الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الحلبوسي وجائزة نوبل للاقتصاد!
ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين
(Nagih Al-obaid)
2019 / 10 / 5
مواضيع وابحاث سياسية
أخيرا توصل رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي إلى حل لجميع مشاكل الاقتصاد العراقي ويلبى في نفس الوقت كل مطالب الحركة الاحتجاجية مهما كانت تعجيزية. وصفته السحرية لهذه المعادلة الصعبة قد تدفع الأكاديمية السويدية لترشيحه لجائزة نوبل الاقتصاد لهذا العام لأنه نجح فيما عجز عنه حتى الآن علماء الاقتصاد الذي لا يزالون حائرين أمام ما يدعى بالمربع السحري للسياسة الاقتصادية، أي التوفيق بين النمو الاقتصادي وخفض البطالة واستقرار الأسعار وتوازن التجارة الخارجية . ففي خطابه المطول مساء الجمعة 4/10/2019 بعد ثلاثة أيام من الاحتجاجات الدامية التي اجتاحت معظم أنحاء البلاد قدم الحلبوسي خططا ومقترحات "جريئة" لم تخطر على بال مفكري الاقتصاد التقليديين لمواجهة البطالة وخلق ملايين فرص العمل الجديدة والقضاء على الفقر ومكافحة الفساد وأزمة السكن وتحسين الخدمات وحل مشكلة التمويل وجذب الاستثمارت الأجنبية، وربما إقامة الجيل الخامس لشبكة الإنترنت في بلاد الرافدين، وكل ذلك مجانا!.
خلال الاثنتين وأربعين دقيقة التي استغرقها خطابه لم يترك الحلبوسي شاردة أو واردة من هموم العراقيين إلا ذكرها في محاولة أخيرة لتهدئة المحتجين. كانت علائم الخوف بادية على رئيس مجلس النواب، الخوف طبعا من غضب الشارع والخوف على فقدان الامتيازات السياسية والمالية. لهذا كان سخيا إلى أبعد الحدود في إغداق الوعود التي تبشر بمنح الدخل للفقراء وتوفير السكن للمحرومين والوظيفة للخريجين.
كان من الواضح أن رئيس البرلمان يتنافس مع رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في إطلاق الوعود دون التفكير مليا بعواقبها. فبعد أن تعهد عبد المهدي بدفع "راتب أساسي" للعوائل الفقيرة، أخذ الحلبوسي على عاتقه مهمة رعاية مليون وربع مليون عائلة محرومة بحسب الإحصائيات التي بحوزته. كان من اللافت أن عبد المهدي لم يتحدث عن واجب الدولة بتوفير "دخل أساسي" أو "مساعدة اجتماعية" تضمن حياة لائقة للمعوزين، وإنما استخدم مصطلح "راتب أساسي"، على الرغم من أنه وبصفته دكتوراه في الاقتصاد يدرك جيدا أن جميع القواميس اللغوية والاقتصادية تُعرف "الراتب" بأنه أجر العامل والموظف، أي ما يتقاضاه الشخص مقابل عمله وليس مساعدة أو صدقة من أحد. لا يستبعد أن يحوز عبد المهدي على جائزة السبق في إضافة درجة "فقير" ضمن سلم الرواتب في العراق. وفي كل الأحوال لم يكلف الاثنان نفسيهما عناء التفكير بتمويل المساعدات الاجتماعية المطلوبة، وهي قضية يجب أخذها على محمل الجد.
ذهب الحلبوسي إلى أبعد من ذلك وتعهد يتوفير السكن لذوي الدخل المحدود والمتجاوزين وسكان الأحياء العشوائية. لهذا الغرض تقدم بمشروع 100 ألف مسكن. وفقا لحساباته الدقيقة يُكلف كل منزل 42 مليون دينار عراقي، هذا بالطبع من دون سعر الأراضي التي سيتبرع بها رئيس البرلمان من جيبه الخاص. بحسبة بسيطة يتطلب مشروع الحلبوسي للسكن "الرخيص" 4 ترليونات و200 مليار دينار، ما يقارب 4 مليارات دولار ما عدا قيمة الأراضي. وعد الحلبوسي بتقديم جميع هذه المساكن بالمجان حتى للمتجاوزين، إذ لا يجوز بحسب رأيه طرد المتجاوزين دون توفير سكن لائق لهم، أي مكافأتهم على تجاوزهم على الحق العام. أو بإختصار: قريبا ستصبح أسهل طريقة للعراقي لكي يحصل على منزل مجاني هي الاستيلاء على مبنى حكومي أو بناء خربة فوق أرض حكومية. لم ينس الحلبوسي بالطبع أصحاب الدخل المتوسط الذين شملهم بكرمه اللامحدود عندما وعدهم بتقديم قروض بدون فوائد، ولكنه لم يتعطف بتقدير تكاليف ذلك، طالما أن الأم الرؤوف – الدولة – ستتحمل عبء ذلك.
لكن أهم ما جاء في خطاب الحلبوسي كان موجها للعاطلين عن العمل وخاصة خريجي الجامعات. كان كريما إلى أبعد الحدود في تقديم الوعود بفتح باب التعيين في القطاع العام المتضخم أصلا على مصراعيه. يعود هذا الاهتمام إلى أن الحراك الأخير بدأ كمظاهرة محدودة لما يدعى بحملة الشهادات العليا الذين طالبوا بوظائف في أجهزة الدولة.
لا شك أن العاطلين عن العمل لديهم كامل الحق في الاحتجاج ومطالبة الحكومة باعتماد سياسة اقتصادية تساعد في خلق فرص عمل جديدة في مجتمع ينفجر سكانيا منذ عقود. كما أن من حق جميع العراقيين الاحتجاج ضد تبديد المال في القطاع العام جراء العمالة الفائضة وضد اعتماد مبدأ المحسوبية وتفضيل الأقارب والأعوان أثناء منح الوظائف والدرجات الخاصة ذات الرواتب المغرية. لكن مقترحات الحلبوسي وكذلك عبد المهدي لا تهدف إلى حل المشكلة وإنما تضخيمها. صحيح أن فتح باب التعيين سيكون بمثابة مُسكن لحالة الاحتقان السائدة حاليا، ولكنه سيعني عاجلا أو آجلا انتحارا اقتصاديا سيقضي على فرص إصلاح الاقتصاد العراقي وإعادة هيكلة القطاع العام الذي يعاني من الترهل والبطالة المقنعة ويلتهم حصة الأسد من الثروة الوطنية دون فائدة تذكر، ما عدا مواصلة سياسة منح امتيازات مالية لفئة معينة دون وجه حق. كما أنه يتعارض مع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي قدم مساعدات كبيرة للعراق مقابل التعهد بتطبيق إصلاحات، وفي مقدمتها الحد من ظاهرة تضخم القطاع العام ورفع فعاليته ومكافحة البطالة المقنعة فيه والتي تعتبر سببا رئيسيا لعجز الموازنة العامة للدولة.
ربما يفكر الحلبوسي بالمساهمة في حل مشكلة البطالة من خلال مضاعفة فريق حراسته وعدد حراس نواب البرلمان العراقي والذين يقارب عددهم بحسب ورقة قدمها النائب والاقتصادي الراحل المعروف مهدي الحافظ 15 ألف جندي وضابط، أي فرقة جيش كاملة. تحت هذا البند يندرج على أية حال مقترح رئيس مجلس النواب بفتح باب التطوع في الجيش العراقي، وكأن الجيش يعاني من قلة العدد وليس من ظاهرة الجنود الفضائيين وضعف الانضباط والفساد وعدم وضوح العقيدة العسكرية.
بكلمات موجزة ضمن الحلبوسي تمويل كل هذه الإجراءات والوعود السخية. فقد قال في خطابه الشهير: ماذا يعني لو زدنا نفقات ميزانية الدولة من 130 إلى 150 ترليون دينار (قرابة 130 مليار دولار)! لم يوضح الحلبوس بالتفصيل كيفية تمويل النفقات الإضافية، لكن عبقريته الاقتصادية اهتدت لاقتراح الاقتراض من النظام المصرفي الأمر الذي يعني عمليا العودة إلى سياسة طبع النقود دون حسيب ورقيب والتي سادت في عهد صدام حسين. لم يشر رئيس السلطة التشريعية إلى أن مسودة ميزانية الدولة العراقية لعام 2019 تتضمن أصلا عجزا هائلا بقيمة 28 ترليون دينار، أي أكثر من 20% وهي نسبة عالية بكل المقاييس وتهدد الاستقرار المالي والنقدي للبلاد. يبدو أن النظرية الاقتصادية للحلبوسي لا تختلف كثيرا عن الأفكار العبقرية لصدام حسين وحسين كامل والتي أدت عمليا إلى انهيار قيمة الدينار العراقي خلال سنوات قديمة بطريقة لم يشهدها التاريخ الاقتصادي إلا نادرا. وهي فاتورة باهظة دفعتها الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي، وخاصة الطبقة الوسطى.
لم ينسَ رئيس مجلس النواب أن يؤكد أن كبرى الشركات الأجنبية تحلم بالاستثمار في العراق وأن كل ما نحتاجه هو تخفيف الإجراءات البيروقراطية أمامها وتشكيل مجلس أعلى للإعمار. نأمل أن لا تطلع هذه الشركات على فحوى خطاب الحلبوسي لأن كل فكرة وردت فيه هي دعوة صريحة لها للابتعاد عن بلد يبشر فيه قادته بنهج عفى عليه الزمن.
يبدو أن الطبقة السياسية في العراق، وبعد أن أوصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود جراء عدم كفاءتها وفسادها، تريد الآن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال اتخاذ إجراءات متسرعة وغير مدروسة تمهد لتأبيد الفساد وتبذير المال العام. هذه الطبقة تتحمل أيضا منذ عام 2003 مسؤولية إجهاض فرص تطبيق إصلاح حقيقي يؤسس لنهضة اقتصادية حقيقية وتنميه مستدامة تكافئ النزيه والمجتهد والمبدع وأصحاب الكفاءات والمبادرات.
ينسى الحلبوسي تماما أنه رئيس سلطة تشريعية ورقابية وليس تنفيذية ولا يحق له أن يحل محل مجلس الوزراء ووزير المالية ومحافظ البنك المركزي. لكن يمكن مسامحته على هذا التدخل لأن خطابه مساء أمس تضمن أهم أسس النظرية الحلبوسية التي لا يستبعد أن تنافس النظرية الكينزية في علم الاقتصاد وتؤهله لنيل جائزة نوبل للاقتصاد.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات المحلية في تركيا.. استعادة بلدية اسطنبول: -هوس- أ
.. المرصد: ارتفاع قتلى الهجوم الإسرائيلي على حلب إلى 42 بينهم 6
.. بكين تتحدى واشنطن وتفتح أبوابها للنفط الروسي والإيراني
.. الحكومة الأردنية تهاجم دعوات حماس التحريضية | #رادار
.. رمضان ومدينة المليون حافظ.. طرابلس الليبية