الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراقيون بين واقع البطالة وحلم التعيين!

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2019 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية



"نريد الماء والكهرباء والتعيين"، بهذه الكلمات لخصت إحدى المتظاهرات العراقيات في تقرير تلفزيوني مطالب الحركة الاحتجاجية التي اندلعت مؤخرا في العراق وبدت وكأنها تنتشر كالنار في الهشيم. وهي مطالب تعجيزية بمعنى الكلمة الأمر الذي يوضح بجلاء المأزق الذي يمكن للحركة الاحتجاجية أن تقود العراق إليه.
يصعب تصور خروج الناس إلى الشوارع في الصين أو ألمانيا أو فيتنام أو الهند لمطالبة الدولة أن تقدم لهم بالمجان خدمات باهظة التكاليف كالماء والكهرباء أو أن توفر لهم وظائف برواتب مجزية في القطاع العام. لكن ذلك يعتبر قضية بديهية في دولة ريعية كالعراق حيث ينظر الجميع إلى الدولة كأم رحيمة أو بقرة حلوب يتنافس الجميع على تجفيف ضرعها.
من المؤكد أن تردي الخدمات وتفشي الفساد واستئثار فئة معينة بالجزء الأكبر من المال العام يشكل أرضية خصبة لتفاقم الاحتجاجات وتعميق أزمة النظام السياسي القائم على المحاصصة والتفاهمات غير المبدئية لتوزيع الثورة الوطنية. بيد أن الحل لن يكمن في شعارات تؤدي عمليا إلى مزيد من تبديد المال العام وتعميم الفساد ومنح الجميع حصة مناسبة فيه.
انطلقت موجة الاحتجاجات الأخيرة في البداية كحركة محدودة لما يدعى بحملة الشهادات العليا الذين حاولوا التظاهر في المنطقة الخضراء لمطالبة حكومة عادل عبد المهدي بتوفير وظائف لهم في مؤسسات الدولة وكأن ذلك حق دستوري لا نقاش فيه. غير أن فشل أجهزة الدولة في التعامل مع حق العراقيين في التجمع والتظاهر السلمي ولجوء قوات الأمن للعنف المفرط أدى إلى اتساع رقعة الاحتجاجات وإلى عنف مضاد وحرق لمبان حكومية ورفع شعارات سياسية جديدة كتجميد عمل مجالس المحافظات. كما دخلت أزمة الخليج على الخط حيث تحاول بشكل خاص وسائل الإعلام الممولة من السعودية التركيز على طابعها المناهض لإيران وتدخلها في العراق.
رغم خلط الأوراق وضبابية الصورة عن الدوافع والأسباب إلا أنه من الواضح أن العامل الرئيسي وراء موجة الغضب الجديدة هو شعور بالغبن لدى عدد كبير من العراقيين، وخاصة خريجي الجامعات، وعجز الدولة عن استيعابهم وتوفير فرص العمل التي يرونها حقا لهم.
يقوم هذا الشعور بالإجحاف والتمييز على حقيقة لا جدال فيها مفادها أن هناك فئة من الشعب العراقي، والتي تتمثل في طبقة موظفي الدولة، تلتهم الجزء الأكبر من الموارد النفطية دون وجه حق ضمن ظاهرة تفاقمت كثير بعد 2003. قبل سقوط نظام صدام حسين تراجع عدد الموظفين الحكوميين نتيجة لتدني الدخل وتضاؤل الرواتب إلى مستويات غير مسبوقة. غير أن الوضع تغيّر تماما بعد 2003 مع القرارات المتتالية لرفع الرواتب ما دفع الكثيرين للعودة إلى وظائفهم. في نفس الوقت ساهم ارتفاع أسعار النفط وعوائده حكومة نوري المالكي على فتح باب التوظيف الحكومي على مصراعيه في محاولة لتخفيف الاحتقان الطائفي والاجتماعي ولتحسين فرص فوزه في الانتخابات. وكالعادة كانت الوظائف المغرية والدرجات الخاصة من حصة ذوي القربى والأنصار والمدللين في صفوف الأحزاب المتنفذة. ومن دون شك أجج ذلك مشاعر المنافسة والحسد، لا سيما وأن الكثيرين من أصحاب المناصب لا يملكون من المؤهلات سوى مبدأ "الأقربون أولى بالمعروف".
نتيجة لسياسة التوظيف غير المدروسة وتوزيع الامتيازات بلا حساب ومحاولة تخفيف مشكلة البطالة بطرق غير فعالة أصبح العراق يحتل مراتب متقدمة في مجال عدد الموظفين الحكوميين الذين تحولوا إلى جيش يضم الملايين. لا أحد يعرف بالضبط عدد العاملين في القطاع العام، وهل هم أربعة ملايين أو خمسة أو أكثر. لكن هناك حقيقتان لا جدال فيهما. أولا: الجزء الأكبر من هذه العمالة هي في حقيقة الأمر عمالة فائضة تندرج تحت مفهوم البطالة المقنعة. في نفس الوقت يزيد مستوى الأجور في القطاع العام بشكل كبير عن مثيله في القطاع الخاص. ومن البديهي أن يزيد مبدأ "الدخل العالي والجهد القليل" من إغراء الوظيفة الحكومية، أو كما يقول المصريون "إن فاتك الميري، اتمرغ في ترابه". من هنا يمكن فهم مطالب ما يدعى بأصحاب الشهادات العليا والشعارات المتكررة بـ"فتح باب التعيين" والتي كثيرا ما يرددها المحتجون الشباب منذ سنوات.
غير أن هذه السياسة مسؤولة أيضا عن أهم مشاكل وتناقضات التنمية البشرية العراق بحسب تقرير الأمم المتحدة الجديد عن التنمية البشرية العربية. فهذا الجيش الكبير من الموظفين الحكوميين الحاليين والمتقاعدين يلتهم حصة الأسد من النفقات الجارية في ميزانية الدولية. وبالطبع فإن ذلك يأتي على حساب الاستثمارات وبالتالي على إمكانية خلق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص. في نفس الوقت يؤدي فارق الدخل غير المبرر بين القطاعين العام والخاص إلى تعطيل القدرات المهنية لدى خريجي الجامعات وأصحاب الكفاءات وتحجيم المبادرات الخاصة.
لا يمكن حل مشكلة البطالة في العراق عبر أمر رئيس الورزاء عادل عبد المهدي باستيعاب حملة "الشهادات العليا" وإضافة آلاف جديدة إلى جيش الموظفين بدون عمل. الأحرى بالاقتصادي عبد المهدي أن يبدأ بحلول طويلة الأمد تقوم على تشجيع الاستثمارات ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وربط النظام التعليمي بمتطلبات التنمية والحد من ظاهرة تخريج مئات الآلاف من أصحاب الشهادات الذين لا يحتاجهم أحد.
لكن هذا الحل الطويل الأمد يتطلب أيضا تغيير رؤية المجتمع إلى الدولة. حتى الآن اعتاد العراقيون أن يمدوا أيديهم مطالبين الدولة بتوزيع الصدقات بلا مقابل، ومنها الخدمات المجانية والوظائف المجزية. ويبدو أن ذلك يأتي امتدادا لمفهوم "الراعي" و"الرعية" في الدولة الإسلامية. وهم مفهوم بال لا يتفق مع دولة المواطنة الحديثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس