الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تغريبة شعب في بلده

سميح مسعود

2019 / 9 / 29
الادب والفن





التقيت به مصادفة ، قدم نفسه باسم " مارفين جونر" من سكان كندا الأصليين ، وجدته عميق الشعور ، يمتلئ وجدانه بالحزن على أحوال شعبه ، خاصة أبناء قبائل كري ، أكبر مجموعات الهنود الحمرمن السكان الأصليين الذين يعيشون في محميات كثيرة موزعة على عدة مناطق في كندا ، منها محمية على مقربة من بحيرة مستيسيني ، في وسط مقاطعة كيبك … بيته يقع فيها على مرمى حجر من البحيرة .

حدثني باسهاب عن شعبه ، وعن أحداث أليمة مريرة حولته إلى بقايا شعب يعيش في محميات تحمل بصمات مئات السنين من الظلم والهزائم والإبادة الجماعية، لايشعر بالرضا عن أحوالهم ، يشعر أن غربتهم في بلدهم تشكل مصدر عذاب شخصي له ، لا يستطيع بأي حال من الأحوال تجنب هذا العذاب ... إنه مثل شعبه يشكو الغربة ، يمتد إحساسه بها إلى كل شيء حوله ، ويصعب عليه التواصل السليم مع المحيط المتواجد فيه .

أفهمني أنه يستيقظ كل يوم على إيقاع تاريخ شعبه القديم ، كان أجداده فيما مضى أسياد الأرض الواسعة التي تسمى اليوم كندا … تاريخ طويل بدأت بشائره الأولى قبل ما يزيد عن خمسة عشرالف سنة ، كان لشعبه على امتداد تلك السنين حضارته وقيمه ومأثوراته واحداثه وأخباره ومعتقداته الفلسفية والدينية ونظمه العشائرية والسياسية وسماته الثقافية التي تشبه ما لدى مجتمعات العالم القديم … ظلت راسخة في أذهان الناس جيلا ً بعد جيل ، جسدوها في مختلف جوانب حياتهم ، بملابسهم وأطعمتهم وفنونهم ولغاتهم وأعرافهم وطقوسهم وزخارفهم وحرابهم وسروجهم وقواربهم ومشغولاتهم على امتداد ألاف السنين.

بقيت أوضاع شعبه على هذا الحال حتى وصول المكتشف الأوروبي الأول من القارة القديمة ، بدأت مع وصوله مأساة شعبه ، نشبت الحروب وعم القتل ونشر الامراض ، وتلاشت مظاهر الحياة الطبيعية في قرى أجداده وأماكن تواجدهم ، تراجعت أعدادهم تدريجياً , وتم الإستيلاء على أراضيهم وإقامة مستوطنات أوروبية فوقها للغرباء ، وهكذا انقرض غالبية شعبه من السكان الأصليين ، وبقي قلة منهم يتمرغون الان في أوحال محميات أقيمت لهم خصيصاً لعزلهم فيها بعيداً عن مقومات الحياة الطبيعية ، أجبروا على العيش فيها في ظل ظروف صعبة غير انسانية .

بهذا الإحساس يواجه محدثي الحياة ويقبل عليها ، بسخط وإحساس دائم بأنها لا تطاق ، و هو ما زال في الرابعة والعشرين من عمره ... يُعبر عنها في مرارة وبحساسية مرهفة دقيقة ويعتبرها حياة تمزق وأسى ، لما يعانيه أبناء شعبه من تمزقات ذاتية داخلية وألام وأحزان عميقة غائرة وعميقة في نفوسهم ، إلى الحد الذي يشل قدرتهم على ممارسة أعباء الحياة الإنسانية السليمة ، ويشيع بينهم مظاهر أزمات نفسية مضطربة واضحة ومنظورة .

قلت له : " زرت عدة محميات قريبة من مدينة مونتريال تعرفت عليها عن بعد ، لم أتلمس مافيها من عذاب وضياع ، هل لك أن تحدثني عن ظروف الحياة الداخلية للمحميات ؟ "

نظر إلى ساعته ، واعتذر لقرب موعد بدء محاضرة في كلية لاسال التي يتابع الدراسة فيها .

ودعني ، بعد أن اتفقنا على اللقاء ثانية في اليوم التالي ، للإجابة على سؤالي في دقة وتفصيل حول حياة شعبه وظروفهم وأحوالهم المعيشية في المحميات .

التقيت به في الموعد المحدد في نادي فاتس ، على مقربة من تقاطع شارعي جاي وسانت كاترين في وسط المدينة ، كان برفقته ابنة عم له اسمها هيلاري ، وصديقة لها اسمها جاكلين دكسون … قدمني للفتاتين بلغة كري لغته الأم … ذكرته بسؤالي السابق الذي طرحته عليه حول ظروف الحياة الداخلية للمحميات .

اجابت ابنة عمه هيلاري : " تغرقهم الديون ، وتطاردهم لقمة العيش ، يعيشون في ازمة دائمة … تخيم عليهم تداعيات أزماتهم النفسية المختلفة ، ويواصلون الحياة في محمياتهم في ظل أوضاع تخيم عليها العزلة والوحدة والجهل وعدم التعليم وعدم العمل في جهد ودأب ، فرُضت عليهم المحميات فرضاً والتحمت بهم وأثرت فيهم تأثيرا ًعميقا ، وجعلتهم يواجهون عقبات كثيرة في المجتمع والحياة ."

توقفت هيلاري عن مواصلة الحديث ، وسرعان ما التقط مارفين خيط الحديث بقوله : " مؤثرات تاريخية كثيرة ساهمت في تشكيل مجمعاتنا في المحميات المخصصة لنا بحكم القانون ، لعبت دورا ً كبيرا ً في ظهور عقد نفسية تطورت وتفاقمت إلى حالات مرضية ، وبالتالي ساهمت في ظهور انحرافات اجتماعية كثيرة مخالفة للانماط السلوكية السوية ، ولا تتماشى مع تقاليد وقيم أجدادنا التقليدية ، مثل القتل والنهب والضرب والإعتداء على الأخرين وإتلاف الممتلكات ، إضافة إلى ظهور انحراف سلوكي بين الطلاب ، يتمثل بالهروب من المدارس والتسرب الدراسي "

بعد ذلك اشترك الثلاثة بالحديث عن مشاكل عملية ملموسة في محمياتهم … لفت نظري في حديثهم ، عدم تفاعل شعبهم مع بقية السكان المحليين ، و انعدام توفر حوافز التغيير لديهم نحو الأفضل ، وانعدام الرغبة في التعلم من الأخرين لاكتساب معارف جديدة هامة وضرورية لحل مشاكلهم وتحسين أوضاعهم وجعل حياتهم محتملة ومقبولة .

لاحظت من حديثهم أن بني جلدتهم من سكان المحميات يتفننون في الوصول الى الوسائل التي تزيد من شعورهم باليأس و الضياع … يقضون أوقاتهم في حانات رخيصة ، يقرعون فيها الكؤوس المترعة بالمشروبات المسكرة طيلة أيامهم ولياليهم للفرار من واقعهم المرير ، وحتى إذا استردوا توازنهم وأفاقوا إلى أنفسهم ، يبدأون بتناول المخدرات , ويزيدون بهذا من مفعول مشاكلهم التي تلاحقهم وتكدرصفوهم .

يعيشون حياة روتينية مملة ، تفقدهم نظرة التمتع العميق الصامت للطبيعة الجميلة الممتدة حول محمياتهم ، تضعهم دوما ً تحت تأثير نفسي مريع ، وشعور مخجل من الهزائم ، ومن إنقراض الملايين من جدودهم وأسلافهم أصحاب البلاد الأصليين .

توصلت من مضمون حديثهم إلى قناعة بأن ما أسمعه عن حياة شعبهم في المحميات يشكل تكوينات حقيقية لتراجيديا من نوع تراجيديات المسرح القديم ، التي لازمت المسرح الإليزابيثي فترة طويلة من الزمن ، واهتمت بابرازمضامين درامية متصلة الحلقات لماّسي إنسانية كثيرة .

وهذا ما قلته بصوت عالٍ : " إن ما أسمعه عن الحياة في محمياتكم تعبر عن تراجيديا واقعية ليست من نسج الخيال ، تراجيديا خاصة بكم بالوجوه البرونزية فقط دونما غيرها ، تبرز فيها حقيقة ماّساة إنسانية فريدة في التاريخ ، تتكرر فصولها على المسرح العالمي منذ مئات السنين ، في رحاب دول تتباهى بالحرية والديموقراطية والقيم الإنسانية ."

أجاب مارفين : " نعم إنها تراجيديا من نوع خاص ، من منابع حياة حقيقية ، لا تُعرض في مسارح مغلقة ، بل في رحاب دول كثيرة ، بدون مؤثرات صوتية وضوئية للإثارة ، لأن ما فيها يعبر عن علامات فارقة وبارزة على صعيد الإثارة ، بأبعاد درامية بانورامية غير متداولة تعكس في ثناياها مدى وحشية وبشاعة الاحتلال الاستيطاني البغيض "

علقت جاكلين بكلمات متقطعة ، بينت فيها أن أهم فصل من فصول تراجيديا شعبها ، ذلك الفصل الذي يتحدث عن أسلافهم الأولين ، منه يسترجعون ذكرى الماضي ، ومنه تنبعث أحلامهم بغدٍ افضل ، ومنه يتعرفون على تراثهم ولغتهم وثقافتهم وأساطيرهم ومعتقداتهم وتفاصيل تاريخهم .

أكدت هيلاري بأن ماضي تاريخهم ليس مجرد ذكرى فحسب ، بل إنه يمثل صك ملكيتهم لمساحات شاسعة من الأراضي العائدة لجدودهم ، بكل ما فيها من أنهار وبحيرات وجبال وهضاب ووهاد ، كما يكشف أيضاً عن كثير من المعاني الحضارية المتصلة بأسلافهم ، خاصة ما يتصل بالديموقراطية النيابية التي ابتدعها زعيمهم ديكاناويدا في القرن الخامس عشر ، الذي يعتبر أول من أسس حكومة ديمقراطية نيابية "تمثيلية"، لممارسة السلطة في رابطة أمم آيروكواس التي توحدت في إطارها خمس قبائل هندية في منطقة البحيرات العظمى ، وتعتبرتجربة هذه الرابطة واحدة من أقوى التأثيرات على الديمقراطية الحديثة ، وعلى فكرة المساواة بين المرأة والرجل في المجتمع الحديث .

وقبل ان تنهي هيلاري حديثها سارع مارفين إلى القول بعاطفة زائدة : " أكد بنجامين فرانكلين على أن الديمقراطية التي تمتع بها شعب رابطة الإيروكواس لم تكن معروفة وقتذاك في أوروبا ، كما عبر عن هذا الرأي مجموعة من كبار المؤرخين والكتاب في الغرب ، وأفاضوا في التأكيد على أنها تشكل ممارسة حقيقية للديمقراطية من خلال قرارات الشعب ."

إلتزمت الصمت ، كان حديثهم كافيا ً لي للتعرف على صور كثيرة عن تراجيديا شعبهم ، عبر عنها بمشاعرإنسانية صافية المؤرخ الامريكي الكبير هاورد زين (نصيرالمستضعفين من السود والهنود الحمر) بقوله : " سرق المستعمر الأوروبي من الهنود الحمرالأصليين أرضهم وحضارتهم وقيمهم ، ونجح في إبادتهم والقضاء عليهم ، وهَجرقسراً من تبقى منهم إلى محميات خاصة بهم بعيدة عن باقي السكان . "

هكذا طحنتهم الأيام وأصبحوا غرباء في أرضهم !!.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة