الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غسان حرب مناضل ومثقف واسع الأفق

محمود شقير

2019 / 10 / 19
الادب والفن


التقيتُ بالرفيق غسان حرب أوّل مرة في العام 1972، ولم أكن أعرفه شخصيًّا من قبل.
لكنّ اسمه كان معروفًا لديّ منذ سنوات. وكنت أسمع عن تضحياته وعن تضحيات شقيقيه حرب وطلعت جرّاء المبدأ الذي اعتنقه الأشقاء الثلاثة، وكان غسان أصغرهم سنًّا، كما كان أصغر معتقل في سجن الجفر الصحراوي الذي أمضى فيه ثماني سنوات؛ بسبب انتمائه للحزب الشيوعي وهو ما زال طالبًا في الصفوف الثانوية في المدرسة.
التقيتُه حين عاد إلى الأرض المحتلة بعد أن أنهى دراسته في الاتحاد السوفياتي. وللمفارقة، كان اسمه مقترحًا من قيادة الحزب في عمان للسفر من الاتحاد السوفياتي إلى تشيكوسلوفاكيا لتمثيل الحزب في قيادة اتحاد الطلاب العالمي، ثم تراجعت قيادة الحزب عن اقتراحها، وحبذت عودة غسان إلى الأرض المحتلة للإسهام في نضال الحزب ضد الاحتلال، واقترحت اسمي للسفر إلى تشيكوسلوفاكيا لتمثيل الحزب في قيادة الاتحاد.
غير أن قيادة فرع الحزب في الضفة الغربية المحتلة، وبعد التشاور معي حول الأمر، قررت ألا توافق على الاقتراح، فلم أسافر، وبقيت أمارس مهامي الحزبية في اللجنة القيادية التي انضم إليها غسان فور عودته إلى البلاد، وبعد أشهر معدودات أصبح عضوًا في مكتب قيادة الضفة الغربية.
ومنذ الاجتماع الأول الذي حضره غسان وشارك فيه أدركت بعضًا من سماته ومزاياه. كان يتسم بتواضع شديد، يلقي باقتراحاته وآرائه بهدوء ومن دون ادعاء أو مبالغة، وكان يتسم بقدرة على الإصغاء وتقبُّل الملاحظات التي تتعارض مع اجتهاداته تجاه مسألة ما أو قضية ما من قضايا الناس أو من قضايا النضال.
كانت لغسان ابتسامة لا تفارق وجهه، وهي تشكّل مع أنفه البارز بعض الشيء سمة خاصة به لا يمكن نسيانها، وكان يميل في بعض الأحيان إلى المزاح الظريف الذي لا يجرح أحدًا ولا يؤذي أحدًّا، وفي ذلك تعبير عن رهافة حسّه واحترامه الفائق للآخرين.
كانت اجتماعات قيادة الضفة الغربية تُعقد مرة كل ثلاثة أشهر أو أربعة؛ وكنا نجتمع إما في بيت الرفيق عربي عواد أو في بيت الرفيق خلدون عبد الحق أو في بيت الرفيق خليل حجازي في نابلس، وكانت تلك هي الفرصة الوحيدة للقاء الرفيق غسان. لكنني ذهبت إلى بيته في رام الله مرة واحدة لحضور اجتماع له علاقة بلجنة خاصة بمهمة التثقيف داخل الحزب، وكان معنا في الاجتماع الذي قاده غسان عدد آخر من الرفاق.
بعد ذلك؛ التقينا أنا وغسان وعدد كبير من الرفاق في سجن رام الله في نيسان 1974 حين شنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي حملة واسعة ضد قيادة وكوادر وأعضاء الجبهة الوطنية الفلسطينية، وكانت غالبية المعتقلين ينتمون إلى الحزب الشيوعي ويشكلون العمود الفقري لتنظيم الجبهة. وكان معنا رفاق ممن قضوا في سجن الجفر الصحراوي ثماني سنوات بتهمة الشيوعية، وهم: غسان حرب، عبد الله البياع، وخضر العالم. كان معنا أيضًا رفاق في مقتبل العمر لم يمضِ على انتمائهم للحزب وللجبهة سوى أشهر معدودات.وكنّا التقينا في زنازين سجن رام الله، ثم في غرفة رقم 1 التي كان فيها ما يزيد عن ستين معتقلًا من مناضلي الجبهة والحزب ومن مناضلي القوى الوطنية الفلسطينية الأخرى، فتح والشعبية والديمقراطية وغيرها.
أمضيتُ في سجن رام الله معتقلًا إداريًّا مدة ثلاثة أشهر، وأمضى غسان مدة أقل من ذلك، لأنه استُدعيَ بعدها إلى التحقيق في سجون أخرى، وكنت نُقلتُ بعد سجن رام الله إلى سجن الجلمة وإلى سجن بيت ليد، ومن ثم أبعدتُ مع رفاق آخرين من هذا السجن إلى لبنان، فيما بقي غسان بعد جولة تعذيب شديدة ضدّه وضدّ عدد من الرفاق الآخرين، ليقضي مدّة 33 شهرًا معتقلًا إدرايًّا في سجون المحتلين، وليخرج بعد ذلك إلى البيت، وإلى ساحات النضال في الوطن من جديد.
في سجن رام الله، تأكّدتْ لي مزايا غسان، كان هادئًا طوال الوقت، متواضعًا معنيًّا بكل الذين معه من المعتقلين، وكان له إسهام بارز في عقد ندوات ثقافية وسياسية ينضوي فيها معظم المعتقلين من مختلف التنظيمات السياسية.
وكان غسان لا يضيع وقته سدى. كان يستثمر الوقت في القراءة، وكان هو والرفيق تيسير العاروري من أكثر الرفاق الذين قرأوا قصصًا وروايات وكتبًا أخرى طوال فترة التوقيف في سجن رام الله.
وحين نُقلتُ من سجن رام الله إلى سجن الجلمة، أدخلني السجّانون إلى زنزانة في السجن وطلبوا مني التزام الصمت، وعدم التحدّث مع أيٍّ من الأشخاص في الزنازين المجاورة، لكنني عرفت عبر الهمس من تحت باب الزنزانة أن جاري في الزنزانة المقابلة لزنزانتي هو الرفيق جمال فريتخ الذي أخبرني أن ثمة أربعة رفاق آخرين في زنازين السجن هم: سليمان النجاب، خلدون عبد الحق، خليل حجازي، ومحمد أبو غربية. وكانت المفاجأة حين أخبرني أن الرفيق غسان حرب كان في الزنزانة التي حللت فيها، وأنهم اقتادوه إلى سجن آخر في صباح اليوم الذي وصلت فيه إلى سجن الجلمة.
هكذا تقاطعت طرقنا أنا والرفيق غسان حرب، ولم تكن لدينا فسحة من زمن لكي نلتقي على نحو أكثر امتدادًا وأكثر رحابة. كان غسان من الأشخاص الذين تروق المؤانسة معهم والاغتراف من بحر ثقافتهم وعمق اطلاعهم ومعرفتهم.
وحين كان غسان حرًّا طليقًا في رام الله بعد ما يقارب ثلاث سنوات من الاعتقال الإداري في سجون المحتلين، كنت منفيًّا في بيروت ومن ثم في عمان. وكانت صحيفة "الطليعة" تصلنا بين الحين والآخر، وكنت أتابع ما يكتبه غسان على صفحاتها من مقالات وتقارير.
وما زلت أذكر؛ حين جاءنا خبر رحيله الفاجع؛ أننا تألمنا أنا ورفاق آخرون لفراق رفيق شعَّ نجمه في سماء فلسطين لفترة خاطفة ثم غاب قبل الأوان، وعلى الرغم من هذا الغياب، فإنني على ثقة بأن فكر غسان ونبله وتواضعه واتساع ثقافته وسيرة نضاله لن تغيب من أذهان الجيل الذي تربى على يديه في صفوف الحزب وعلى مقاعد الدرس في جامعة بير زيت، وستكون سيرته هذه التي نبسطها في هذا الكتاب ملهمة للأجيال القادمة بكل تأكيد.
وحين كنت أتأمل موت غسان وأنا أكتب هذه المقالة، وقعت لي مفارقة لم أكن منتبهًا لها من قبل، ذلك أنني رحت أستذكر أعضاء قيادة الضفة الغربية التي كنا أنا وغسان من أعضائها منذ العام 1972 وهم: عربي عواد؛ سليمان النجاب، خلدون عبد الحق (هؤلاء الرفاق الثلاثة كانوا أعضاء في اللجنة المركزية للحزب، علاوة على عضويتهم في اللجنة القيادية التي كانت تابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني، وذلك قبل إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني)، خليل حجازي، غسان حرب، جريس القواس، ضمين حسين عودة، عادل البرغوثي، محمد أبو غربية، إبراهيم يوسف، ومحمود شقير.
أما المفارقة فهي أن كل أعضاء القيادة المذكورين أعلاه قد طواهم الموت ما عَداي؛ الأمر الذي جعلني أستحضر قول الشاعر:
ذهبَ الذين أحبُّهم وبقيتُ مثلَ السيفِ فردا
ولربما كانت في ذلك حكمة ما، فقد كتبتُ عن الرفيق سليمان النجاب بعد رحيله، وها أنذا أكتب عن الرفيق غسان حرب، ولربما استطعت أن أكتب عن الرفاق الآخرين الذين ارتبطتُ معهم بعلاقات إنسانية ونضالية لا تنسى. وبطبيعة الحال، فإنني ما زلت أزهو برفاق كثيرين في الحزب وبأصدقاء أتمنى لهم طول العمر ودوام العطاء.
أخيرًا، وأنا أستعيد بعضًا من سيرة الرفيق غسان حرب أقول بمرارة؛ وفي الوقت نفسه باعتزاز: ما زالت حاضرةً في ذهني منذ سنوات طويلة وحتى الآن صورةُ غسان التي نقلها لي أحد الرفاق القادمين يومها من رام الله إلى عمان، حين قال لي إن غسان قضى آخر لحظاته مع المرض الخبيث وهو ينشد للحياة ولحبّ الحياة.
الرحمة وبقاء الذكرى والخلود للرفيق المناضل المثقف الإنسان الأكاديمي المجد المثابر غسان حرب/ أبي فجر، والتحية والتقدير لزوجته الوفيّة عفاف أبو نحلة حرب التي تحملت معه مشاقّ الرحلة الصعبة وتبعاتها، ولنجليه فجر وفادي العزيزين، ولعائلتي حرب وأبو نحلة اللتين أنجبتا مناضلين مخلصين ومناضلات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع