الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللعب هو شغل الطفل

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 10 / 3
التربية والتعليم والبحث العلمي


اللعب يمثل أفضل تعبير للنمو البشري في مرحلة الطفولة، لأن اللعب وحده يمثّل التعبير الحرّ لما في روح الطفل. قول من فريدريش فروبل
لا يمكن للتعليم الحقيقي أن يحصل بالإجبار أبدا – فالطفل نفسه ينبغي أن يريد أن يتعلم. وغالبا ما تكون هذه الرغبة في التعلم مُقفل عليها في أعماق الطفل، لذلك فإنّ مهمة المعلمين أن يكتشفوها ويشجعوها. إلا أن المشكلة على أرض الواقع هي أن التعليم عمره ما كان صعبا مثل ما هو عليه الآن في هذه الأيام.
لأن العديد من الأطفال يقضون ساعات طوال في كل يوم مع القائمين على رعايتهم أكثر مما يقضون مع أهاليهم. وكثيرا ما يأتون من عائلات مفككة إلى صفوف تعاني من نقص في المعلمين ونقص في التمويل. ويدخل هؤلاء الأطفال في أغلب الأحيان إلى صفوفهم وهم متمردون وعليهم من ناحية أخرى مراقبة شديدة، فيحاولون تجاهل المعلمين خوفا من أن تخذلهم شخصية أخرى ذات سلطة تربوية.
ومع ذلك، فإنّ دور المعلمين الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى، وأهم جزء من العمل هو ليس التعليم الدراسي. فينبغي أن ندع الأطفال أن يكونوا أطفالا لأطول مدة ممكنة. فهم بحاجة إلى وقت حرّ ومجال غير مقيّد للتعبير بحرية عما يريدون. وهم بحاجة إلى أن يلعبوا. فالأطفال ليسوا بحاسبات إلكترونية أو روبوتات يمكن برمجتها وفقا لرغباتنا؛ فلديهم قلب وروح، وليس دماغ فقط.
إنّ فريدريش فروبل الذي أسس مفهوم رياض الأطفال، كان تربويا ألمانيّا من القرن التاسع عشر، الذي كان لديه أعظم موهبة ألا وهي قدرته على معرفة ما هو العالم في نظر الطفل. ولهذا السبب فإنّ فلسفته التربوية فيها منطق سليم لكل من يحب الأطفال حتى بعد مئتي عام تقريبا. وعندما صاغ اسم «روضة الأطفال،» فإنه كان يقصد فعلا ما تعنيه الكلمة، حيث تجري تنمية كل طفل بالمحبة والرعاية نفسهما اللتين تُقدمان للشتلات النباتية. وكان يعلم أن البشر هم أساسا كائنات مبدعة وشفوقة، فلابد أن يشمل التعليم تنمية هذه الخصال.
وكثيرا ما كان فروبل يتحدث عن أهمية اللعب للأطفال قائلا: «إنّ الطفل الذي يلعب بعزم وبمثابرة، وإلى حدّ الإنهاك، يصبح شخصا قوي العزيمة عندما يكبر، وقادرا على التضحية في سبيل خيره وخير الآخرين على حد سواء.»
كان فروبل يعترض على كل نظام يقوم بتضخيم المعرفة على حساب الطفل، وكانت حياته كلها احتجاجا على أساليب «قولبة وسبك» الأطفال التي يستعملها المعلمون الذين يفشلون في التعرف على قدسية الفردية عند الطفل. وما كان يثمنه هو ليس الطاقة بل الطاقة الإبداعية. فكان يهدف إلى تطوير وتحسين تلاميذه بدلا من جعلهم مجرد «آلات» ولجعلهم، بحسب ما أتقن قوله، «أشخاص أحرار لهم تفكيرهم الخاص وقادرين على الاعتماد على الذات.»
إنّ بعضا من أعظم التربويين في أمريكا ممن له رؤى تربوية متميزة درس فلسفة فروبل وبنى عليها. فلعبت على سبيل المثال التربوية إليزابيث بيبودي دورا أساسيا في تأسيس رياض الأطفال في جميع أنحاء أمريكا. وابتكرت كارولين برات فكرة القطع الخشبية (التي يصففها الأطفال لبناء أشياء متنوعة) في عام 1913م، ثم إنها أسست في السنة التي تلتها مدرسة نموذجية تتألف من روضة ومدرسة ابتدائية كما أسست التربوية لوسي سبراغ ميتشل مجمع تربوي مع التركيز على تعليم الطفل في سنواته الأولى. فصارت هؤلاء النساء رائدات في نهج التعليم من خلال اللعب، وعبّدْنَ الطريق للآخرين ليقتدوا بهن، وما تزال مدارسهن قائمة كمنارات لتعليم «كامل الطفل» ومشددة على الفعاليات البدنية والتعبير الإبداعي.
ونجد اليوم الكثير من التربويين المدافعين عن أهمية اللعب والاستكشاف منتشرين في كل مكان. وفي الحقيقة، يعرف جميع المعلمين الجيدين أن اللعب في حد ذاته لا يمكن الاستغناء عنه في حياة الطفل. فهو ليس لأنه أفضل طريقة لتعليم الصغار
فحسب، بل أيضا ضروري لنمو روحية الطفل وكيانه كله. وبالحقيقة، ينبغي أن لا يحتاج اللعب إلى الكثير من التفسيرات الدفاعية، لأنه هو بحد ذاته يعرّف الطفولة.
غير أن إدوارد ميلر وجوان آلمون من المؤسسة التربوية يذكران تقريرا في كتابهما مفاده أن اللعب مستمر في الاضمحلال من حياة الأطفال الصغار في زماننا المعاصر. ويدعمان بياناتهما بالبحوث الدراسية والشواهد الدامغة، ويلخصان النتائج التي توصلا إليها كما يلي:
لقد تغيّرت رياض الأطفال في العقدين الماضيين تغيّرا جذريا بطرق لم يفطن بها سوى قلة من الأمريكيين. فيقضي الأطفال الآن أوقاتا طويلة جدا في تلقي التعليم وفي خوض امتحانات في القراءة والكتابة ومهارات الرياضيات أكثر من أسلوب تعليمهم من خلال اللعب والاستكشاف وتمرين أبدانهم على الحركة والعمل واستخدام مخيلتهم. وتستخدم العديد من رياض الأطفال مناهج دراسية مبرمجة ومحددة بكثير من التفاصيل ومتزمتة للغاية لكي تتماشى مع المعايير الجديدة للدولة وربطها بامتحانات موحدة. وصار من المفروض على المعلمين في عدد متزايد من رياض الأطفال الالتزام بالمنهاج الدراسي المحدد الذي لا يجوز لهم أن يحيدوا عنه. لذلك، فإنّ مثل هذه الممارسات غير المؤسسة على البحوث، تنتهك المبادئ العريقة لتنمية الطفل والتعليم السليم. ويزداد الأمر وضوحا بأنهم يسيئون إلى كل من صحة الأطفال وفرص نجاحهم في المدرسة على المدى البعيد.
إنّ بعض التغييرات السيئة جدا التي طرأت على نهج التربية جاءت من البرامج الدراسية التي تقررها الحكومة التي تسلب الأطفال فرصتهم للتعلم من خلال اللعب وتزيد أعباء المعلمين بشكل غير مسبوق من خلال التضييق والتشديد عليهم بضغوط وأيضا بتفاقم كتابة تقارير البيانات. وفيما أراقب هذا التوجه وهو يزداد في النمو في كل عام، فأنا أتفق تماما مع الملاحظة التي جاء بها عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين عندما قال: «إنها معجزة حقا عندما ينجو حب الاستطلاع عند الأطفال ويبقى حيّا بالرغم من ضغوط وتقييد نهج التعليم الرسمي.»
وغالبا ما تبدو الدوافع وراء توحيد الأنظمة التعليمية صحيحة في ظاهرها. ويقول السياسيون أنهم يريدون «إصلاح» نظامنا التعليمي المعطوب لكي يتمكن أطفالنا من المنافسة على الساحة العالمية. ويتحدثون عن العودة إلى الأساسيات، وإتقان الأساسيات الثلاثة للتعليم الابتدائي: القراءة والكتابة والحساب، وتوثيق نتائج المتغيّرات. والكثير من هذه المقررات الحكومية تأتي كنتيجة مباشرة لدعوة أولياء الأمور والناخبين إلى التغيير والإصلاح.
إلا أننا ينبغي أن ننظر بإمعان في نوع التغيير الذي يحتاجه الأطفال نفسهم. فالبرامج الصادرة عن المؤسسات السياسية البعيدة تأتي بشروط وتقييدات ثقيلة. فالأعمال الورقية الإضافية تبعد المعلمين عن الأطفال الذين يحتاجون إلى رعايتهم. والأطفال مشوشون فكريا بسبب شتى أنواع الفحوص وجلسات التشخيص لتقييم مؤهلاتهم في سن ينبغي أن يقضوه في اللعب. وعلى ما يبدو، فإنّ صُنّاع القرار يتجاهلون حكمة المعلمين الذين بإمكانهم أن يخبروهم عن الكيفية التي يتعلم بها الأطفال.
ففي هذا العصر المزعج المليء بإجراءات الفحوص وجمع البيانات عن الأطفال في المدارس العامة، بدأت أرى مهنتي تتحول إلى وظيفة لا تتوافق مع مفهومي للأسلوب الذي يتعلم به الأطفال ومع ما يجب على المعلم القيام به في الفصول الدراسية لخلق بيئة تنموية ملائمة وسليمة وآمنة لكي يتمكن فيها كل طفل من أطفالنا أن يتعلم.

لقد شهدتُ على مدى السنوات القليلة الماضية المقررات التربوية نفسها التي شهدها جميع المعلمين في قاطع المديرية المدرسية التابعة لنا. فكنت ألاحظ كيف صارت متطلبات وظيفتي تبتعد تدريجيا عن التركيز على الأطفال، وأساليب التعلّم الفردية، واحتياجاتهم النفسية، وأسرة كل واحد منهم، واهتماماتهم، وقدراتهم، وتتجه نحو التركيز على إجراء الفحوص وإملاء استمارات التقييم، وإعطاء درجات، وبالتالي
الإكثار من المطالب الدراسية ومن الضغوط عليهم. وصار يُطلب مني في كل عام قضاء المزيد من الوقت لحضور الدروس والندوات للتعرف على مطالب دراسية جديدة التي لا تناسب في الحقيقة الروضة والتمهيدي بل الصف الأول والثاني.

كما اضطررت إلى تحديد مواعيد جديدة لحضور المزيد والمزيد من الاجتماعات بشأن تزايد ظاهرة السلوك المتطرف والمعاناة النفسية للأطفال في صفي؛ أما أنا فأعرف تفسير تلك التصرفات وكأنها تصرخ إلى الكبار في عالمهم الخاص وتقول: «لا أستطيع فعل هذا! اُنظر إليّ! تعرّف عليّ! ساعدني! انتبه إليّ!» وغيرتُ أسلوب ممارستي للوظيفة على مدار السنين لأتيح لنفسي الوقت الضروري والتركيز على جميع المتطلبات التي تأتينا من فوق. على أن هناك المزيد في كل سنة. وعلى مدار السنين، لم يعد لديّ وقت كافٍ لتعليم الأطفال الذين أحبهم بالأسلوب الأفضل الذي أراه أنا – وإنما وجب علينا العمل بما ينصح به خبراء تنمية الطفل. ووصلت
هناك الكثير من المعلمين ممن يحسّون بالشيء نفسه. إلا أن السياسة الحكومية للتربية والتعليم تسير بعكسهم، ويشعرون بأنهم مضطرون إلى ترك مجال عملهم. فالتعليم يحتاج إلى محبة كبيرة، وإلى حكمة، وإلى صبر. كما أنه يحتاج إلى وقت لاكتشاف أفضل ما في كل طفل، ومن ثم التركيز على هذا الجانب وتنميته. فماذا يحدث عندما تجري سرقة هذا الوقت الثمين من المعلمين؟ ومتى سيحصلون على الفرصة اللازمة لبناء علاقة مع كل طفل بأسلوب التفاعل البسيط واللعب، اللذين تحصل فيها أفضل لحظات التعليم بالحقيقة؟
إنّ اللعب الحرّ غير المُقيَّد الذي يرمي إلى مصلحة الطفل له فوائد جمّة للصغار، وهذه الفوائد لا يمكن قياسها أو تدقيقها ببرنامج كومبيوتر إلكتروني، لأن قابليتنا نحن البشر في التفكير الإبداعي واستنباط الحلول للمشاكل التي نصادفها تأتي بفضل استعمالنا للنظام الذهني الذاتي في استكشاف الدنيا من حوالينا. فما أحوجنا في عالمنا المعاصر الذي تجتاحه التغيرات السريعة إلى تثمين التفكير الإبداعي الذي له قابلية ابتكار الحلول! فلا توجد أجوبة في الكتب المدرسية عن كيفية تدبير المواقف عند حصول أحداث أو تغييرات مفاجئة وغير متوقعة، لذلك ترانا نُسيء إلى أولادنا عندما نجعلهم معاقين وعاجزين وذلك بسرقة قابليتهم في استخدام اللعب كأداة للتعليم، وللاستطلاع، ولطرح الأسئلة والاستفسارات، ولحل المشاكل بدون مساعدة الكبار. فالأطفال متحمسون لأن يتعلموا من تجاربهم، بشرط أن تثير تلك التجارب اهتماماتهم وأن يشتركوا فيها فعليا.
نّ هؤلاء الأطفال لديهم عطية عظيمة. فلم يعودوا يخافون من السن والإعاقة، وهم يتلقون بقدر ما يعطون من خلال هذه التفاعلات والاحتكاك بين الأجيال – وهم يساهمون، دون أن يعرفوا ذلك، في إصلاح النسيج الاجتماعي الممزق. فالأطفال كانوا لآلاف السنين يجلسون عند أقدام شيوخ القرية ليتعلموا عن الحياة. ثم يركضون فجأة إلى الخارج ليلعبوا مع كل ما يصادفهم ويشبع اهتمامهم. وهذا أيضا هو تعلّم.

في فنلندا وفي العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، لا يبدأ الأطفال بالتعليم الدراسي النظري إلا عند سن السابعة. وبالمقارنة مع الدول المتقدمة، فإنّ هؤلاء الطلاب يقضون أقل عدد من ساعات الدراسة في غرف الصفوف، إلا أنهم من ناحية أخرى، وفي نهاية سنوات الدراسة العامة، يحتلون باستمرار القمة في الترتيب العالمي للتعليم. لأن مفهوم التعليم في هذه البلدان الأوروبية ببساطة هو أن الأطفال يتعلمون بشكل أفضل عندما يلعبون لغاية سن السابعة؛ فعندما يأتون أخيرا إلى المدرسة في سن السابعة، نراهم متحمسين جدا للتعلّم في بيئة أكثر رسمية. وهناك أيضا قدر أكبر من الاحترام الشعبي في الدول الأوروبية للمعلمين بالمقارنة مع الولايات المتحدة، والشيء ذاته بالنسبة إلى الرواتب.
إنّ كل طفل مختلف عن الآخر. ولدى كل واحد منهم مجموعة فريدة من القابليات، ومخلوقة لهدف معين. فلماذا يُفرض عليهم تطبيق مستوى تعليمي موحَّد؟ ونحن نعلم بأن أفضل طريقة لتعليم الأطفال هي من خلال اللعب، وعلاوة على ذلك فإنّ اللعب يخلق أيضا الفرح، والاطمئنان النفسي، وتصفية البال من متاعب اليوم. لذلك، يجب أن يكون لكل طفل الحقّ في اللعب، حتى لو كانت ثقافتنا المعاصرة قد عبّأت جدول حياتنا تعبئة كثيفة زيادة عن اللزوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال