الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوقت [قصة قصيرة]

إبراهيم جركس

2019 / 9 / 27
الادب والفن


الوقت [قصة قصيرة]
إبراهيم قيس جركس

الساعة كانت مُعَلّقة على الحائط. كانت تكّاتها تدقّ برتابة وبطء وراضي يراقبها بعينين ثابتتين، كان يستطيع رؤية تكّة الثانية الواحدة مع مرور الثواني لتتحوّل إلى
دقائق ثمّ إلى ساعات. الوقت مفهوم غامضٌ جداً ومضحك، وهناك قدرٌ وفيرٌ منه، حتى أنّ المرء إذا استغرق كثيراً في مراقبته فَقَدَ عقله وجُنّ. الوقت بالنسبة لمن لديه جدول أعمال دقيق أو روتين يومي صارم يصبح مقياساً لعاداتهم الحياتية اليومية. إنّهم يدركون أنّ عليهم الاستيقاظ في ساعة محدّدة. وهُم يعلمون تماماً أنّ لديهم هذا المقدار من الوقت أو ذاك لتناول وجبة الطعام. إنهم يعرفون أنّهم يملكون العدد [كذا] من الساعات ليناموا. إنّهم يعرفون أنّهم يجب أن يكونوا في أماكن عملهم في الساعة [كذا] بالضبط، وهُم يعرفون أنّ عليهم العمل [كذا] ساعة ليعودوا إلى أعمالهم وعاداتهم الروتينية اليومية المحصورة [بكذا] ساعة. من دون روتين سيفقد الناس عقولهم. بإمكانك التحديق في الساعة ومشاهدة ساعات عمرك تمرّ كما تسقط حبّات الرمل في الساعة الرملية... ساعات من عمرك تمرّ وتمضي نحو العدم وأنت تذوي وتذوب وتتحلّل خلاياك وتحرق مكوّناتها لتغدو هيكلاً عظمياً شاهداً على نهايته.
حدّق سعيد بالساعة... شاهد تكّاتها تمضي تكّة بعد تكّة. لم يكن لديه أي عمل، أي روتين أو عادات يومية يعيشها، كل ما كان لديه هو الوقت فقط. وما نفع الوقت إذا لم يكن لديك شيئاً تفعله، أو تصنعه فيه؟ عندما تعمل، عندما يكون لديك عمل، وشيئاً تفعله، قد يصبح أحياناً العمل مرهقاً ومملّاَ وستجد نفسك تنظر فس الساعة كل برهة منتظراً مرور الوقت بسرعة. لأنّه عندما يمرّ الوقت وينتهي وقت عملك، في تلك اللحظة فقط ستغدو حُراً وسيكون الوقت كله مُلكَك. عندما لا يكون لديك سوى الوقت بين يديك، ستحملق في الساعة المعلقة على الحائط وتراقب سير عقرب الدقائق والثواني، وتتمنّى أن تدير العقارب إلى الوراء أو تعكس سيرها حتى تسنّى لك تعويض كل الوقت الذي فاتك.
وسعيد جلس على معقده وراقب الساعة. كيف كان سيمضي وقته؟ ففي النهاية، كل ما نملكه نحن سوى بعض الوقت على سطح هذا الكوكب، لكل فردٍ لنا مساحته الزمنية الخاصة ضمن حيّز هذا الوجود. الوقت هو مقياس العادة، وهو مقياس المؤسسات التي يتكوّن منها الأفراد _كالأسرة، والوظيفة، والجيش، والطائفة وأي مؤسّسة قائمة، فمن دونه لن يكون أفرادها قادرون على تنظيم وجدولة نشاطاتهم ولقاءاتهم ومواعيدهم وعملياتهم وصلواتهم وطقوسهم. الساعة ماهي إلا أداة، ليس أكثر من ذلك.
هناك ثلاثة أنواع من الناس في هذا العالم. فهناك أولئك الذين يملكون الكثير من الوقت بين أيديهم ويشاهدون الساعة تسير ببطء، ويهدون جلّ ساعاتهم بذلك. وهناك هؤلاء الذين يلتزمون بجداولهم ولايحيدون عنها قيد أنملة، يعيشون حسب جداولهم وساعاتهم، إنهم من أولئك الذين يقيسون الوقت حسب الساعات الزائدة لديهم ويوجدون في عالم الروتين والمواعيد الدقيقة المُجَدوَلة. ثم هناك النوع الثالث من الأشخاص، ذلك النوع الذي لايضّع أي وقت لأنهم دائمو العمل والحركة. بالنسبة لهم، الوقت لا معنى له لأنه لا نهاية لعملهم، إنهم مثل سيزيف يعملون دوماً بلا كلل. النوع الأول يندمون على تضييعهم للوقت. والنوع الثاني يحصون الساعات والدقائق والثواني، حتى يغدو الوقت وقتهم من جديد. والنوع الثالث لا يضيّعون وقتهم، ولا ينتظرون حتى يصبح الوقت وقتهم. بالنسبة لهم يغدو الوقت ذلك الإلهاء المزعج والمُربِك حيث لا يعيشون حسب جدول أو تنظيم محدد للوقت لأنهم دائمو العمل.
وظلّ سعيد جالساً في مكانه، يراقب سير الساعة ويُحصي دقّاتها تمضي إلى العدم، كانت تذكّره بحتمة مرور الوقت، العملية التي لا مَناص منها، نهر هيراقليطس الذي يجري دوماً. هل كان سيضيّعه؟... أم أنه سيُحصي الساعات في روتين قاتل؟... أم أنه سيفعل شيئاً آخر؟...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الوقت - الملل - الاحساس بالوجود
جمشيد ابراهيم ( 2019 / 9 / 27 - 19:17 )
الذي عنده الوقت الكافي لربما يشعر بالملل و لكن و كما قال الفيلسوف الالماني فانك لا تحس بوجودك الا في الملل و توفر الوقت
تحياتي


2 - السيد جمشيد إبراهيم
إبراهيم جركس ( 2019 / 9 / 28 - 18:04 )
صدقت صديقي
لكنني أرى أنّ الناس _وخصوصاً في بلادنا العربية المتأخرة_ تستهين بالوقت ولا تقدّر معناه وصيرورته... لذلك حتى حتى إذا امتدّ بهم الوقت فإنّهم لايستشعرون وجودهم ولا كينونتهم وكأنّهم نيامٌ بحاجة إلى الموت لكي يستيقظوا.
دمتَ بخير صديقي
وشكراً لمرورك.

اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية