مشهود لها.
ومن الممكن أيضا إفساد الأولاد بالإفراط في تحفيزهم وإثارتهم زيادة عن اللزوم. فبالرغم من ضرورة تقديم مجموعة متنوعة واسعة من الأنشطة بما يكفي للحفاظ على اهتمامهم وتشجيع خيالهم، إلا أننا سنضرهم لو اعتقدنا بوجوب تزويدهم باستمرار بإثارات وتجارب جديدة. لأنه يجب عليهم أن يتعلموا بأنه في الحياة الواقعية لا يُتاح لهم الحصول على كل شيء يرغبون فيه أو القيام به
فلو أرخينا الحبل زيادة عن اللزوم استبد الأولاد في البيت والمدرسة، وكلما كبروا في السن فعلوا كل ما في وسعهم للحصول على ما كانوا يريدونه. وسرعان ما تراهم صاروا متهورين، ومراهقين لحوحين وكثيي المطالب، والحال الذي كان سابقا مجرد استياء سيصبح الآن تمردا لا يمكن السيطرة عليه.
كيف سنربي أطفالنا إذن بدون إفسادهم بالدلال؟ إن الحكمة التربوية نراها هي هي ولا تتغي بدءا من كتاب سفر الأمثال في الكتاب المقدس وانتهاء بمجلات الطب الحديث حيث مفاد هذه الحكمة هي ِّ كالآتي: أد ْب طفلك. اُ ْ رسم حدودا للسلوك، وقُلْ غالبا «لا» وأكثر مما تقول «نعم»، ولا تشعر بالأسف على أطفالك عندما يقلبون الموقف إلى مناحة وبكاء ويديرون وجوههم بخيبة أمل عابسة. هذا وإن الأمور حتى لو كانت تسي سيا صعبا في البداية، إلا أن الأطفال الذين قد نالوا تأديبا حسنا سوف يصبحون أشخاصا بالغين يتسمون بالامتنان وحسن الخلق والطيبة والثقة بالنفس – في حين أن أولئك الأطفال الذين يفرضون إرادتهم على أهاليهم لن يتمتعوا بالأمان النفسي عندما يكبرون وسوف تملأهم الأنانية وعدم الأمانة. يشبّه القديس بولس الرسول دور الله بدور الوالدين، ويكتب قائلا أن الله يؤدب ويعاقب كل من يحبه. (الإنجيل، عبرانيين ) فلو أردنا حقا أن نحب أولادنا كما أحبّنا الله، لفعلنا الشيء ذاته








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل