الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل التناقض بين اليساريين والإسلاميين رئيسي أم ثانوي؟

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2019 / 10 / 7
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


[[ مُقـتـطف من كتاب جديد لِـ: رحمان النوضة، "نقد تعاون اليساريين مع الإسلاميين" ]]

.
- نَـقْد تحديد التَنَاقُضَات الطبقية الذي طَرَحَه الرفيق الحَريف:
يمارس أحيانًا بعض مناضلي اليسار النقاش السياسي، أو الصراع الفكري، بأساليب يمكن وصفها بأنها ضَاغِطَة، أو مُفْرِطَة في الحَماس. وكمثال على ذلك، كتب الرفيق عبد الله الحريف: «هل ستتحقق الديمقراطية والعلمانية بمجرد أننا نطمح إليهما؟ هل رغباتنا هي التي ستغيّر الواقع أم أن تغيير ميزان القوى هو الذي سيغيره؟ وكيف نغير ميزان القوى؟ هل بمواجهة المَخْزَن والقوى الأصولية في نفس الوقت؟ هل اليسار قادر على خوض هذه المعركة وربحها؟ هل تناقضنا الأساسي، الآن وهنا، هو مع المَخْزَن أم مع القوى [الإسلامية] الأصولية؟ إن من يضع التناقض الأساسي الحالي مع المخزن في نفس مستوى التناقض مستـقبلا مع القوى [الإسلامية] الأصولية هو في الواقع يعتبر أن التناقض الأساسي هو مع القوى [الإسلامية] الأصولية، وليس مع المخزن، وهو بالتالي، رغم إدعائه الدفاع عن الديمقراطية والعلمانية، يكرس الإستبداد المخزني والحكم الفردي المطلق». وهذا الأسلوب في النقاش غير سليم. لأن كاتبه يُلَمِّحُ إلى مَخَاطِرَ مُبْهَمَة لتخويف القارئ، دون أن يكون تفكير الكاتب دَقِيقًا، ومُعمّقًا. ويُشِيرُ الحريف إلى أن «تحقيق الديمقراطية والعلمانية» يتطلّب «تغيير ميزان القوى»، والذي يستوجب هو نفسه التحالف مع «القوى [الإسلامية] الأصولية»، نظرًا لِكَمِّهَا العددي، وليس لِكَيْفِهَا السياسي. ومن لَا يتّـفـق على هذه الأطروحة «يُكَرِّسُ الاستبداد المَخْزَنِي». وهذا أسلوب في النقاش ضَاغِط، وغير مُعَمَّق. وينسى الرفيق الحريف وجود نُـقطة ضُعف ضَخمة في تفكيره. وهي أنه يريد إسقاط المَخْزَن، عبر تحالف "حزب النهج" مع "حزب العدل والإحسان"، وينسى "حزب النهج" أنه يعجز منذ سنوات على التَفَاهُم مع ثلاثة أحزاب يسارية هي أقرب إليه، وبكثير، بالمقارنة مع "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي. ويَدُلُّ سُلُوك "حزب النهج"، خلال هذه السنوات الماضية الطويلة، على أنه يعتـقد ضِمْنِيًّا أن «تناقضاته» مع أحزاب اليسار الثلاثة غير قابلة لأي حَلٍّ، بينما تَـقَارُبُه، أو تحالفه، مع "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي، يظهر سَهْلًا، كأنه لَا تُوجد فيه، لَا صعوبات، ولَا خِلَافَات، ولَا تَناقضات. فَكَيْفَ يمكن لِي أن أتّـفِقَ مع الحريف؟ كيف يمكنني أن أصدّق أن "حزب النهج"، الذي يعجز على التفاهم، وعلى التنسيق، مع ثلاثة أحزاب يسارية، كيف يمكنه أن يقدر على التفاهم، أو على التحالف، مع حزب إسلامي أصولي؟ وكيف سيكون "حزب النهج" في حالة تحالفه مع "حزب العدل والإحسان"؟ هل سيكون مُسَاوِيًّا له، أم أنه سيكون ضعيفًا، أو تَابِعًا له؟ وما الذي يضمن بأن يظلّ "حزب النهج" مُسَاوِيًّا لِـ "حزب العدل والإحسان"، في تحالفه معه؟ وكيف يمكن لِحزبين «ضَعِيفَين»، أو «مُتَنَاقِضَيْن»، هما "حزب النهج" و"حزب العدل والإحسان"، أن يقدرَا بوحدهما على إسقاط النظام السياسي القائم؟ وكيف يمكن لِي أن أقبل هذا المَشْهَد السياسي السِّرْيَالِي (surrealistic)؟ وبما أنني أُخَالِفُ الحريف في الرّأي، فإنني، حسب رأيه، «أُكَرِّسُ الاستبداد المخزني والحكم الفردي المطلق»!
وكيف يُعقل أن أتفق مع الحريف على أن «تحقيق الديمقراطية والعِلْمَانِيَة»، لَا يمكن أن يتم إلّا عبر الابتعاد عن أحزاب اليسار الثلاثة، وعبر التحالف مع "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي؟ ومتى كان "حزب العدل والإحسان" الإسلامي يَتَبَنَّى «الديمقراطية والعلمانية»؟ وهل يَنْكُرُ الحريف أن مُجمل كتب عبد السلام ياسين، زعيم "حزب العدل والإحسان" الإسلامي، هي مُرَافَعَة ضِدَّ «الديموقراطية»، وضِدَّ «حُقوق الإنسان»، وضدّ «العِلْمَانِيَة»، وضِدَّ «الاشتراكية»؟ وهل يمكن حقًّا لِـ "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي أن يُحقّق مَعَنَا «الديمقراطية والعلمانية» (مثلما يزعم الحريف)، بينما يُفْتَرَضُ في أحزاب اليسار الثلاثة أنها تَعْجِزُ عن ذلك؟ فكأن الحريف يريد منّا أن نفكر بِمَنْطِق مَقْلُوب على رأسه: الحزب الإسلامي الأصولي يقدر على المشاركة في تحقيق «الديمقراطية والعلمانية»، بينما الأحزاب اليسارية الثلاثة تعجز عن ذلك! ولا يمكن أن نفهم منطق عبد الله الحريف، المقلوب على رأسه، إلّا إذا قَبِلْنَا بِأن "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي هو أكثر «تَـقَدُّمِيَةً»، وأكثر «نِضَالِيَةً»، وأكثر «ثَوْرِيَةً»، من أحزاب اليسار الثلاثة! الشيء الذي لم يُصَرِّحْ به بَعْدُ عَلَنِيًّا حتّى "حزب النهج" هو نفسه. وإذا كان "حزب النهج" يعتبر حَقًّا أن "حزب العدل والإحسان" هو أكثر «نِضَاليَةً»، وأكثر «ثوريةً»، من كلّ أحزاب اليسار الثلاثة، فَلْيُـثْـبِت لنا ذلك! وإذا كان صحيحًا وُجُود نقط ضُعف كثيرة لدى أحزاب اليسار الثلاثة (وكذلك لدى "حزب النهج")، فإنه لَا يوجد على أرض الواقع، في مجال المبادرة إلى إطلاق النضالات الجماهيرية الحاشدة، أو في مجال المشاركة الفَعَّالَة فيها، ما يُثْبِتُ أن "حزب العدل والإحسان" هو حزب «تَـقَدُّمِي»، أو «ثَوْرِي».
فَلَا يمكن أن نفهم دفاع "حزب النهج" على ضرورة التعاون، أو التحالف، مع "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي، إلَّا إذا أَدْرَكْنَا أن "حزب النهج" يَعتبر أن "حزب العدل والإحسان" الإسلامي يَـفُوقُ بكثير أحزاب اليسار الثلاثة، في مجالات التَقَدُّمِيَة، والنِضَال، والدِيمُوقْرَاطِيَة، والثَوْرِيَة، والجَذْرِيَة، والتَحَرُّر، وخِدْمَة الجماهير الشعبية. كما يَعتبر "حزب النهج" أنه يمكن أن يَتِـقَ في تَحَالُفِه مع "حزب العدل والإحسان" أكثر من ثِـقَتِه في أحزاب اليسار الثلاثة. وإذا كان هذا هو فعلًا إِيمان "حزب النهج"، فنطلب منه أن يقدّم لنا الحُجَج العقلانية والملموسة التي تُثْبِتُ مَزَاعِمَه. لأنه من جانبنا، لم نُلاحظ، على أرض الواقع، ما يُؤَكِّدُ مزاعم "حزب النهج". بل ما لاحظناه في كل البلدان المُسْلِمَة (من إِنْدُونِيسْيَا إلى مُورِيتَانْيَا، بما فيها المغرب)، هو أن كل القوى الإسلامية الأصولية، هي في جوهرها، يَمِينِيَة، ومُحَافِظَة، ورجعية. (وَأَتَلَافَى هنا نقاش الحالة الخاصة جدًّا لِـ «حزب الله» في لبنان، الذي هو حزب، أو مِيلِيشْيَة، لِطَائِفَة شِيعِيَة، مدعُومة من طرف دولة قوية هي إيران). وما يُغَلِّط "حزب النهج"، في مجال تقديره لِـ "حزب العدل والإحسان"، هو كون "حزب العدل والإحسان" يُعارض النظام السياسي المَخْزَنِي القائم في المغرب، ويُعارض شِعَار «الملكية البرلمانية». لكن الحريف يَنسى أن مُنْطَلَق هذه المُعارضة (لدى "حزب العدل والإحسان")، ليس هو الرّغبة في إقامة «الديموقراطية»، وإنما هو الرغبة في «أَسْلَمَة الدولة» (islamisation de l Etat)، و«أَسْلَمَة المُجتمع»، وإقامة «دولة الخِلَافَة الإسلامية»، وفرض «الشَّرِيعَة الإسلامية» المُتخلّفة، وفرض تَكْرِيسِ حياة المواطنين لِلْعِبَادَة فقط. فَأُسُـسُ «مُعارضة النظام السياسي المَخْزَنِي» لدى "حزب العدل والإحسان" هي أُسًـسٌ رِجْعِيَة، وليست أُسُـسٌ دِيموقراطية. وهذا هو ما يَنْسَاهُ، أو يَتَنَاسَاهُ، "حزب النهج".
وَلَوْ سألنا "حزب النهج" عن إمكانية تَعَاوُنِه، أو تَحَالُفِه، مع "حزب الاتحاد الاشتراكي"، و"حزب التقدّم والاشتراكية"، فالاحتمال الأكبر هو أن جَوَاب "حزب النهج" سيكون هو رَفْضُ أيّ تعامل مع هذين الحزبين، وذلك بِدَعْوَى أنهما لَا يُعارضان النظام السياسي القائم. وما ينساه "حزب النهج" هو أنه، إذا كان حَالِيًّا "حزب الاتحاد الاشتراكي"، و"حزب التقدّم والاشتراكية"، حزبان اِنْتِهَازِيَّان، ويَمِنِيَّان، ومُحافظان، فإنهما لَيْسَا رِجْعِيَّان. بينما "حزب العدل والإحسان"، وَرَغْمَ أنه يُعارض النظام السياسي القائم (من مُنْطَلَقَات إسلامية أصولية)، فإنه يبقى حزبا رِجْعِيًّا.
وفي مجال تحديد التناقضات وتَرْتِيبِ أَوْلَوِيَّاتها، كتب الحريف ما معناه أن: «تناقضنا الأساسي، الآن وهنا، هو مع المخزن، وليس مع القوى [الإسلامية] الأصولية». وهذا التصريح خاطئ ومرفوض. فكيف يُعقل أن نقول عن أحزاب سياسية إسلامية أُصُولية، يتلخّص مشروعها المُجتمعي في فَرْضِ «أَسْلَمَة المُجتمع»، وفَرْضِ «أَسْلَمَة الدولة»، وفَرْض «نظام الخِلَافَة الإسلامية»، وفَرْض «الشَّرِيعَة الإِسْلَامِيَة» المتخلّفة، كيف يُعقل أن نقول عن هذه الأحزاب أن «تناقضنا معها ليس أساسيًا»؟ وهل يختلف "حزب العدل والإحسان" عن باقي الأحزاب الإسلامية الأصولية في بلدان المَشْرِق؟ أَلَا تُريد مُجمل التنظيمات الإسلامية الأصولية، إِنْ هِيَ نَجَحَت في السيطرة على السلطة السياسية، أن تُجْبِرَ المواطنين على تَكْرِيسِ حياتهم كلّها لِلْعِبَادَة؟ وإذا كان "حزب العدل والإحسان" سَيَتَحَوَّلُ إلى تنظيم «وَهَّابِي» أو «طَالِبَانِي»، أو «دَاعِشِي»، حينما سيصبح حَاكِمًا، أو مُهَيْمِنًا، فإنني أفضِّل عليه النظام السياسي المَخْزَنِي الحالي القائم في المغرب، رغم ما فيه من استبداد وفساد. وهل حقيقةً أن هذا الحزب الإسلامي الأصولي هو أقلّ «اسْتِبْدَادًا»، وأقلّ «اضْطِهَادًا»، من النظام السياسي القائم حاليا في المغرب؟
يمكن لِي شخصيًا أن أُجَازِفَ، وأن أُوَافِقَ، على أن المسؤولين في "حزب العدل والإحسان"، الذين تَحَاوَرُوا مع عبد الله الحريف، أنهم أشخاص «مُؤَدَّبُون»، و«ظَريفُون»، و«مُتَخَلِّقُون»، وأنهم «لَا يُعَادُون اليسار»، إلى آخره، ولو أنني لَا أعرفهم. لكن ما يهمّني أكثر كَمُنَاضِل، ليس هو ظَاهِرُهُم، أو خِطَابهم الرّسمي، وإنما هو مشروعهم المُجتمعي، وخُطَطُهم السياسية الخَفِيَة، واستراتيجيتهم العَمَلِيَة، إلى آخره. وإذا كان الرفيق الحريف واثق من كلامه، وإذا كان مُحَاوِرُو عبد الله الحريف صَادِقِين في مَا زَعَمُوهُ، نَطْلُب منهم أن يُسَجِّلُوا في بَيَانَاتِهم الرّسمية، وفي قوانينهم التنظيمية الداخلية، أنهم يَلْتَزِمُون بِـمبادئ: «الديمقراطية»، و«حقوق الأنسان»، و«مَنْع التَكْفِير»، و«فَصْلُ الدِّين عن الدلة»، و«فصل الدين عن السياسة»، و«حُرِّيَة العِبَادَة»، و«حرّية عدم العِبَادَة»، و«تَسْوِيَةُ الأُنْثَى بِالمُذَكَّر»، و«مُعارضة الرأسمالية المتوحِّشة». وبما أن أعضاء "حزب العدل والإحسان" الإسلامي مَا زالوا يرفضون الالتزام بهذه المبادئ الواضحة، فَرَفْضُهُم هذا يُثْبِتُ أن مشروعهم الخَفِيّ هو فرض «الشَّرِيعَة الإسلامية» المُتخلّفة، وإقامة «الدولة الإسلامية الوَهَّابِيَة»، أو «الدَّوْلَة الإسلامية الدَّاعِشِيَة» الاستبدادية. ويؤكّد رفضهم هذا أن التناقض معهم رَئِيسِيٌّ، وليس ثانويًّا. وسيكون، في هذه الحالة، التَـقَرُّب منهم مرفوضًا. وسنعتبر، في هذه الحالة، أن "حزب العدل والإحسان" (ومن شابهه) أنه أخطر من النظام السياسي القائم حاليا بالمغرب. وسنـقول، في هذه الحالة، عن "حزب النهج"، أنه فَقَدَ عَـقْلَهُ، أو أنه يعمل بمنطق مقلوب على رأسه.
وحتّى في حالة إذا مَا أصدر "حزب العدل والإحسان" بيانات رسمية، يلتزم فيها باحترام تلك المبادئ الديموقراطية كما هي مُعترف بها عَالميًّا، فإننا لن نَـتِـقَ في وعوده، وسَنُرَاقِبُ بِدِقَّة مُمَارَسَاته. لأن التجارب الحَاصِلَة في الكثير من البلدان المُسلمة علّمتنا أن الإسلاميين الأصوليين يُفكّرون بمنهج دِينِي مُـقَدَّس، ويُغَيِّرُون مواقفهم السياسية بشكل مُفَاجِئ، وغير مَبْدَئِي، وغير عَقْلَانِي. ويُنتجون بسهولة «الفَتَاوَى» اللّازمة لتَبرير تبديل مواقفهم السياسية. ولَا يُحْرِجُهُم نِهائيًّا أن يظهروا أمام الشعب غَيْرَ مُستـقرّين في مواقفهم السياسية. لأن ما يهمّهم أكثر، هو ثَبَاتُهم في مُعتقداتهم الدِّينية. ولأنهم يعتبرون أن الدِّين هو الذي يُحَدِّدُ السياسة ويحكم فيها. وزِيَادة على ذلك، يمكن أن تُوجد تَـفَاوُتَات هامَّة في مناهج التفكير بين قيادات التنظيمات الإسلامية وقواعدها. حيث أن ما تلتزم به القيادات، لا تلتزم به بالضرورة القواعد. كما بِالإِمكان أن تنـقسم بعض التنظيمات الإسلامية الأصولية إلى عدّة أَجْهِزَة، أو قوى مُتَبَايِنَة، فَـتَتَبَرَّأُ من الالتزامات السابقة لِتنظيمها الأصلي.
ويعتـقد الرفيق الحريف (وكذلك حزب النهج) أن "حزب العدل والإحسان" الإسلامي الأصولي سيظلّ يعارض النظام السياسي المَخْزَنِي. وأنه في حالة حدوث سقوط هذا النظام في المُستقبل، فإن "حزب العدل والإحسان" سَيَلْتَزِمُ بِـ «النقاش الديموقراطي» مع كل قوى التقدّمية والثورية التي ساهمت في إسقاط هذا النظام، كما أنه سيلتزم بما تُريدُهُ مجمل هذه القوى الثورية. وإن وُجِدَ مثل هذا التصوّر، فسيكون مِثَالِيًّا. لأنه يَتَنَبَّأُ بِالغَيْبِ، ويَنْبَنِي على وُعُود زَائِلَة. ولا يُوجد في تاريخ الأحزاب الإسلامية الأصولية ما يُؤَكِّدُه. (رَاجِعْ التَـقَلُّبَات في المواقف السياسية لدى «الإخوان المسلمين»، ولدى تنظيمات إسلامية أصولية أخرى، في بُلدان المَشرق).
لِنَـفْحَصْ الآن طريقة تفكير الرفيق الحريف: يطرح الحريف، ومنذ البداية، أن التناقض الرئيسي في المُجتمع هو مع النظام السياسي المَخْزَنِي القائم. وبعد طرحه هذا، وبما أنه يُوجد تناقض رئيسي واحد، وليس اثنان أو أكثر، لَا يبقى من احتمال مُمكن في تَـفكير عبد الله الحريف سِوَى أن التناقض مع الإسلاميين الأصوليين هو بالضرورة تناقض ثانوي، أو مُؤَجَّل، أو غير موجود في المرحلة التاريخية الرّاهنة. ويَسْتَنْتِجُ فَوْرًا هذا التفكير إمكانية التَعَايُش السِّلمي بين اليساريين والإسلاميين الأصوليين، بل وَحَتَّى التعاون، أو التحالف معهم. لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بإمكانية الإطاحة بنظام سياسي مَخْزَنِي، وتعويضه بِمَن هو أحسن منه، عبر التحالف مع تنظيمات إسلامية أصولية، والتي هي أكثر رِجْعِيَّةً من هذا النظام المَخْزَنِي! وإذا نحن اِنْطَلَقْنَا من الواقع الملموس، سنجد أن خطر الأيديولوجية الإسلامية الأصولية هو خطر آنِي، وحَاضِر، ودَاهِم، واستراتيجي. خاصّةً وأننا نرى جميعًا اليومَ (عبر التَلْفَزَات مباشرةً)، في كلّ البلدان المُسلمة التي تَـقَوَّت فيها تنظيمات إسلامية أصولية، أن هذه التنظيمات الإسلامية تَلْجَأُ دَائِمًا، وفي آخر المَطَاف، إلى إِشْعَال حرب أهلية شَامِلَة، بهدف فرض «الشريعة الإسلامية» المُتَخَلِّفَة، ثمّ تُخَرِّب مُعْظَم البِنْيَات التَحْتِيَة، في قُرابة ثلاثة أشهُر، بينما تَطَلَّبَ تَشْيِيدُ تلك البِنْيَات التحتية قُرَابَة السِتِّين سنة الماضية. وإذا كانت هذه الأيديولوجية الإسلامية الأصولية تبتدئ دائمًا «مُعْتَدِلَة»، ثمّ تتحوّل إلى أَيْدِيُولُوجِيَة عُدْوَانِيَة، أو عَنِيفَة، أو «وَهَّابِيَة»، أو «دَاعِشِيَة»، فإن تعقيد هذا التحوّل لَا يُثْنِينَا عن إدراك خطورة هذه الأيديولوجية. لذلك نقول، إن تناقضنا (الفكري، والسياسي) مع القوى الإسلامية الأصولية هو أيضًا تناقض رئيسي، ولَا نـقبل أبدًا تأجيل صراعنا الفكري والسِّلْمي معه. بل يجب منذ الآن، وبدون أيّ تأخير، وبدون أيّ تهاون، محاربة الأيديولوجية الإسلامية الأصولية. وهزم هذه الأيديولوجية الإسلامية الأصولية، لَا يَـتِـمُّ عبر العُنف، أو عبر قتل من يحملها، وإنما يَتَحَـقَّـق عبر النَّـقْدِ السِّلًمِي لهذه الأَيْدِيُولُوجِيَة الإسلامية الأصولية، وعبر الاجتهاد بهدف تحرير جماهير الشعب من تأثيرها الرِّجْعِي، ومُساعدة الجماهير الكادحة على اسْتِيعَاب الفكر التـقدّمي، على أساس العَـقْل، والعَدْل، والديمقراطية، وحقوق الانسان، وحُرِّية العَقِيدَة، والطموح إلى التحرّر من التَخَلُّف، ومن التَبَعِيَة للإمبريالية، والتحرّر من الاستغلال الرأسمالي، وتشييد الاشتراكية المُعَوْلَمَة.
والخطأ في تفكير الرفيق الحريف، هو أنه يَنْسَى أن تحديد التناقض الرئيسي في مجال الصراع فيما بين طبقات المُجتمع (في مُجْتَمَع، وَفي زَمَان، مُحَدَّدَين)، لَا يتطابق بالضرورة مع تحديد التناقض الرئيسي في مجال الصراع الفكري، أو في مجال الصراع السياسي، أو في المجال الثقافي، إلى آخره. فكل مجال نَوْعِي له تناقضه الرئيسي، وله تناقضاته الثانوية، الخاصّة به.
ولا تُوجد الديمقراطية حاليا في مُجتمعنا. كما لَا يوجد في بلادنا سِلْم رَاسِخ. وإنما يُوجد فيها سِلمٌ نِسْبِيٌّ، بل هَشّ. لأن تَـثْـبِيت السِّلم في المجتمع يتطلّب إنجاز ِديموقراطية مُتَكَامِلَة، بِمَضَامِينِهَا السياسية، والاقتصادية، والجِهَوِيَة، والثـقافية، والدِّينِيَة. فَلَا يمكن ترسيخ السِّلم في المجتمع، سِوَى عبر النضال الحازم والمُتَوَاصِل من أجل إِنْجَاز وتَـثْـبِيت الديموقراطية. وما دامت القوى الإسلامية الأصولية تُصِرُّ على فرض «الشريعة الإسلامية» المُتخلّفة، وما دامت ترفض «مَنْع التَكْفِير»، و«حرّية العِبَادة»، و«حرّية عدم العبادة»، و«فصل الدِّين عن الدولة»، و«فصل الدِّين عن السياسة»، و«المُساواة بين الأُنْثَى والمُذَكَّر»، و«مُعَارَضَة الرأسمالية المُتَوَحِّشَة»، فَمَعْنَى ذلك هو أن هذه القوى الإسلامية تُعَادِي «الديموقراطية»، وتُحَطِّم أُسُـسَ السِّلْم في المجتمع، وتُهَيِّئ، بِوَعْيٍ أم بِغَيْر وَعْي، شُرُوطَ الحرب الأهلية المُخَرِّبة. فكيف يُعقل قَبُول «تحالف» قِوى اليسار مع هذه القوى الإسلامية الأصولية، بينما هي تُـعَادِي «الدّيموقراطية»؟
وتساءل الحريف: «كيف نغير ميزان القوى؟ هل بمواجهة المخزن والقوى الأصولية في نفس الوقت»؟ ويفترض الحريف أن هذه المواجهة المزدوجة مُستحيلة. بينما أنا أعتبرها ممكنة، بل ضرورية، ولو أن مواجهة النظام "المَخْزَنِي" تختلف كَيْفِيًّا عن مُواجهة الإسلاميين الأصوليين. ومشكلتي هي أنني أرى حاليا، وعلى خلاف الحريف، أن قوى اليسار بالمغرب، وبما فيها "حزب النهج"، لَا تُواجه بما فيه الكفاية، لَا "المَخْزَن"، ولَا قوى الإسلام الأصولي. وقوى اليسار (بما فيها حزب النهج)، غير مؤهّلة بما فيه الكِفَايَة لتغيير «ميزان القوى» في مجال مُكافحة "المَخْزَن". وأن الأساليب النضالية لقوى اليسار تحتاج إلى مراجعات، وإلى نقد، وإلى ابتكار، وإلى تَـقْوِيمَات عَمِيقَة، وإلى عمليات تَثْوِير مُتعدّدة (أنظر كتابي: "نقد أحزاب اليسار بالمغرب". وأنظر مقالي: "مَا هي الدِّينَامِيَة القادرة على تَـقْوِيم قوى اليسار؟"، (الصيغة 5)، ويُمكن تَحْمِيل هذه الوثائق من المدوّنة: https://LivresChauds.Wordpress.Com).
ويتصوّر الحريف أن سبيل الثورة الأحسن هو هزم المَخْزَن أوّلًا، عبر تحالف اليسار مع قوى الإسلام الأصولي، ثم هزم الإسلام الأصولي ثانيا. وقد نَسِيَ الحريف أن «مَا يُوجَد في رأس الجَمَل، يوجد أيضًا في رأس الجَمَّالة». ونسي الحريف احتمال أن يُفَكِّرَ "حزب العدل والإحسان" بِخُطَّة مُشابهة: أَيْ هَزْمُ المَخْزَن أَوَّلًا، عبر التعاون مع اليسار، ثم اسْتِئْصَال اليسار من المُجتمع. [وذلك هو مَا حدثَ بشكل ادْرَامِي، مثلًا خلال الثورة المُسَمَّاة بِـ "الثورة الخُمَيْنِيَة" في إِيرَان، في سنة 1979. فَقَد تَعَاوَنَ، أو تَحَالَفَ، اليسار الثوري مع "رجال الدِّين" الشِّيعَة. وعملوا جميعًا تحت قيادة الفَـقِيه الزعيم "مُوسَوِي خُمَيْنِي". وخرج الشعبُ في مظاهرات عارمة ومُتَوَاصِلَة. وَبَعْدَمَا أَسْقَطَ الشعبُ نظامَ الشَّاهِ "رِضَا بَهْلَوِي" في إِيرَان، قَامَ الإِكْلِيرُوس (أي تنظيم رجال الدِّين) الشِّيعِي، وأنصار الزعيم الدِّيني "مُوسَوِي خُمَيْنِي"، قَامُوا بالاستيلاء على الدولة، وانْـفَرَدُوا بِالسُّلطة السياسية. وانْـقَلَبُوا فَوْرًا ضدّ حُلَفَائِهِم القُدَامَى. وَقَامُوا بِمُحَارَبة، وقتل، واسْتِئْصَال، كُلِّ التَنْظِيمَات الثورية والاشتراكية، وأبرزها تنظيمات "تُودَا"، و"مُجَاهِدِي خَلْقْ" الاشتراكيين. فَلِمَاذَا يجرّنا "حزب النهج" إلى نِسْيَان هذا الدّرس التاريخي المُؤْلِم؟].
ويَدْعُونَا "حزب النهج" إلى «التَعَاوُن»، أو «التحالف»، مع الإسلاميين الأصوليين، بهدف «إسقاط المَخْزَن». بينما المطلوب هو ضرورة فضح، ونـقد، وإضعاف، وعزل، مجمل التيارات والتنظيمات الإسلامية الأصولية، قبل إسقاط نِظَام المَخْزَن. وإذا كانت لَدَيْنَا إمكانية الاختيار، يجب أن نَتَلَافَى إسقاط نظام المَخْزَن ما دامت القوى الإسلامية الأصولية مُهَيْمِنَة على عقول أغلبية الجماهير الشعبية. وإلَّا، فَبِمُجَرَّد سُقُوط نظام "المَخْزَن"، فإن هذه القوى الإسلامية الأصولية سَتَسْعَى فَوْرًا إلى فرض غَلَبَتِهَا، ليس فقط في "الانتخابات" التَمْثِيلِيَة العَامَّة، ولكن في كلّ المَيَادِين. كما ستـفرض هَيْمَنَتِهَا على السّلطة السياسية، وعلى الدّولة، وعلى المُجتمع. وسَتُعَجِّل بِـ «أَسْلَمَة الدولة»، و«أَسْلَمَة المُجتمع»، وستـفرض «الشريعة الإسلامية» المُتخلّفة، وِسَتُدَمِّر قوى اليسار بِدَعْوَى أنها «تُعَارِضُ إِرَادَة الله». ثمّ سَتُـقِيم «الدولة الدَّاعِشِيَة» الحَمقاء.
إن من يطلب من اليسار بالمغرب أن يتعاون مع الإسلاميين الأصوليين ضِدّ "المَخْزَن"، كَمَنْ يطلب مِنه أن يُتَحَالَف مع تنظيم «دَاعِشْ» ضدّ نظام حافظ الأسد في سُورية. أو كَمَن يدعُوه إلى تِكْرَار ما وقع في مصر، حيث تـعاونت الحركات الثورية الجماهيرية مع "الإخوان المُسلمين" ضد نظام حُسني مُبارك؛ ثم سيطر "الإخوان المُسلمون" على الثورة، ثم فرضوا دِكْتَاتُورِيَتَهم؛ ثم اِنْقَلَبُ الجيشُ أَوَّلًا ضد "الإخوان المسلمين"، ولَاحِـقًا ضدّ كلّ الحركات الجماهيرية الثورية. فَسَحَقَهُمَا مَعًا. وإذا كُنَّا نعرف أنه، مباشرة بعد سُقوط "المَخْزَن" (في المستقبل)، ستدخل القوى الإسلامية الأصولية في صراع تَنَاحُرِي حول السلطة السياسية، بهدف هزم قوى اليسار، أو تهميشها، أو حتى تَصْفِيَتِها، أو اِسْتِئْصَالِهَا، وإذا كُنَّا نعرف أن هذه القوى الإسلامية ستكون أكثر عُدْوَانِيَة وَشَرَاسَة من النظام السياسي الحالي (بسبب اِشْتِغَالِهَا بالمُقَدَّس)، فَـلَن يَكُون مَنْصُوحًا به، في هذه الحالة، تعاون اليسار مع الإسلاميين لإسقاط "المَخْزَن". بل سيكون أكثر حِنْكَةً أن يتخلّص اليسار من مُهَادَنَة الإسلاميين، وأن يعمل، منذ الآن، على نـقد وكَنْس تأثير الأيديولوجية الإسلامية الأصولية، بهدف الإِسْرَاع بِتَحرير أكبر قدر ممكن من الجماهير الشعبية من هَيْمَنَة هذه الأيديولوجية الإسلامية الأصولية المُسْتَلَبَة والرِّجعية. وإذا كان الحريف يؤمن بضرورة التَعَايِش مع الإسلاميين الأصوليين، وإذا كان الحريف يعتبر أن التَعَاوُن معهم يُوجب مُهَادَنَة أَيْدِيُولُوجِيَتَهُم الإسلامية الأصولية، فإن هذه المُهادنة ستكون اسْتِسْلَامًا مُسْبَقًا للقوى الإسلامية الأصولية، على المُسْتَوَيَين الفكري والسياسي.
.
- أَهَمِّيَة التناقض بين الفكر الديموقراطي والفكر الإسلامي الأصولي:
تُوجد في مُجتمعنا الحالي تناقضات متنوّعة ومتعدّدة. ويُوجد مثلًا: التناقض بين جماهير الشعب المُضْطَهَدَة، والنظام السياسي المَخْزَنِي القائم. ويُوجد التناقض بين الشعب والإمبريالية. ويُوجد التناقض بين طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار من جهة، ومن جهة أخرى طبقة المُسْتَغَلِّين، وطبقة الذين لَا يَسْتَغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون (بما فيهم من عُمّال، وفلاحين فقراء، وحرفيين، وتُجَّار صغرا، وعاطلين، ومُهَمَّشِين، إلى آخره). هذا على المُستوى التناقضات فيما بين الطبقات.
أَمَّا إذا فَحَصْنَا التناقضات على مستوى فضاء الفكر، أو عَالم الثـقافة، أو الأَيْدِيُولُوجِيَات، في المُجتمع، فَسَنَجِدُ أن التناقض بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي الأصولي هو تناقض رئيسي. وهذا التناقض بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي الأصولي هو أقوى، وأخطر، بالمقارنة مع التناقض بين الفكر اليساري وفكر طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار (grande bourgeoisie) الرأسمالية السائدة. وهذا التناقض الرئيسي بين الفكر اليساري والفكر الإسلامي الأصولي هو الذي يُسَيْطِرُ حاليا على فضاء الفكر، والثقافة، في مُجتمعنا.
وإذا كان التناقض الرئيسي في المُجتمع، هو التناقض بين عامّة الشعب والنظام السياسي القائم، فإن هذا الطَّرْح لَا يعني أن التناقض بين الفكر الديموقراطي من جهة، ومن جهة أخرى الفكر السياسي المُحافظ، المُغَلَّف بالدِّين الإسلامي الأصولي، هو «تناقض ثانوي» (كما كتب الحريف)، أو أنه يمكن تأجيل مُعالجة هذا التناقض إلى ما بعد إسقاط النظام السياسي القائم. بل العكس هو الصّحيح. حيث يستحيل هزم النظام السياسي القائم بدون هزم الفكر السياسي الرجعي المُغَلَّف بالدّين الإسلامي الأصولي.
وفي المجال السياسي، لَا يمكننا أن نَسْتَخِـفَّ بِوَزْن التناقض القائم بين، من جهة أولى، الفكر التَـقَدُّمِي، أو العقلاني، أو الاشتراكي، ومن جهة ثانية الفكر المُحافظ، أو اليميني، أو الإسلامي الأصولي، أو الرَّأْسَمَالِي. ويمكن لهذا التناقض فيما بين الأفكار، أن يَخْتَرِقَ كلّ طبقات المُجتمع، بما فيها طبقة المُسْتَغَـلِّين، وطبقة الذين لَا يستغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون، إلى آخره. ودور المُـثَـقَّـفِين، حَيْثُمَا وُجِدُوا، هو تَغْلِيب الفكر التـقدّمي على الفكر المُحافظ، وتَغْلِيب الفِكر الثَّوري على الفِكر الرِّجْعِي.
لَقَد عاش جِيلُنَا، منذ استقلال البلاد عن الاستعمار (في سنة 1956) إلى اليوم، مرحلة انتقال مُجتمعنا من «شبه الاقطاعية»، إلى «رأسمالية تَبَعِيَة للإمبريالية». ومَا زالت الرأسمالية مُعَوَّقَة في مجتمعنا. وتعجز هذه الرأسمالية التَبَعِيَة عن استكمال نُمُوِّهَا. كما أن بَـقَايَا "شِبْه الاِقْطَاعِيَة" ما زالت موجودة في مُجتمعنا، خاصّة في مجالات التَـقَاليد، والمعتقدات، والثـقافة، والفكر، والأيديولوجيات، والفنون. وفي الماضي القريب، في مُجتمعنا "شبه الإقطاعي"، ظلّ الفكر الثوري، أو اليساري، في مرتبة ثانوية. بينما كان، ومَا زَال، الفكر الإسلامي الأصولي في مرتبة مُهيمنة على المُجتمع. ولماذا؟ لأن التعليم العُمومي أُسْتُعْمِلَ كَأَدَاة لِلصِّرَاع الطبقي، ولأن طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار التَبَعِيَة للإمبريالية تعجز عن تنمية الرأسمالية. ولأن البنيات التحتية في المُجتمع ما زالت متخلّفة. ولأن الجَهل المُقَدَّس ما زال يُسيطر على الأغلبية الكبرى من سكان البلاد. ولأن طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار أرادت أن تُحَوِّل التعليم العمومي إلى مَشْتَل لتخريج تِـقْنِيِّين وعمال طَيِّعِين، لكنها فشلت في ذلك، فأهملت التعليم العمومي. وانتهز هذه الفرصةَ المعلّمون والأساتذة ذوي المُيُول الإسلامية الأصولية، فحوّلوا التعليم العُمومي إلى مَشْتَل لتكوين أجيال من الخِرِّيجين الإسلاميين الأصوليين. وتَعَرَّضَ التعليم العُمومي لِلتَّحْرِيف، ولِلْإِعَاقَة، ولِلتَّخْرِيب. ولا يمكن حاليا، في مُجتمعنا شبه الرأسمالي، أن نخوض، أو أن نُنْجِحَ، «الثورة الوطنية الديموقراطية الشعبية» إذا لم يَهْزِم الفكرُ الديموقراطيُ، أو اليساريُ، الفكرَ الإسلاميَ الأصوليَ.
إن التناقض بين اليسار والقوى الإسلامية، هو مظهر من بين مظاهر التناقض بين طبقة المُسْتَـغَـلِّين (البروليتاريا) من جهة، ومن جهة أخرى خليط من فِئَات الفلاحين الصِّغار، والمتوسِّطين، وفئات من الجماهير المَدِينِيَة المُرتبطة بالبادية، أو المُرْتَبِطَة بالأنشطة الفلاحية البِدَائِيَة، أو بالعَـقْلِيَة البَدَوِيَة، أو بِـبَـقَايَا نمط الإنتاج الإقطاعي. وارْتِبَاط هذه الفِئَات الأخيرة بِـبَـقَايَا المُجتمع الاقطاعي (أو الفِيُودَالِي) هو الذي يجعلها تَـتَـعَـلَّـقُ بِالفِكر الإسلامي الأصولي. وهذا التناقض بين اليسار والحركات الإسلامية الأصولية، هو امتداد للتناقض بين المُجتمع الرأسمالي الصَّاعِد، والمُجتمع شبه الاِقْطَاعِي الـآيِـل لِـلْاِنْـدِثَار. ويمكن أن نجد في التناقض بين اليسار والقوى الإسلامية الأصولية امْتِدَادًا للتناقض بين البرجوازية الرّأسمالية (أو اللِّيبِيرَالِيَة) الصَّاعِدَة، ومَلَّاكِي الأراضي شبه الاقْطَاعِيِّين، والبرجوازية الصغيرة في المناطق القَرَوِيَة، أو المرتبطة بنمط العَيْش البَدَوِي.
والتناقض بين اليساريين والإسلاميين الأصوليين هو نوع من التَجْسِيد لِلتَنَاقُض بين الفكر العقلاني التقدّمي، والفكر المِيتَافِيزِيـقِي، أو الخُرَافِي، أو الرِّجْعِي. وكُلَّمَا دخل اليسار في مُهَادَنَة الفكر الإسلامي الأصولي، فإن هذه المُهادنة سَتُؤَدِّي إلى تراجع الفكر العقلاني، أو التقدّمي. وكلّ تراجع للفكر العقلاني، أو التقدّمي، سَيكون تَعْبِيرًا عن تراجع القِوَى العقلانية، أو التقدّمية، في المجتمع.
ولا يمكن أن تحدث ثورة سياسية، أو طبقية، إذا لم تسبقها ثورة في الأفكار. ولو أنه بالإمكان أن تكون أَحْيَانًا هذه الثورة في الأفكار بَطِيئَة، أو غير مَرْئِيَة، أو غير مَحْسُوسَة.
ويتناقض فكر الإسلاميين الأصوليين مع نوعية البِنْيَة التَحْتِيَة الاقتصادية الرأسمالية الحَدِيثَة، القائمة حاليًّا في المُجتمع. وعندما يكتشف الإسلاميون الأصوليون هذا التناقض في لحظة مُعَيَّنَة، أو عندما يَعُوق هذا التناقض تقدّم مُمارستهم السياسية، يُحاولون أن يَتَنَاسَوْا مُؤقّتًا فكرهم الإسلامي الأصولي، ويَلْتَزمُون كُلِّيًا بِالرأسمالية كما هي مَوجُودة في المُجتمع. وهذا هو السُّلوك الذي ظلّ يمارسه "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي الأصولي أثناء تواجده داخل الحُكومة منذ سنة 2011.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يسار في مجتمع فوضوي
محمد البدري ( 2019 / 10 / 11 - 05:30 )
لا يتناقض فكر الإسلاميين الأصوليين مع نوعية البِنْيَة التَحْتِيَة الاقتصادية لما في مجتمعات الشرق اوسط بل يتناقض والفكر الراسمالي في باقي انحاء العالم الرأسمالي. فهناك في العالم ارأسمالي منظومة كاملة تبدا بالعمل وتنتهي بحريات لا يعرف لها شبيها في الاسلام. فلا العمل ولا الحريات من مفردات الاسلام - واكرر الاسلام، كدين.
وهذا هو التناقض الحقيقي الذي يجب اخذه في الاعتبار عند الحديث عن اي حراك سياسي في الشرق الاوسط الملوث بالعروبة والاسلام.
المشترك بين اليسار والاسلاميين ان كلاهما يحارب الفكرة الرأسمالية، يرتكز الفكر اليساري علي رفض فكرة الاستغلال، ام الاسلاميين فلا يهمهم الاستغلال في شئ بقدر عدائهم الشديد لفكرة الحرية.
فهل نقذ اليساريين الاسلام من منطلق عدائه لفكرة الحرية، ام ان التجييش والتعبئة باسلوب القوميين وكل الفاشيين كان هدفهم مما جعل الاختراق الاسلامي لهم امرا ميسورا؟
هذا هو مربط الفرس




هل رغباتنا هي التي ستغيّر الواقع أم أن تغيير ميزان القوى هو الذي سيغيره؟

اخر الافلام

.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن


.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح




.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا