الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضية تجديد تاريخ المغرب عند عبد الله العروي

عادل امليلح

2019 / 9 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مما لاشك فيه أن هناك دواعي عدة تطرح نفسها على المفكرين عموما والمؤرخين خصوصا، وتدفعهم بشكل مباشر او غير مباشر إلى طرح قضايا التجديد وبالخصوص تجديد التاريخ، وعلى الرغم من أن قضية تجديد الفكر التاريخي ليست وليدة العهد، فقد إستشعر ابن خلدون ذلك كضرورة، وعمل عبر كتابه المقدمة على إضاح الطرق العلمية التي من خلالها يمكن تجديد الخطاب التاريخي، وفق ضوابط علمية ومنهجية تتجاوز الأفق الضيق لسابقيه.. كما اعتبر إبراهيم حركات في كتابه "المغرب عبر التاريخ" أن تاريخ المغرب لم يكتب بعد، فاتحا الباب على مصراعيه لإعادة النظر في تاريخ المغرب... واليوم يعيد عبد الله العروي طرح نفس الإشكال حول تجديد تاريخ المغرب.
إن كلمة تجديد تحمل بعدين: بعد أول يرتبط بواقع معرفة تاريخية موجودة؛ أي مختلف الكتابات التاريخية التي عالجت تاريخ المغرب، ونقلته من المعطى الموضوعي المباشر إلى المعطى المعرفي والأكاديمي، وثانيا رغبة ملحة لتجاوزه أو على الأقل تغيير النظرة إليه، بمعنى أن التجديد هو نقد وتصحيح أوتغيير.
في البداية ينطلق عبد الله العروي من وضعية محددة، مفادها "أن القارئ اليوم غير راضي عما يجده حول تاريخ المغرب" ومهما تكن قوة هذه الحجة وهل هي متقاسمة بين مختلف القراء أم تعكس تطلعات المؤلف ذاته؟ فإن إشكالية تجديد تاريخ المغرب تعد إشكالية إبستمولوجية؛ أي ترتبط بسيرورة الكتابة التاريخية وموضوعية المعرفة التاريخية معا، كما ترتبط أيضا بظروف ذهنية و واجتماعية محددة ضمن الزمان والمجال..
تبدأ قضية تجديد تاريخ المغرب مع العروي حول موضوعية المعرفة التاريخية، هل فعلا نتعاطى مع الحدث التاريخي كأحداث ووقائع؟ أم أننا في واقع الامر نتعامل مع ذلك الإسترجاع "flashback" من طرف ذاكرة المؤرخ؟
ينفي العروي عن التاريخ صفة الموضوعية المطلقة، ذلك أن التاريخ كفن أو كعلم.. ليس في نهاية المطاف سوى ((قراءة المؤرخ ونظرته للحدث التاريخي، وهي نظرة محكومة بخلفيات معينة، إذ يعد المؤرخ كيانا تتقاطع فيه مجموعة من المؤثرات والتي تنفي وتستظهر، وتقدم وتؤخر..)) بمعنى لا يجب الفصل بين المادة التاريخية وذاتية المؤلف، وعليه فإن الوثيقة التاريخية باعتبارها مادة تاريخية لا تعكس واقعا تاريخيا بالضرورة، فيكفي تغيير الوثيقة حتى تتغير نظرتنا إلى الحدث التاريخي برمته.. وهنا يترفع العروي عن التقليد السائد ليرهن موضوعية التاريخ بتوسيع مفهوم الوثيقة، ودائرة النقد التاريخي، ونقله من مجرد تحيين وتركيب إلى دائرة التحليل، منتقلا من مخاطبة الأشخاص والعائلات الى مخاطبة البنى والتنظيمات، وهذا مشروط بتوسيع حقول المعرفة التاريخية..
بالنسبة لتاريخ المغربي يقول العروي أن هناك تقليدان:
- هناك التقليد المستوحى من النمط العربي الإسلامي، ذلك النمط الذي سار عليه المسعودي والناصري وغيرهم والذي يبني موضوعه على الوثيقة المكتوبة والمتميز بنقدية محدودة.
- وهناك التقليد الإستعماري الذي يعده العروي صفوة عن الأول، ذلك أنه حسب العروي إستعاب مكتسبات القرن 19م، إذ وسع من مفهوم الوثيقة التاريخية وأنزل على تاريخ المغرب دراسات تحليلية للكشف عن الذهنية المغربية.. غير أنه على الرغم مما قدمه من إضافات، بقيت الرواية التي أنتجها بعيدة كل البعد عن الواقع التاريخي للمغرب وتسلسل أحداثه، كما أنه ظل رهينا لخلفيات وأحكام معيارية بالأسس.
وعندما يتساءل العروي عن أهمية التأليف الإستعماري في تجديد تاريخ المغرب، فإنه يجيب بالنفي، ذلك أنه ظل محدودا في إطاره الإيديولوجي والشرطي، أي أن تاريخ المغرب وجد نفسه أمام إديولوجية إستعمارية بدل محاولات معقولة لتجديده، فالغاية لم تكن معرفية في الأساس، بل نفعاوية يراد من خلالها التحكم والسيطرة، فالمشكلة تكمن في عدم الإرتباط العضوي بين هذا التأليف والواقع التاريخي المغربي، مما حذا به إلى تقديم جملة من الأحكام المسبقة والسلبية.. ويضرب لنا مثالا على ذلك من مشكلة التحقيب الغربي، الذي يضع الحضارة العربية الإسلامية ضمن إطار زمني يقابله في التصور الغربي عصر الظلمات والانحطاط والركود، هذا التحقيب الذي يقوم على مفهوم الدولة على اعتبار أنه مفهوم ينم عن فكرة التقدم.
لا يقف العروي في نقده عند هذين التقليدين، بل إنه يدرج أيضا التأليف المغربي الجديد الذي يعده هجينا، فهو من جهة وليد التأليف العربي الإسلامي وعلى الرغم من محاولاته التصدي للغايات التي يخفيها التأليف الإستعماري، إلى أنه من جهة ثانية يتبنى منهجه ويوافقه فيه، وهو في عمومه يبقى مخلصا للوثيقة المكتوبة، ومركزا في الأساس على الحدث السياسي، غير ممسك بالأبعاد الديالكتيكية المسؤولة عن هذا الحدث أو ذاك، من دراسة الذهنيات والديمغرافيات وكذا الإقتصاد...
من هنا يكون التأليف لتاريخ المغرب مر بثلاث مراحل:
- مرحلة التأليف العربي الاسلامي
- مرحلة التأليف الإستعماري
- ومرحلة التأليف المغربي الجديد
وهذه المراحل الثلاث التي تلتقي وتتقاطع في مسائل كثيرة، لا تعبر نهائيا عن تجديد تاريخ المغرب، وحتى التأليف الجديد الذي حصر قضايا التجديد في البحث عن الوثائق والجد في التنقيب عنها في الأرشيفات.. لا يعد تجديدا، فلا البحث عن الوثائق ولا تطبيق النظريات العامة مثل الماركسية والبنيوية على الرواية التقليدية كفيل بتجديد تاريخ المغرب. لأن ذلك يعيد منطق القرن التاسع عشر الذي رغم تقدمه يبقى هو الأخر تقليدا متجاوزا إذا ما قرن بالمنهج المعاصر، وهنا يضعنا العروي أمام إشكالية، إذا كان الجد في التنقيب عن الوثيقة التاريخية وتطبيق النظريات العامة عليها لا يعد تجديدا، فكيف يكون التجديد إذا؟ وما السبيل إلى ذلك؟
لسبر هذه الإشكالية يحيلنا العروي على نماذج معاصرة، ك "الحوليات" في فرنسا، وتطور "التاريخ الإقتصادي" في انجلترا، ونتائج "الأيركولوجيا واللسانيات" في أمريكا، وإن بروز هذه النماذج إرتبط بشروط سوسيوتاريخية سادت المجتمعات الغربية؛ أي الحداثة والتحديث... ليضعنا أمام مسألة مهمة وهي أن تجديد التاريخ رهين بالتقدم الحاصل في مختلف الميادين العلمية الأخرى سواء كانت طبيعية أو إنسانية.. فذلك وحده كفيل بنقل مركز التاريخ من مستوى الأفراد والأحزاب السياسية.. إلى مستوى المؤسسة والتقنية والثقافة، هذا الإنتقال هو ما يحول نظرتنا إلى السيرورة التاريخية ومنه إلى إعادة النظر في الحقبة التاريخية، فالمؤرخ المعاصر لم يعد يعنيه استعاب مضمون الوثيقة التاريخية، ولا سرد احداث الماضي، بل!! سرد طريقته وأسلوبه في التعاطي مع الوثيقة كمادة تاريخية من خلال النظر والتحليل، والنقد التاريخي انتقل من الترتيب والتركيب، إلى البحث الإبستمولوجي، بمعنى البحث عن القطائع والترابطات في بناء سيرورة المعرفة التاريخية...
إن تحديث المجتمع ككل هو الشرط الذي يضعه العروي لتجديد تاريخ المغرب، فذلك وحده قادر على أن يكون الأرضية المناسبة لمحاور التجديد والمتمثلة في:
- خلق ذهنية معاصر للمؤرخين المغاربة من خلال تعميم وتوسيع الدراسات المنهجية والإبستمولوجية، وذلك يتأتى بعصرنة المنظومة التربوية حتى تناط بمهمة تكوين المؤرخين لهم من الإمكانات النقدية والنظرية ما يخولهم التعاطي مع المادة التاريخية بمنهج معاصر.
- تأسيس مدرسة وطنية للحفريات تهم كل الفترات التاريخية، وهي فكرة ولا شك إنبثقت لدى العروي من تأثره بالحوليات في فرنسا والأنتربولوجيا في أمريكا، إذ يعتبر أن دراسة الحفريات هو الطريق الممهد للتوسيع من دائرة الوثيقة التاريخية، ومنه توسيع ميادين المعرفة التاريخية..
- الإهتمام بحقل اللسانيات لما لهذا الحقل من دقة في المنهج وإرتباط نتائجه بالعلوم الطبيعية، فمثلا دراسة اللهجات تمكن من فهم الرواية المكتوبة..
- وفي النهاية يضع العروي قضية تجديد التاريخ في قلب التقدم التقني، أي إعتماد التكنولوجيا والمعلومات الحديثة الموظفة في المناهج الغربية المعاصرة.
من هنا يترأى لنا المقصود بربط مشروع التجديد بتحديث وعصرنة المجتمع، وبالخصوص تحديث الدولة والمنظومة التربوية، وهذا ليس غريبا إذا ما علمنا أن العروي هو أحد الحداثيين الذين يدعون بوجه مكشوف إلى تبني الحداثة الغربية، وبعبارة أخرى فإن دعوة العروي إلى التجديد لا يمكن فهمها خارج مشروعه الأكبر الذي بدأ مع كتاب الإيديولوجا العربية المعاصرة.
هناك فكرة موجزة يفترض أنها تضمن معنى التجديد عند العروي وهي ”إنه تغيير لذهنية المؤرخ واستثمار تقنيات البحث المعاصرة بهدف إعادة تحقيب ماضي المغرب كما يقتضي تعدد التخصصات والمختصين..“[2] هكذا إذن يصور العروي تجديد تاريخ المغرب كسيرورة مرتبطة بتحديث المجتمع ككل، ولكن يعترف أن هذه الشروط لا يمكن تحقيقها في الظرفية الراهنة، ورغم هذا الإعتراف سيخوض العروي في كتابة تاريخ المغرب، وهو مدرك أن ذلك لا يعد تجديدا لأنه لن يتجاوز الإطارات النظرية لسابقيه، كالوثيقة المكتوبة، والحقبة، ومنهجية الكتابة التاريخية...
وهنا يقول: ”أخاف أن أخيب ظن القارئ إذا كان الكتاب الذي بين يديه يصحح أخطاء المستشرقين ويتعالى عن سفاسف المؤرخين القدامى ويتجاوز التخصص المفرط الذي يسقط فيه الدارسون الجامعيون إنني أبادر وأعلن أنني لم أكتبه لأستوفي كل هذه الشروط دون أن أتعرض بانتظام إلى منهجية الكتابة التاريخية“[1]
لماذا يغامر العروي، وهو مدرك أن ما كتب لا يرضي قارئ اليوم؟
يدعي أنه حقه في الكتابة والتأويل، ولتبرير ذلك يذهب إلى تقديم صورة نقدية لسيرورة التأليف التاريخي لتاريخ المغرب..
يقول: "إن إشكالية كتابة تاريخ المغرب لا تتعلق بسوء الحظ كما يقال، بل إنها قبل كل شيء ذي علاقة بنوع من (التطفل)، فسوء الحظ هو أن تاريخ المغرب كتبه هوات غير ذي إختصاص، أولئك المؤرخين بدون تكوين لغوي، واولئك الأركيولوجيين بلا تأهيل تاريخي.. وأجانب تدفعهم تخيلاتهم إلى أحكام خاطئة وإسقاطات بعيدة كل البعد عن الواقع. ومن ذلك حياة المسعودي وثورة الخوارج اللذان وضعا خارج سياقهما وإطارهما الزمني، وعندما نجد العروي يقول أن هناك ثلاث أقسام من المؤلفين، مجترين وزعماء سياسيين ومعلمين، فهو قبل كل شيء يسحب عنهم صفة المؤرخ، ولنتساءل ماهي تلك الصفة التي تجعل الباحث مؤرخا؟ إن الحدود التي يرسمها العروي بين المؤلف والمؤرخ هي نفسها تلك الحدود التي يرسمها بين التقليد والتجديد.
هناك إعتراف آخر لعبد الله العروي، إنه سيسلك الطريق نفسه الذي سلكه صاحب كتاب "انعتاق التاريخ" لمحمد الساحلي، الذي يرى أن تحرير التاريخ رهينا بالكشف عن الخلفيات الإيديولوجة والسياسية للمؤرخين الأجانب، وإن يعد العروي هذه الخطوة ضرورية فهو يرى أنها غير كافية، ذلك أن الكتابات الأجنبية مهما قيل عنها في الداخل فهي تبقى المنهل الأساسي المؤثر في الذهنية الأجنبية، باعتبارها مرجعا لمفكرين ومؤرخين أجانب، هذا التشكيل في الواقع ينقل الخلفيات الإستعمارية لا الواقع الإجتماعي والسياسي المغربي، ولعل السبب في ذلك كما يرجئه العروي إلى عزوف المغاربة عن الإنغماس في دراسة ماضيهم، ويتركونه تحت مسؤولية المؤرخين الأجانب، دون أن يتساءلوا عن الصورة التي يرسمها هؤلاء حول ماضيهم، ويرد ذلك إلى نوع من الكسل الفكري والإنبهار بالحاضر، غير مدركين أهمية دراسة الماضي في فهم الحاضر واستشراف المستقبل..
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نفهم لماذا يريد عبد الله العروي إعادة كتابة تاريخ المغرب، ذلك كما يقول لإعادة ربط المواطن المغربي المهتم بالمستقبل بمجموع ماضي المغرب، وهو سيحاول إذن القيام بهذه المهمة، وفق تصور وتأويل ذاتي هو أقرب إلى التأويل الهرمونيطيقي، وهو ما يعرف "بالتاريخانية"، والشرعية في ذلك عدم وجود معهد متعدد التخصصات أو بالأحرى عدم وجود شخصية مثل "فيرنان بروديل" من دعاة التاريخ الشامل، مما سيضع كل عمل فردي موضوع نقد صارم!!
هناك شيء أخر يريد العروي أن يحيلنا عليه وهو عمل ((أندريه جوليان)) الذي يعده الوحيد ممن استطاع أن يعطي نظرة شاملة عن تاريخ شمال إفريقيا، ورغم محاولاته الإصلاحية فالعروي يعتبر أن التاريخ يتلاعب بالمؤرخين، فعلى الرغم من كونه صحح المعلومات فيما يخص مسلمات منظري الإستعمار، إلا أنه ظل مخلصا لأحكامه، وذلك ما تعكسه طبعته سنة 1951 وهو إخلاص ذو خلفيات سياسية.
في خضم هذه الدعوة إلى التجديد، ينتقل العروي لطرح المغرب كمفهوم، إسترشادا بمنهجية الكتابة المعاصرة، فلتحديد هذا المفهوم يرى ضرورة تجاوز الإنحصار الضيق للمقدمات الجغرافية والإثنوغرافية، التي دأب المؤرخون المغاربة البدأ بها، لأنها تخفي في جوهرها فلسفة الإستعمار، فما هو المقصود بالمغرب؟ هل شمال إفريقيا أم الغرب العربي الإسلامي، أم أن المقصود هو المغرب المقسم إلى أدنى وأوسط وكذلك أقصى؟
إن الأول والثاني تحكمهم شروط جغرافية وإثنوغرافية، فشمال إفريقيا يحيل إلى الشمال الجغرافي للقارة الإفريقية، بينما الغرب العربي الإسلامي يوضع كمقابل للمركزية المشرقية سواء كانت في شبه الجزيرة العربية أو في بلاد الرافدين والشام.. لذلك يعتبر المفهوم الثالث أكثر دقة، الممتد من برقة إلى حدود السنغال، وهو ليس مطلقا وإنما يختلف تبعا لسيرورة التأليف التاريخي بالمنطقة، ولذلك يؤكد على ضرورة تتبع هذا المفهوم في الإسطوغرافية المغربية، ثم يعود العروي ليقول: إن هذه الإسطوغرافية ظلت في الواقع تعبر عن رؤية الأخر للمجال التاريخي المغربي، ففي البداية صاحبت الفتوحات واتجهت صوب الحواضر، أي المدن التي فتحها واستوطنها الفاتحون مثل "برقة، القيروان، وهران، فاس، وطنجة.."، ثم مع ظهور الممالك ستتوسع لتشمل بعض المناطق المحلية.. ومع مطلع القرن التاسع عشر ستتطابق مع المجال الجغرافي، هنا يميز العروي بين مفهومين مفهوم (الحَاضَرَّة) أي مركز التاريخ ومفهوم (الأَحوازْ) فترة ما قبل التاريخ، فهذا الفصل مرده بالأساس إلى أن الحضارة لم تنشأ في المغرب، وإنما إنتقلت إليه من الشرق الأوسط، وهذا الفصل في الواقع لا يتجاوز حدود الإصطلاح، إذ يؤكد العروي على ربط ماضي المغرب بماضي الشرق، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العروي يسعى إلى دحر بعض الطروحات التي تريد ربط ماضي المغرب بالغرب الأوروبي، فلا وجود حاليا لبحوث إثنوغرافية وأنتروبلوجية تحيلنا إلى إمكانية الفصل.
يطرح العروي إشكالية التحقيب في تاريخ المغرب، هذا التحقيب الذي ينبغي تغييره، والذي يختلف من تقليد أو تأليف إلى أخر، فالتحقيب الغربي الثلاثي (قديم، وسيط، حديث ومعاصر)، والتحقيب الذي يقسم التاريخ على أساس إثنوغرافي أو عرقي (تاريخ الأشخاص والأسر والحضارات..)، إن هذا النوع من التأريخ يخفي خلفه خطابا لاهوتيا أو بالأحرى صوفيا متمثل في (الجنة، الخطيئة والغفران) مما يقتضي على الباحث الابتعاد عنه، فالتحقيب في نظر العروي تحكمه شروط وأسس إقتصادية وإجتماعية وليس إسقاطات خارجية، لذا يعتبر أن نهج سيرورة التأليف التاريخي لترتيب الوقائع والبحث عن القطائع والإستمرارية، هو وحده الكفيل بتحريرنا من سطوة التحقيب الثلاثي، ليشرع بعد ذلك في كتابة كتابه المعنون "مجمل تاريخ المغرب".
من هذا المنطلق يمكن القول: إن العروي مدرك تماما لسبل تجديد تاريخ المغرب، كما هو مدرك لضرورة ذلك، إلا أنه يجعل إمكانية التجديد في حلبة أوسع ويرهنه بشروط سياسية وفكرية واقتصادية وكذا إجتماعية وتقنية معينة، ترتبط بالمسار السوسيوتاريخي للمجتمع ذاته، بمعنى التحديث، فتجديد التاريخ يقتضي مقدرة سياسية وعلمية، ليست ممكنة في شروط الحاضر، ويمكن الذهاب إلى القول: إن دعوة التجديد عند العروي تطابق مشروع تجديد التراث الثقافي ككل، وتجديد العقل العربي، إذ يلتقي العروي هنا مع آخرين مثل أرغون والجابري ومحمد زكي... ممن ينادي بالحداثة والتحديث إن من الداخل أو الخارج.
كما نخلص إلى القول أن دعوة التجديد عند العروي ومبادرته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من منظور تاريخاني، راجع بالأساس إلى تأثره بالتجريبتين الخلدونية في الحضارة والميكافيلية في السياسة، خاصة إذا علمنا أنه ذهب إلى حد المقارنة بينهما، فالعروي لا يخفي تأثره العميق بفكر إبن خلدون وتجذره فيه، كما أن دعوته المستمرة إلى الحداثة والتحديث يعبر عن تأثره بمنتجات الحضارة الغربية المعاصرة المتميزة والغزيرة، دون أن ينخدع للخفايا السياسية التي تحركها..
يبقى علينا أن نصدر حكما في حق العروي هل يمكن اعتباره مجددا؟ في الدعوة هو كذلك، أما في الكتابة فهو تقليد أخر ينضاف إلى النمط المغربي الحالي، فكتابه مجمل تاريخ المغرب لا يحمل أي علامات على التجديد كل ما هناك تأويلات يحاول من خلالها الكاتب الإمساك بسيرورة تاريخ المغرب معيدا إستخدام نفس المضمون، فهل ياترى يجد القارئ اليوم نفسه راضيا على تأليف العروي؟ أم أنه يعده كسابقيه؟
لعله إذن تجديد مؤجل.

المراجع المعتمدة
[1] عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب الجزء الاول، المركز الثقافي العربي بيروت الطبعة الخامسة (1996) ص 11
[2] نفس المرجع ص 24








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك