الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مريم والسراب

إبراهيم رمزي

2019 / 10 / 5
الادب والفن


مريم والسراب


1
كان واقفا في قفص الاتهام، وقربه محامون ـ انتدبهم تنظيمه النقابي ـ لمؤازرته، .. وكان الشرود والذهول يرحلان به بعيدا عن فضاء المحاكمة .. وكان لا بد من الصبر والإعادة وتنبيهه، حتى يجيب عن الأسئلة التي تلقى عليه .. هل كان يتمنى طول فترة المحاكمة أم انتهاءها على عجل؟؟ الوجع واحد، سواء فيه وجع الماضي أو الحاضر، .. رغم أنهم يقولون: لا شيء يولد كبيرا ثم يصغر إلا الحزن .. لم تكن عيناه الكليلتان تتحولان عن عضو من هيئة الحكم .. لم يخامره إلا سؤال واحد كان يتمنى أن يطرحه على القاضية المتربعة على المنصة أمامه: من تكون مريم بالنسبة لك؟ شعرك المعقود كـ "ذيل حصان"، وانسداله شلالا خلف ظهرك .. وجهك الأبيض المستدير .. عيناك النجلاوان الثاقبتان .. أنفك الشامخ .. شفتاك المكتنزتان .. أسنانك اللؤلئية .. هل أنتِ ابنتها؟ أم نسخة منها؟ يا لرحلة الذكريات التي تغطي انفعالاتها على الحاضر .. وعلى أجنحة الحنين تسافر إلى ذاك الماضي الذي كان "رائعا .. قاسيا .. موجعا .." بحسب فترته ومقاييس ملابساته .. تعسا لزمان لعبنا فيه بمرح وعنفوان، وها هو يلعب بنا في عناد ومرارة. ألا فاثأرْ ـ يا زمان ـ من جسد قرّبته العلل من الحطام والوهن. فلا شيء آلمُ من نكء جراح من يتقهقر منهزما ويغادر "الميدان"، ساحبا وراءه مرارة الانسحاق والرضوخ، تتلاشى كينونته وتنمحق رويدا رويدا، في عجز مذِلّ، وهوان لا وصف له.
2
صارت مريم شابة تخطر زاهية في مراهقتها، وتعلن أنوثتُها بإقبالها على عتبة النضج والتفتح، وعندما تركب دراجتها (السوليكس) يبدو وضع ساقيها أخاذا، أما كفلها فيفيض على جوانب السرج فاتنا مثيرا. وهو لم يكن يتجاوز النظر واختزان الصور ليستنجد بها حين تفريغ "احتقان وسطه".
كان يعيش في سذاجته. وحتى سنه لم تمنحه جرأة البحث عن طريق التسلل إلى البيوت السرية. أما اللذة "المحرمة" فما خاض تجربتها بعد. كانت الاستيهامات تتولد ـ أساسا ـ من قراءة القصص والروايات، فهي رافده الذهني في تكييف خياله وإغنائه بالصور اللذيذة. وحتى عندما سألته زينب وهي متمددة إلى جانبه: كيف نوم العريس والعروسة؟ اعتصم بالصمت وانعدام التجربة، وأغرقها في قبلة طويلة لم تترك لها فرصة للمزيد من الكلام.
لم يعرف من السينما إلا إعلاناتها التي لا تخلو صورها من جزئيات مثيرة. ولا يعرف من التلفزيون ـ الذي يحبو في بداياته ـ، إلا سهرة نهاية الأسبوع بالقناة الوحيدة. وحين يظفر أحد الأقران بنسخة من مجلة للعري، يسارع الجميع لاسترضائه كي يُقرِّب دورَه في ترتيب التداول السري. لحظات من "التحديق المشوب بالتخيل" أو لنقل: "التأمل بانبهار وخشوع" في صفحات باردة، ترفد استلهامك التصوفي بمشاهدها "الحارقة". وتلطخ طهارتك وعفتك بشوائب لا تخلف أثرا.
وتبَالهَ مرة ـ ليوهم أن الصدفة هي التي أوجدته بذاك الموقع المقابل لباب السيارة الذي تنزل مريم منه ـ، وهناك رأى انفرَاجَ رجليها وباطن فخذيها، واستحوذ عليه المنظر وأذهله. وحدست مريم الصعقة التي أصابته، فابتسمت بمكر. مكرٌ لم يبدد النشوة التي استولت على كيانه، ولا محا تلبّسَه باقتراف "الجرم".
3
وفي إحدى المرات اطلعتْ مريم على رسالة تخصه، كتبها أخ له. وكان ـ في جزء من الرسالة ـ حديث عن حبيبة طفولته: زينب، ورمز لاسمها بالحروف الأول والأخير من اسمها، بينهما نقطة. وأعلن غضبه من تطاولها على مكتوب لا يخصها، وانتهاك سرية مراسلة لا علاقة لها بها. تركته لغضبه، وأحجمت عن إطفاء ثورته. وأسلمته للأيام تداوي ما اقترفت يداها. وضحكت من أعماق قلبها ـ حتى أخجلته ـ من رمز اسم الحبيبة كما ورد في الرسالة.
فيما بعد، سألته أن يحدثها عن حبيبته. أبان لها أنه ـ فيما يبدو ـ حب من طرف واحد. فلا تواصل بينه وبينها. ولا يراها إلا بعد مرور شهور وشهور. لم يحدثها عن عمته التي أمّل وساطتها لدى والده، لخطبتها له. فأجابته عمتُه بلهجة صادمة مبنىً ومعنىً: ما وجدت "نسبا" يلائمك إلا أسرة القحاب. ولم يشك أن "الموضوع" بلغ إلى والده، فقد كانت نظراته تنطق بالعطف. لحدسه بأن تخطي اللحظة مرهون بتعاقب الأيام. وسيصبح كل ذلك أشبه بحلم ارتبط بعبث المراهقة.
وجاءته الأخبار بزواج حبيبته، فهام على وجهه لاعنا ساخطا. ثم استسلم "لواقعه المر"، يكابد عناءه، ويشارك شقاءه مع أخيه الذي يرثي لمصيره، ويخفف عنه في رسائله إليه. أتعبه السير فالتمس مستراحا في المحطة، حيث القطار كتلة حديدية باردة مجردة من العواطف، رغم أنه يوزع الأحاسيس. يشحن على متنه الأشواق والفرح والأسى .. ثم يفرق ذلك على المحطات .. في الباحة يقتعد كرسيا، ثم يتابع حركات المسافرين الذاهبين والقادمين. وانفعالات من جاؤوا للاستقبال أو للوداع. ابتسامات .. ترحيب .. أحضان .. حضور .. غياب .. دموع .. آهات .. قهقهات .. صمت .. ضجيج .. لقاء .. فراق .. ألا تشبه الحياة ـ على الأرض ـ لحظات العبور بالمحطة؟ وعندما يشتد حنينه إلى حبيبته كان يود ـ بكل ما أوتي من بلاهة تفرزها تخيّلات الأطفال ـ لو يتمكن الإنسان من الانتقال من مكانه إلى آخر ـ حيث يوجد من يرغب في لقائه ـ بمجرد التفكير في الانتقال إلى ذاك المكان.
4
لم تكن مريم شغله الشاغل، ولا همه الأول. يتصور جسدها بفتنته المضطرمة، كالحلم الذي يرجو ألا يتحول ـ عند أدنى خطأ ـ إلى كابوس مدمر. فهو اللاجيء في بيتهم، يبدو أمامها "كفزاعة في حقل"، وهي ولي نعمته. يحاول أن يقدم أي خدمة يمكن أن ترضي أصحاب البيت في مقابل هذا اللجوء الاضطراري. أما الأوامر فينفذها بدون نقاش، حتى ولو اصطبغت بإهانة له.
استخدمته "دِرعا" تملي عليه ـ بدعوى خطه الجميل ـ رسائلها عن أخبار العائلة والطقس والحوادث الصغيرة .. إلى "عشيقها"، وحين يعود الجواب، يؤديه لها، غير دارٍ ولا سائلٍ عن مضمونه. والظاهر أن هذه "العلاقة" ماتت في المهد، فلم يكتب لها الاستمرار. كان مضطرا أن يقبل هذا الدور على مضض. ويخففُ من غضاضته أنّ مراسلها يعتبر عضوا من الامتداد العائلي.
تنقّلتْ به الذكريات بين الماضي والحاضر، وعاش بعض الوقت بين الوهم والخيال، والحقيقة والواقع. تذكر بعض المرات التي عاملته فيها بتعالٍ واحتقار. وفكر في إذلالها، ثم ـ رغم غضبه ـ تراجع عن تذكيرها بعارض من الطفولة حينما كانوا يدرجون ـ جماعة ـ عائدين من مدرستهم الابتدائية، وباغتها احتقان مثانتها في الطريق، فتبولت على نفسها واقفة، ووجدت فيه نصيرا يرد الآخرين عن السخرية منها.
ولم يطل الاهتمام بالحادث إلا قليلا، إذ تزامن وقوعه مع حادث عرضي آخر غطى عليه، وتمثّل في اقتحام ـ واحدٍ من "المجموعة" ـ جنينةً، تخطى زرْبَها الشوكي، ثم التفت إلى الآخرين يدعوهم للالتحاق به، مدعيا أنها ملك لوالده. وانبعث صوت صاحب الجنينة من إحدى الجوانب مزمجرا متوعدا. وكان أعرج ـ فاقدا لرجْلٍ ـ يتكيء على عكازه الممتد من إبطه إلى الأرض. فكان هروبهم الجماعي، وهم يضحكون من تأخره في القبض على مقتحم الجنينة، بينما كانوا يرددون مقولته وسبابه بأسلوب ساخر. أما المقتحِم فردّد بأن المفاجأة أبطلت كل شقاوته، وشلّت وعيه، وما درى كيف هرب، ولا كيف "لم يفْعلْها في سراويله".
5
عدد من زملائه في الدراسة الثانوية كانوا ينعمون في البحبوحة ومظاهر الغنى. ولعل "صالح" خير مثال على ذلك .. كان طويلا، فاحم البشرة، أسنانه نافرة إلى الأمام .. فمه عريض وواسع .. يركب دراجة نارية من آخر طراز .. ويلبس من الملابس أغلاها .. ويزين عنقه بسلسلة ذهبية غليظة .. ويتختم بخواتيم تبدو ذات قيمة .. تتغير ـ في كل مرة ـ. كان يعتبر نفسه أفضل من الجميع .. ولكن الكثيرين كانوا أفضل منه، لأنه متخلف دراسيا .. ولا يستطيع مسايرة الركب .. ولم يكن يفلح إلا في تمارين الألعاب الرياضية ..
أما هو فكان بسيطا في ملبسه .. مما يدل على مستواه المادي المتواضع .. ولم يكن ذلك يهمه .. فالتفوق الدراسي هو الذي يشغله .. وبسببه كان تقرّب بعض الزملاء منه للتعاون معهم .. فكان يتمتع بصداقة الكثير من زميلات وزملاء الصف .. فهو مرجع في الدراسة بالنسبة للبعض .. وموضوع للسخرية والتندر بالنسبة لآخرين .. كان اجتماعيا في علاقته بهم .. إلا ما ندر.
واستغرقته الدراسة، و"مغامرة عاطفية عابرة" مع زميلة في قسمه الدراسي، كان وجهها الأبيض الأبرش منقوطا بالنمش المحبب البديع، وشفتاها رقيقتان قرمزيتان مغريتان، ما ظفر منهما بقبلة واحدة، ولكنه في كل أسبوع ـ وأثناء إحدى الحصص الدراسية ـ كانت يده تقتحم فخذيها لمسا وقرصا، إذ كانت تتعمد ألا تحضر كتاب المقرر الضخم الحجم، وتطلب منه أن تشاركه كتابه، فيجلس معها في طاولتها ـ الفردية ـ مما يجعلهما "ملتصقين". حتى "تطوّع" أحد الزملاء بـ"فك ارتباطهما" حين افتعل موقفا حاسدا أغضب الجميع، فيه "انتقام" من كل الإناث لإهمالهن له، وتجنبه بسبب عنجهيته. ومنذ ذلك الحين تجاهلته كأنهما "ما كانا .."، غير أنه لا ينسى شهقتها، وصرخةً أطلقتها حينما رأته بصحبة "آنّا ماريا" الإيطالية ـ خلال تجمّع طلابي ضم جنسيات متعددة ـ، مما غذى غروره ونفخ في تعاظمه وخيلائه.
6
كنت ـ وأحد الزملاء ـ في يوم رمضاني نتسكع في ذاك الحي الذي اقتنعت فيما بعد أنه "مزدوج الوجه". حي يحمل في ثناياه تناقضاته، شارعه الرئيس نموذج لكل مظاهر المعاصرة: عمارات، متاجر، حانات، مقاهٍ، معارض، مسجد، كنيسة، .. وفي الخلفية بيوت قديمة متهالكة تعج بكثافة سكانية مخيفة لا شيء يحد من تناميها، يتعايش القاطنون في "وئام" مشوب بالصراعات والمشاحنات وضوضاء الصغار وصراخ الكبار .. ولعنات مرفرفة في الهواء "مرصعة" بمختلف أصناف السباب .. ولا شيء يسمى خدش حياء، إذ لا غرابة أن تسمع أمّا تدعو ابنها أو بنتها: تعال(ي) إلى هنا يا ابن(ة) القـ ...، أما النماذج البشرية وسلوكياتهم فحدث ولا حرج. بعض رحاب الحي يصدق فيها القول: الداخل إليها ـ حين انعدام قائد ـ مفقود، والخارج منها مولود.
حِينَما التقينا بتوفيق ـ بهذا الحي ـ، دعانا إلى مسكنه القريب. كان توفيق فتى فارع الطول، أنيق المظهر رغم محدودية "خزانة" ملابسه، وذاك أمر عادي بين طلاب تلك المرحلة. تبدو دائما نظيفة ومتميزة، وخاصة عندما تضاف إليها بعض "الاكسيسوارات" المنقولة عن أبطال السينما. واكتشفنا دارا تقليدية، غرفها السفلية موزعة حول فناء واسع نسبيا. وكل غرفة هي مسكن أحد المكترين. بعد الاستقرار في غرفة، تبين من تأثيتها أنها غرفة جارة لتوفيق. جاءت شابتان ـ إحداهما لابسة سروالا قصيرا يفضح مفاتنها ـ، شاركتا توفيق سجائره، وشاركهما قهوتهما، واشتركوا جميعا في السخرية من صيامنا أنا وزميلي. وسأتذكر هذا المشهد بعد سنين حينما التأمتْ مجموعة من الأطباء الداخليين حول مائدة الغذاء، دون أدنى حرج أو تأثّم، ودعوني للالتحاق بهم، فجلست مواجِهاً المولِّدة الشرقية التي تكاد عيناها تفضحان شبقها ودعوتها الخفية الصريحة كلما التقت نظراتنا.
7
وأقبلت إحدى المناسبات، فتوجه إلى مريم يدعوها. وعاتبته على انقطاعه عن زيارتهم. فأبدى بعض الأعذار. وكلما أبدى عذرا زاد عتابها. وشعر أن في طيات العتاب مرارة غير معلنة وغير مبررة. ووعد أن يزورها كلما سنحت الفرصة. فكأن تلك الدعوة جاءت استئنافا لانقطاع التزاور واللقاء.
ثم زارها، فعاتبته، ثم اشتدت في عتابها .. تأخرتَ ولم تف بوعدك .. اعتذر .. وحين انتبها، تبين لهما أن الأحاديث أخذتهما بعيدا، فلم يشعرا بمضي الوقت. استأذن ليودّع. مد يده، فتجاهلتها، حملقت فيه بعينين واسعتين وجفنين راعشين، تسألانه :"ألم تنس شيئا؟". واختلجت شفتاها المكتنزتان، فهوى إليهما بقبلة خاطفة. لفّتْ عنقه بيدها ليغيبا في قبلة محمومة مطولة. فيها إعلان عن عطش عاطفي، وجوع جسدي. تصاعد بهرهما، حذّرتْه من الغياب أو التأخر. وابتسمتْ معلنة انتصارها عليه في "منازلة" مباغتة، لم يحسب حسابها بدقة. وأعلن استسلامه وانتشاءه.
8
دخل بيت مريم، وبعد السلام سأل عنها، قيل له: إنها في غرفتها. استأذن، فوجدها متمددة على فراشها، متدثرة ببطانية. سألها: ما بك؟ قالت: برودة الجو ألجأتني لطلب الدفء تحت الغطاء. جلس قريبا منها يتبادلان الحديث. قالت: إن كنت تشعر بالبرد فادخل تحت غطائي .. تردد ثم عزم .. فاندس بجانبها، ليتحولا إلى كتلة من لهيب القبل واللمس والاحتكاك.
وصار كلما زارها ووجدها تحت الغطاء، يندس بجانبها، فهي في انتظاره. وكانت لعبتهما تقتصر على الاحتكاك من وراء الملابس الداخلية كنوعٍ من الشَّكْز ... حتى الأيادي لم تقتحم المناطق الحساسة .. كانت السذاجة مسيطرة عليهما معا .. وتهاويل الأعراف المجتمعية الشعبية تقف لنيرانهما المشبوبة بالمرصاد كإطفائي يقظ .. لا بد من ترويض هذا الجسد الثائر .. لا بد من لجم هذه الأحاسيس الفوارة .. لا بد من التوقف عند "حد معين" .. لا بد من كبح "الشرر" حتى لا يتحول لنيران محرقة تأتي على الظاهر والباطن ..
9
كان في السادسة، وكانت "غيثة" ـ الخادمة في بيت أحد أفراد أسرته ـ في العاشرة ـ وربما أكثر ـ تستدرجه بعيدا عن العيون، ولعله ـ لعدم تمييزه ـ كان مجردا من الشعور بالرضى أو الرفض، وهي تلعب "بعضوه" الصغير كما تشاء، وتقوم بحركات لم يكن يدرك معناها، لكنه لم يشعر بالنفور مما تفعل به. وحينما ضبطت/ضبطا، كان العقاب لغيثة وحدها، وكان قاسيا. رآه ـ بعد سنين من هذه الواقعة ـ مماثلا للعقاب الذي تلقاه وهو يحاول تمثيل لعبة العريس والعروسة. أو حين أيفع وشارك في تظاهرة طلابية فنال حظا من الركل والرفس والضرب.
وحين أشرف على الثانية عشرة، كانت خديجة ـ ابنة الجيران ـ تضحك كلما سرق منها قبلة، أو لامس صدرا به حبتا لوز في طور التكوير. وكانت تتظاهر بممانعة تزيدها غنجا ودلالا وإغراء. ثم باغته رحيل خديجة مع أهلها إلى بلدة أخرى.
10
فاجأ مريم بسؤاله: كيف العلاقة مع خطيبك؟
انتفضت، وقالت: ليس لي خطيب.
ذكرها بشخص زارهم. ويومها قيل له: إنه يمهد لخطبتها.
ـ لم يحصل النصيب بعد.
حدق في وجهها طويلا، تنهدت. ابتسم. ابتسمت.
قال: كيف تتصورين النهاية؟
انزعجت من السؤال. نظرت إليه نظرة تأنيب وعتاب: ما لك تفسد كل شيء؟
ـ لا أقصد، ولكني أتساءل لأعرف رأيك؟
ـ وما فائدة أن تحاول استكشاف مستقبل غامض؟ دعنا من كل هذا. ماذا عنك أنت؟
فاجأه السؤال، ولكنه ـ وببعض الأسى ـ رد إليها "الكُرَة": هل تستطيعين الانتظار بضع سنوات ريثما أنهي دراستي وأكوّن نفسي؟
ـ ربما .. لا ...
ـ هل نحن في علاقة عابرة؟
ـ ربما .. لذلك أقول لك: دعنا من التخمينات، ولنبْقَ في الحاضر.
علاقة عابرة .. ذاك ما أثبتته الأيام. فمغامرتهما العاطفية لم يزد عمرها عن خمسة أشهر أو ستة .. ودّع بانتهاء الموسم الدراسي ليعود إلى باديته، ويهيء لمتابعة دراسته في مدينة بعيدة .. لم يلتقيا بعد ذلك إلا مرة واحدة، وبحضور الآخرين الذين يفرضون الاحتشام والانضباط .. وبعد أن رحل انقطعت الأخبار .. إلا أنه بعد أربع سنين عاد زائرا .. فوجد مكان البيت عمارة. أين رحل السكان السابقون؟ أين رحلت مريم؟ لا جواب.
11
في يوم دعته مريم لمرافقتهم إلى البادية، عند بعض أقاربهم. ربما كان هناك اعتراض من والديها، ولكنها أصرت، وفرضت مرافقته لهم. كان مساء ذلك اليوم رائعا جدا .. هواء معتدل، وقمر مكتمل، وسماء صافية لألاءة النجوم، .. وقبلٌ ملتهبة مسروقة بعيدا عن الأعين ..
في طريق العودة، وهما على المقعد الخلفي للسيارة، استغل الظلام، ومد يده يتلمس صدرها .. فكانت في صمتها تدفع يده، مرة برفق، ومرة بعنف، تجنبا لأي "فضيحة" .. ولكن شغب "اللعب بالنار" يمنح اللذة والاستمتاع.
حين صار "صاحب تجارب"، أصبح يضحك من سذاجته هو، و"طهرانية" مريم. لم لم يقفز على "الحواجز" التي تخيلها، أو صنعها في علاقته بها؟
كان "يطبق" ـ آنذاك ـ دون أن يدري المثل الذي لم يعرفه إلا بعد سنين: "عَنّقْ وبُوسْ وخَلّي موضع لعروس". ألم يركن العرب لقبول الخدن، وقولهم: "للعشيق الجزء الأعلى، وللزوج الجزء الأسفل"؟!!!.
المجتمعات الشرقية وضعت أعرافا في العلاقة الثنائية، وفوضت للرجل اتخاذ المبادرة، وللمرأة الإذعان. واتخاذُ المبادرة كان رهينا بظروفهما وغِرّتهما معا. فكل شيء كان موقورا بحواجز الخوف والحشمة/الاحتشام .. إذا تجاوزتَ حاجزا اصطدمتَ بآخر بعده .. ولعل الخوف هو سر متعة تلك الأيام، وسر جمالها الأخاذ.
12
قد نستدعي من زماننا البعيد ذكريات باهتة، ننفق وقتا في نفض الغبار عنها، ونحاول استجلاء كل تفاصيلها الملتبسة بمتاهات النسيان. وقد نقف عند ذكرى متمثلة في صورة فوتوغراقية، فيغمرنا الحنين والاشتياق فنبتسم، وقد تدمع العينان. وقد نسخر من أنفسنا، ونضحك من أعماقنا على ما كنا عليه في ذاك الماضي: المظهر، اللباس، قص الشعر، النظرة، الإشارة، الوقفة، وضع اليد، .. وقد نسخر ممن يشاركوننا الصورة الجماعية، دون أن ننسى الترحّم على من سبقونا إلى الآخرة. وقد نتأسى لِمآل شخص كان "يمسك الأرض أن تميد وترسي" لا يحسن ـ منذ أمد ـ إلا القدْح في الجيل "الجديد" لتنكره للأسلاف، وها هو صار "نكرة" أشبه بفقاعة صابون، يتوقع "انفجارها" الوشيك، كأن لم تكن.
والحقيقة أننا نسخر أيضا من حقبة زمانية لها سمات خاصة بها، سمات تبدو بعيدة عن القبول حاليا. فالمعايير تتبدل وتتغير، والذهنيات تتطور. قد نحكم على الحياة بأنها كانت ـ بالأمس ـ بسيطة وعادية، واليوم ازدادت تشعبا وتعقيدا. قد نكون أحبابا وخِلّانا فنصبح أجانب وغرباء، تلتقي نظراتنا بنظرات أحباب الأمس، فلا تخوننا النظرة، ولكننا نتعمد ـ وإياهم ـ التنكر لذاك الماضي المشترك. نسعى لمحوه وهو كالنقش على الصخر لا ينمحي. قد نسخر من مشاعرنا، ونسخر ممّا كنا نحترق من أجله لهفة وشوقا وحنينا ووجدا، قبل أن يناله بِلى الزمان فيصير بدون تأثير، ولا "يحرك" ذرة من أحاسيسنا.
13
قبل سنتين من "ارتباطه" بمريم .. غاب أستاذ عن حصته الدراسية .. فانتشر التلاميذ حول الثانوية .. وفي الحديقة المجاورة، كانت "صفية" ـ زميلة الدراسة ـ قد قطعتْ ـ في مراهقتها ـ مراحلَ متقدمة، .. عدّلت نظاراتها فوق أرنبة أنفها .. نقّلت نظرها بينه وبين بعض الزميلات، ثم قالت له: آه .. لو وجدت فرصة "لأكلتك". ضحكت الأخريات .. وغاص في خجله "الطفولي" الذي يعتري البدايات المبهمة للمراهقة .. وضعت إحداهن يدها على ظهره، وغرست نهدها وراء ذراعه، وصاحت: دعيه عنك، فقد أخجلته. شعر بتكويرة النهد ونعومته، فخفض رأسه، ولم يتحرك.
في ذلك الوقت، كان تصرفهما يعتبر قمة الجرأة والتحدي للقيود السائدة في المجتمع .. واحدة غلّفتْ تصرفها بالدعابة .. وواحدة غلفته بعفوية التلامس ..
لكنه بعد سنين، ستأتيه واحدة تعلن حبها له. وفي اللقاء الأول معها استعان بكل ما راكم من "خبرة"، فأخذها ـ مباشرة ـ "تحت الغطاء". جردها من كل ملابسها، وباعد بين شفريها ليتأكد من عذريتها، ثم مارس كل أشكال الاحتكاك المباشر بين أعضائهما الحساسة، باستثناء الإيلاج. لم تكن "قطة مغمضة" خالصة، ولكن ليس لها تجربة "حقيقية" يُعتَدّ بها. حدق في عينيها بوقاحة ليرى أثر "فعلته" عليها. أغمضتهما وأشاحت بوجه عليه طيف ابتسامة. ووضعت طرف إبهامها بين شفتيها، لا يدري أتتلهّى بعَضِّه أم بمصِّه؟
راضية؟ .. رافضة؟ .. توزعتْ أفكارُها: بين النشوة بما لم تخطط له، و"الفوز" بما "غيّبتْه" عن بالها عفوا أو عمدا، وبين خيبة أمل التي خططتْ لرسمَ صورة وردية طوباوية مثالية، فطاشت فُرشاةُ توقعاتها، واختلطت الألوان، من أول لمسة. .. وَجْلَى لا تستطيع الاستقرار على شعور محدد .. خائفة أن تفقد تجديد "نشوتها"، وألا تحقق "ما أمّلت" .. قالت بصوت مرتعش خافت مصطبغ بالرجاء: إنني أطلب حبا.
قال: قد أصدمك .. فلا وقت عندي للحب .. قد رأيت حدود حبي .. أما الرومانسية فقد قذفتها خلف ظهري منذ لذعتني ..
قالت: سأنتظر، ولن أملَّ.
قال: سيتعبك الانتظار.
انطلق في أعماق نفسه صوت هادر يوبخه: أين اللباقة والعذوبة والغزل الرقيق .. يا لك من جلف حقير .. تعسا للظروف التي غيّرت طباعك، وجعلتك قاسيا شريرا. لمَ لا تستبدل وقاحتك بعبارة مثل: أنا وأنت نقف في مهب الريح، وسنؤْذي أنفسنا بالبقاء هكذا، هيا نحْمِ أنفسَنا، وننتظرْ ما تأتي به الظروف. أو عبارة: قلبك فارغ، وقلبي ممتليء بعِلَلٍ أخاف عليك منها، ربما "أهيء" لك ـ مستقبلا ـ زاوية فيه، نظيفة ولائقة.
14
كان الوقت صيفا. لفظتهم ـ أربعتهم ـ قاعة السينما عند منتصف الليل، مرُّوا ـ في سيرهم ـ بطريق متربة خلاء، على جوانبها نباتات شوكية قد تعادل أحيانا قامة الإنسان. أيبستها الحرارة المرتفعة، وتكاد خشخشتها لا تسمع لانعدام النسمات المحرِّكة. وصلوا إلى مجال حيهم الواقع داخل أسوار المدينة. تهادوا نحو فضاء فسيح، شبيه بمنحدر يؤدي إلى واد جاف، يغطي النجم بعض جنباته. استأثر صديقه بالجميلة لسبقه في الاختيار لأنه هو الذي فاوض القوّاد، ولكن الشبق الشديد لا يساوِم في تحقّق الرضا بما توفر من معالم الحسن، ويبرر كلَّ شيء بالنسبيّة. وذاك ما كانت مجموعتهم تتندر بالتعبير عنه: "حزب غَطِّ واضْرِب". أي غط وجهها إن لم يعجبك، و"اشتغل بما تبقى".
كانت الأرض فراشهم، والسماء لحافهم، والظلام ستارهم. ورعونة الشباب حافزهم، والشبق وازعهم، .. كان لسان حالهم كأبي نواس 1 لما رُئِيَ كالمجنون:
إن الـرزيّــة لا رزيــة مـثـلـــــهـا عَـوَزُ المكان وقد تَهَـيَّا المَضْـرَبُ
لم تكن المغامرة مخططا لها، ولا نوقشت مخاطرها. "الحل العفوي للأزمة" يصور كيفيةَ محاولةِ جيلٍ تجاوُزَ بعضِ مشاكله. وسيطور ـ هذا الجيل ـ أسلوبه بمجرد تمكّنِه من مدخول قار، وذلك بالانتقال من "الأوتيل (الفندق) العريان" إلى اكتراء "كارسونيير" في إطار فردي أو جماعي. وحسب موقع "الكارسونيير" تثور سيرة أخرى من المجابهة مع بعض الجيران أحيانا، أو الخضوع لابتزاز "مستخلصي الإتاوات" حتى "يغضوا" الطرف. تذكر تصرف "حسن الخياط"، الذي أشعر زوجته ووالدته أنه سيستقبل بعض أصدقائه للعشاء، وحين جاؤوا كانوا ـ كلهم ـ مرتدين جلاليب. وطالت سهرة بعضهم ـ عنده ـ إلى الفجر. فجابهته أمه ـ فيما بعد ـ تحذره ألاّ يكرر فعلته "ويلعب بذيله" مستقبلا. ونسفتْ "كل محاولات ادعائه البراءة مما ترميه به" بقولها: عندما أطللتُ عليهم وهم يجتازون فناء البيت، أدركتُ ـ من مشيتهم ـ أن بينهم أنثى". أسقط في يده. وغاص في خجله. واعترف ـ فيما بينه وبين نفسه ـ أن قيافة الحاجّة غير مخطئة. وأنها دارت "فضيحته" لأنها أمه.
15
ثارت بينهما مناوشات عدوانية، لتحرشه بقريبته. ثم زالت القطيعة، وأصبحا صديقين. قال هذا الصديق: حياتنا ذهبت هدرا.
نظر في وجهي فرأى استفهاما يستوضحه قصده. وبعد برهة أضاف:
لم يكن في زماننا هواتف ثابتة أو منقولة، ولا انترنيت، ولا وسائط اتصال .. أي حياة عشنا!! (كان الرجل يحب الفتاة، فإذا ظفر بها بمجلس، تشاكيا، وتناشدا الأشعار. واليوم، يشير إليها وتشير إليه، فيعدها وتعده، فإذا التقيا، لم يشْكُ حبا، ولم ينشد شعرا، وقام إليها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة )2
تذكر حينما صعد إلى الناقلة، فاستشار الطفلة اليافعة المراهقة إن كان المقعد الذي بجانبها شاغرا، نظرت إليه، ثم فسحت له ليجلس قربها. وأدرك مما بدأ يراكم من خبرة، أنها ما كانت لتسمح لأحد "بمضايقتها" بشخصه ما لم يحز رضاها. وخلال سفر يدوم قرابة ثلاث ساعات، بدأ مع قرب المساء، وانتهى في الظلام، كان بينهما الحديث ثم القبل ثم استمناء "بدريّة" بيده، عندما تسللت أصابعه إلى عنبلها تدلكه.
أمّنتُ على قول الصديق. ثم تساءلتُ:
ما الأفضل؟ وما الأقرب إلى الواقع؟ وقد صارت الحياة افتراضية Vertuel أكثر منها حقيقية ..
16
أحلامنا ـ في الماضي ـ كانت أسمى من الوهم الذي صار اليوم يلوّن جوانب كثيرة من هذه الحياة .. والمذهل أن الأشخاص ـ الآن ـ يختارون ـ برضاهم ـ خداع أنفسهم وانخداعها .. إذ يستطيع أي كان أن يدعي امتلاكه على الشبكة العنكبوتية ما يشاء من ملايين الأشياء، كالصور والكتب والمقالات والأشرطة .. غير أنه ـ في الحقيقة ـ لا يملك شيئا منها يمكن أن تراه بخزانته في بيته .. ربما يكون الشيء الرائع في هذه الثورة الانقلابية هو: ديموقراطية المعرفة، وسلاسة التشارك، وسقوط الحواجز والقيود، وتجاوز الحِجر والرقابة على الفكر والتعبير ..
ـ لكن الدس والغش والتدجين .. "أشياء" تلعب أدوارا قذرة في تشكيل "شخصية" الفرد، وتنميطها.
ـ هون عليك .. فبالتمرس يستطيع الذكي أن يميز بين اللباب والقشور، ويحتكم إلى العقل ويغلِّب المنطق. ويكتشف ثم يكشف أوراق الخرافة التي عاشت تستقي ديمومتها وسيطرتها من سيادة الجهل، واليوم صارت تفقد "قدسيتها" الوهمية .. وفلول الخرافيين يجربون الدفاع عن بقائها بسيوف مثلومة، كالقذف بالزندقة والإلحاد والتحريف وازدراء المقدس .. وتجييش الرعاع وتحريضهم على العنف والإرهاب.
17
كان عليه أن يؤجل الالتحاق بالدراسة الجامعية، إلى ما بعد قضاء فترة التجنيد الإجباري. تكوّن لديه إحساس بنوع من "الحصانة" وهو يخطر في البذلة العسكرية بين المدنيين في العطل أو نهاية الأسبوع. وشكل مع قرناء آخرين كوكبة صغيرة لم تتورع ـ في بداية تشكيلها ـ عن مطاردة الإناث دون تمييز بين المحصنات وبنات الهوى. لكنهم كفوا عن ذلك عندما تعرفوا على بعض العناوين والأماكن. فصارت مهوى أفئدتهم، ومحط "تسليتهم"، يستهلكون "لحومها" وتستهلك جيوبهم.
"زينة"، كانت في ميعة الصبا، قصيرة، مكتنزة. بعد شرب بضعة كؤوس من النبيذ الأحمر، تبدأ في التعبير عن أساها لمفارقة بلدتها وأهلها و"سقوطها في المكتوب". تحاول أن تتغنج وهي تسأله بلسان يكاد يرطن:
ـ هل أصلُحُ أن أكون زوجة؟
ـ كل شيء ممكن. وستجدين ـ بدون شك ـ من يهيم بك ويتزوجك.
ـ لم لا تكون أنت هذا الشخص؟
ـ أنا مثلك شريد هائم بعيد عن أهلي وبلدتي، ومصيري غامض.
ـ لا تكثر من الأعذار، فالأمر واضح، ولا ألزمك بشيء. هات كأسا وسيجارة. أعِدُك أنني سأمتعك.
والحقيقة أن درايتها بفنون الرّهز تفوق درايتها بأغاني مطربة شهيرة ـ إذذاك ـ، تتكلّف تقليد حركاتها وإشاراتها كما رأتها في دار السينما. ومن كلامها وتمييز تنويعها في تفخيم بعض الحروف أو ترقيقها، يستطيع السامع أن يحدد المنطقة التي تنتمي إليها. وتلك عقبتها الأولى التي حرَمتْها تطويع ما تحاول ترديده من أغاني تلك المغنية. أما "ثقافتها" عن السينما الهندية فـ"موسوعية".
حينما يعاني من وطأة التداريب، وصرامة الأوامر، لدرجة الإحساس أحيانا بالانسحاق والتلاشي. يكون ملاذ خياله ما قضاه من أوقات مع زينة. كان يضحك وحده عندما يتذكر ما قالت عن سبب انقطاعها المبكّر عن المدرسة:
تصورتُ أن المدرسة تؤدي حتما إلى جهنم، كان المدرس يتكلم وأنا أرتجف وأزداد ـ ما استطعت ـ انكماشا في مقعدي، حين أفاض في تصوير عذابات جهنم المهولة، وهو يشرح آية قرآنية. فلم أجرؤ على النظر إلى الباب أو النوافذ لآنني توهمت أن الزبانية يقفون هناك، مستعدين ليسحبوني إلى الدرك الأسفل من النار. وتزامن ذلك مع انتشار غير متوقع لغيوم سوداء كثيفة حوّلت النهار إلى شِبْه ليل. وفي لحظة حاسمة انطلقتُ أعدو إلى الخارج بكل ما تبقى لي من قوة، وفرحتُ بنجاتي من الزبانية لأنني خاتلتهم ومررت من بين أرجلهم دون أن يمسكوا بي. وهكذا "أنقذت نفسي من جهنم". رحلتُ ولم أعُد.
18
عندما غزا الانترنيت حياتنا، احتلت المواقع الإباحية مكانة خاصة لدى مكتشفي الجنس في شتى جمالياته (تعابيره، صوره، أساليبه ..)، وكذا مقززاته وتطرفه..، لم يسلم أحد من إلقاء نظرة عليها .. رجالا ونساء، شيوخا وشبابا وأطفالا. غير أن هناك من أصيبوا بالإدمان. حتى الشيخ المفتي على القناة الدينية ينعى ويشرح ويحلل ويعيب ويحذر وينصح .. من موقف "الخبير المجرّب المتفرّس العارف المطّلع المحيط بالشاذة والفاذة". ما أنت يا شيخنا إلا واحد منا و"عالِم" مثلنا، فزِنا العينين "قدَر" هذا العصر، كل واحد منا تزني عيناه. ولا عزاء لمن لم تزن عيناه. ولمن لا يشتمل هاتفه المحمول على بضع صور فاضحة، ولمن اتخذ غواية الجسد سبيلا للابتزاز والاغتناء والاعتداء والتلاعب بالعواطف. ثم أحييت المفردات: انحلال، فسق، فجور، ميوعة، إفساد، نسف، هدم، مؤامرة، .. وما زال شيخنا يردد الدعوة إلى "الصوم"، حتى جبَهَه أحدُهم بتحدِّيه الساخر: إذن، أوْفِنا حقّنا في ملك اليمين من الإماء والسبايا والجواري.
لماذا يقحم "الشيوخ" انفسهم في "العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين"؟ فــ"الأخلاقيون" وتجار المستنقع الديني على استعداد "ليجلدوا" كل خارج عن "توجيهاتهم" ورافض لطاعتهم. ولذلك يدفعونك لطلب "بركاتهم وفق طقوسهم" فيما تَعْقِد من علاقات. يحثونك على ترويض الجسد بحثا عن صك غفران لتبرير ما تأتي من "أفعال" تقحم فيها جسدك .. حراس المعبد "يتحكمون" في الجسد (الذكري والأنثوي) تحت لافتة سمّوها: "الحلال والحرام"، فتراهم يسوغون لك ـ ما يشاؤون ـ كما تمليه عليهم أهواؤهم ومذاهبهم وطوائفهم ونحلهم ـ .. واحد يبيح إعارة فرج الزوجة .. وآخر يطلب عدم اقتحام البيت وإشعار الزوجة بالعودة من السفر وإمهالها "حتى ينسحب من معها" .. وآخرون شرّعوا عشرات الوجوه للمتعة بأسماء مختلفة "للزواج" .. يريدون منك أن تكون "متسامحا في الزنا والقوادة"، وبدون غيرة أو حمية. وحين تعود إلى تنشيط عقلك وما تقتنع به ميولاتك، تحاول التمرد و"إحراق" عبء الشعور بالذنب .. بحثا عن الإحساس اللذيذ بمتعة الرضى الذي لا ينغصه أي عارض .. ما دمت غير معْتَدٍ أو جائر.
19
عاش فترة يحسب فيها الأيام، توقعا لملاقاة عشيقته التي انتقلت للعمل في مدينة أخرى .. وبفضل هاتف المصلحة التي تشتغل فيها كان الخط يحمى من مكالماتهما. ثم عاش أياما وشهورا من القلق والاضطراب النفسي والعاطفي عندما تجنّت عليه عشيقته وهجرته. وتزامن ذلك مع خسارة مالية جسيمة مُني بها. بدأت هجرانها بالمباعدة بين مكالماتها الهاتفية، ومرّات لقاءاتهما .. إلى القطيعة المؤلمة الممضّة ..
خلال حديث عابر مع أحد رواد المقهى الذي يغشاه، .. ادّعى أن عنده كتابا فيه "تأخيذات ورقى وتعاويذ" تنفع في العشق .. ولم يكن إلا كتابا مشهورا تجاوزه الدهر .. غير أنه لما ثاب إلى رشده، سخر من نفسه وسقوطه في شرَك الخرافة بانخراطه في حديث لا يجدي .. وكأنه الغريق الذي يتمسّك بقشة تبن.
في بدايات "رحيلها" حدثته عن جارتها "المشرقية، الأصل" التي تشتغل راقصة .. والتي تقرّبت إليها بشتى الوسائل، معتبرة جوارها و"وجهها" فاتحة خير وبركة على "شغلها" الليلي في مرقص بفندق مصنف .. وعرضت عليها حضور وصلة رقص لها، وعندما قبِلتْ، زيّنتها، وجمّلتها، وأخذتها بصحبتها إلى الفندق، .. وهناك عرّفتْها على بعض "زبنائها"، وتركتها "وديعة" بين يدي أحدهم، فانتقل حديثه معها إلى السؤال: كم تأخذين في الليلة؟ .. وحينما عادتا إلى البيت، ثارت الراقصة في وجهها، وأنّبتها على الكلام السيء الذي وجهته إلى الزبون "الذي يبيض الذهب"، "ووزنه كلّه ذهب"، ويمكن أن "تجني من ورائه الذهب".
حدثته عن مسؤول كبير اغتصب خادمته، فحملت منه، فلما افتضح أمره، صارت زوجته ـ أم أولاده ـ تتحداه بإعلانها أنها ستسهر ليلتها مع "صديقها الذي يموت عشقا لها". ونحا أولادها وبناتها نهجها، وأطلق الجميع الحبل على الغارب .. وعن طريق مجموعة الأولاد تقرّب منها شاب من عائلة ثرية، قدّمَها لأسرته، لـ "نيته" الزواج منها.
ولم يدرك أبعاد هذه العلاقة إلا بعدما فاجأته بإقبالها على الخضوع لعملية إجهاض. قالت: سهرت معه، وأغراني ـ بإلحاح ـ بشرب الجعة .. وعندما عدت إلى وعيي وجدت نفسي عارية في فراشه .. وأحس بنفور كبير منها، فلم يكن يظن أنها ستستبدله، ولهَج لسانُه بقول الغزال الأندلسي: "فالسرج سرجك ريثما لا تنزل ". 3 وسهّل عليه ذلك توطين نفسه على "نعمة" القطيعة والهجران، مرددا:
إذا وقع الذبــــــــاب عــــلى طعام رفعت يدي ونفسي تشتهـــــــــــيه
20
اعتاد أن يدلف إلى المتحف كلما سنحت له الظروف، يطوّف بأروقة المتحف المتعددة، ولكنه لا بد أن يعرج على جناح لوحاته المفضلة يعب من جماليات المصوَّرات، كاسيات أو عاريات. فهي تشد انتباهه دائما، ولا بد أن يقف أمامها وقتا ليس بالقصير، هل وقع في غرام أنثى بارزة في هذه اللوحة أو تلك؟ هل تتشابه ملامحها بإحدى حبيباته في سالف الأيام؟ يكاد يقنع نفسه أنها رسمت من أجله ولأجله. لو كنتَ شهريار لخصّصتَ واحدة لِسمَرِك، وأخرى لـ"سحورك"، وثالثة لـ ...
تفتنه الألوان بتراكيبها وانتظامها وتنافرها وشغبها الخلاق المبدع .. يتتبع اللون الواحد منفتحا فمتدرجا نحو الانغلاق والعتمة، فالأحمر ـ مثلا ـ يبدو بالوجنتين باهتا أمام الأحمر بالشفاه، ويبدو ورديا عند رؤوس الحلمات الفاتنة .. ارحلْ بخيالك في صحبة "شبح" الصورة .. كلمْها .. اسألْها عن حياتها وتجاربها وأمانيها .. حاورْها عن الماضي والحاضر .. لكن لا تسألها عن سر فتنتها وجمالها، وإشعاع السحر من كل عضو بجسدها .. حبِّر ما تشاء من قصائد الغزل فيها .. ودندن أجمل اللحون من أجلها .. ومهما فعلت فستعود خائب المسعى .. لأن "حبيبتك" كتلة من صقيع لا تحس بمشاعرك ولا تستمع لدقات قلبك .. لو أنها بادلتك بعض المشاعر الدافئة لكنت أسعد مخلوق .. ولكنها لا تجود إلا بنظرة منكسرة تائهة في غيمة حزن .. يشبه حزنك كلما قسَتْ عليك الغربة وتذكّرت الذين تركتهم هناك وكلهم شوق وحب.
وتنبّه إلى العجوز الواقفة على بعد خطوتين منه، تتكيء على عكازتها، وتترك نظاراتها تتدلى بخيطها على صدرها .. ثم تستعيدها أمام عينيها للنظر في كتاب الدليل الذي بين يديها، ثم تبعدها لتحدق في اللوحة من جديد .. ثم طَفَتْ على وجهها ابتسامة رقيقة، وخيل إليه كأنها تقول في أعماق نفسها: هكذا كنت في يوم من الأيام، فاتنة في عز شبابي، أحرق قلوب الحائمبن حولي من الشبان .. التقت نظرته بنظرتها .. برطمت بكلمات من لغة غريبة عنه لم يفهم منها شيئا .. اكتفى بالابتسام، وانحناءة خفيفة، مع التعقيب: حظ سعيد سيدتي. ثم انصرف.
21
ألقى إليها كلمة إعجاب وهو ماض في سيره، فتوقفت، تراجع نحوها، قالت: ما أشد جرأتك! قال: ما أجملك! سار بجانبها محاولا فك الغموض الذي تغلف نفسها به. نخوة .. كبرياء .. جمال أخاذ .. أناقة .. تكاد لا تفصح بأي شيء عن حقيقة شخصيتها. وداخلتْه هيبةٌ خفية أن يكون "لمحدثته" شأن ما. والمدينة ـ آنذاك ـ تعيش أوقاتا استثنائية، وتعرف زوارا من نوع خاص. وكاد يتركها ويبتعد، لولا قولها: أهذا منتهى جسارتك؟ واصَلَ سيره معها، يدلها على مسالك المدينة ودروبها المتشعبة. حتى أنهت بعض ما جاءت من أجله. وودعته ـ بكلمات كأنها تفرغ عليه سطل ماء مثلج في يوم شديد البرد ـ بقولها: أشكر لك مرافقتي، فوجودك معي حماني من التحرش.
ليس بينها وبين "شريفة" فارق. بدت مبتهجة كأنها عثرت على "كنز" ثمين عندما تودد لها ببضع جُمل. بعد كلمات التعارف الأولى. اقترحت عليه استراحة بحديقة فندق مصنف. قصداه. وهناك "صادفا" زمرة من زملائها في العمل. حيّتهم وقدّمته إليهم، وهي تستند على كتفه في زهو ونشاط. ثم انتحيا جانبا يتحدثان. وبين الحين والآخر كانت توجه نظرة "انتصار" إلى زملائها. عندما غادرا، سألها عن "نوع" العلاقة التي تربط بين هؤلاء "الزملاء". قالت: إنها مجموعة تقتنص الفرص حسب الإمكان، ولا تدخر جهدا في الغرْف من متع الحياة، وتراهم يتشكلون "مثنى مثنى"، وقد علمت بأنهم "تسارُّوا" ليرتادوا هذا المكان. و"ازدروني باستصغار" فلم يدعوني، لافتقادي لـ"فارس"، فحزّ ذلك في نفسي. ثم نزلتَ عليّ هدية من السماء، لكي أطاولهم بمظهرك المحترم، وشبابك الذي يفضح تقدمهم في السن.
22
أعطيت الفرصة الأخيرة للمتهم للإدلاء بآخر أقواله في الموضوع. فتلعثم:
ـ سيدتي مريم ..
نقّلت القاضية بصرها بين المتهم والمحامين، وكأنها تسأل: من هذه التي يذكر؟ وما علاقتها بالقضية؟ وهل الرجل في كامل قواه العقلية؟
تدخل بعض المحامين لتوجيهه .. والاعتذار عن خرفه .. بقي متسمرا في مكانه يتابع "مريم" وهي تغادر القاعة. متقدّمة كوكبة الهيئة. ودّ أن يُسمِعها "احتجاجه" قبل أن تغيب: ما كنت أبدا مجنونا.
أحس بالفراغ يزحف على ذاته، وعلى ما حوله. سرى خدر في أطرافه فتجمد في مكانه. كانت الأصوات تأتيه كالصدى المنبعث من موقع سحيق، .. لا يفهم قوْل من يتحدث إليه .. يرى شفاها تتحرك، ويسمع صدى كالهدير لا تَبِين فيه أي كلمة .. كان يود أن يصرخ ليحتج على "تنَكّر مريم له"، ولكنه غير قادر حتى على التعتعة. وبعد جهد جهيد تمتم بحشرجة: يا للسراب.
مراكش يونيو 2019.
........................................................................
1 الأغاني ـ الأصبهاني 25: 279
2 مقولة لعمر بن شبة واردة في: روضة المحبين - ابن الجوزية
3 المطرب من أشعار أهل المغرب ـ ابن دحية الكلبي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب