الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلف السدة...

صباح هرمز الشاني

2019 / 10 / 22
الادب والفن


تتصدى رواية (خلف السدة) لعبدالله صخي الى السنوات الثماني أوالتسع الممتدة من نهاية الخمسينيات الى منتصف الستينيات، وهي المراحل السياسية الأربع التي شهدها العراق منذ نشوئه كدولة في عام 1921، وجاءت المراحل الثلاث الأخيرة منها عن طريق الإنقلابات، ما عدا المرحلة الأولى المتمثلة بالحكم الملكي، إبتداء من حكم عبدالكريم قاسم، وإنتهاء بالأشهر القليلة التي أستلم فيها البعث الحكم في 8 شباط عام1963، وإنقلاب عبد السلام محمد عارف على الحرس القومي فيما بعد.
يعتمد الراوي في هذه الرواية على السرد الموضوعي الذي يستعين بضمير الغائب (هو). وقلما يمنح الفرصة للشخصيات أن تعبر عن رأيها في السرد الذاتي (أنا) ما عدا في بعض منولوجاتها. وتتكون من عشرة فصول، وتقع في مائة وستين صفحة.
يدور متنها الحكائي حول هجرة سكان الريف الى المدينة، تحديدا الى مدينة الثورة كما كانت تسمى في عهد عبدالكريم قاسم، وفي عهد صدام بمدينة صدام، وفي الوقت الحاضر كما هو معروف عنها بأسم مدينة الصدر. وهي هجرة لا يتجاوز عمرها أكثر من ستين عاما، عندما بدأ أهالي القرى والأرياف القريبة والمحيطة ببغداد التوافد الى العاصمة، هروبا من هيمنة الإقطاع لأراضيهم، وإستغلال أتعابهم في حراثة الأراضي وزراعة المحاصيل وحصدها لصالح من ناصرته قوانين الحكومة، وبحثا عن حياة أفضل. وعائلة سلمان اليونس هي إحدى هذه العوائل التي أنضمت الى قافلة المهاجرين المتكونة من زوجته مكية الحسن، وبناته الثلاث: حليمة، صبيحة، ومديحة، الأولى تعاني من مرض النوم، والثانية أعتادت على أكل الأحجار، أما الأم ومع أنها أنجبت ثلاثة أولاد ذكور، إلآ أن ثلاثتهم ماتوا بأمراض غريبة، عليه تتوق لإنجاب ولد، ويشتغل الأب عاملا بأجر زهيد في معمل للطابوق. لذا عندما أيقظها زوجها من نومها ليخبرها بظهور رجل على حصان في حلمه، رجل وسيم تثير سنابكه عاصفة من غبار، أهتز قلبها بورع، وهو يقول له أقترب مني، ليقدم له جواده ويبلغه، أن هذا سيعينه على الوصول. ثم أختفى. و:(سرت في جسدها رعشة فجرت أملا مبهجا، بسملت وهي تتقدم في جلستها لتضاعف نور الفانوس فأنتشر الشعاع على الجدران الطينية ليتكسر وينشط الى عشرات الاشكال المتعرجة المبهمة، غير أنه كان كافيا لإضاءة صورة لشهداء واقعة كربلاء ثبتت بعجين، وأخرى كبيرة مزججة مؤطرة بشريط لاصق لأحد الأئمة الأثني عشر. تنقلت عيناها بين الصورتين وشهقت بفرح: (سيأتيني ولد)، وظلت ساهرة حتى الفجر تفكر وتتأمل.). والى جانب هذه الشخصيات ثمة شخصية (سوادي حميد) الطبال الذي قتلت زوجته على أيدي أخوتها لأنها تزوجت به سرا. ولدى إختطافها تلقى ضربة من مدية أحدهم، أدت الى إندلاق مخه، ما أدى بطبيب هندي أن يزرع في رأسه مخ كلب. كما هناك شخصية عبد الحسين الذي أحب حليمة وتزوجها شريطة أن يتخلى عن شرب العرق. فضلا عن شخصية (علي) أبن سلمان اليونس و(بدرية) و ( خانزاد الكردية) و(خلف اليونس) شقيق سلمان وزوجته (فاطمة) و (قدوري) وشقيقه (صادق النجار) و(الأعمى).
يقوم بناء هيكل ومعمارية هذه الرواية على التزاوج بين الواقع وبين العقل الجمعي بالتعويل على الأحداث التي مرت بشخصيات الرواية والمراحل السياسية التي شهدها البلد في الأولى، وعبر الأحلام التي تراود الشخصيات والخرافة والمعتقدات التي تؤمن بها في الثانية. ولعل الحلم الذي يراه سلمان اليونس في مستهل الرواية، وتفسره زوجته ببشارة خير، على إنجاب ولد، هو دليل على أن الرواية ستسير على هذا النهج. وبقدر ما منح المؤلف من أهمية للتزاوج في الأول، من خلال إعطائه مساحة لا بأس بها، بالقدر ذاته منح الأهمية ذاتها لوفاة سيد جارالله، عبر إعتقاد المهاجرين بأن الرائحة العطرة التي كانت تنبعث من جسده المدد بسكون، إنما هي رائحة أعشاب برية. كما أن رؤية مكية بعد موت ولدها لشبح الموت: (بهيئة رجل دميم متوحش يحدق فيها بثبات بعينين مجوفتين مظلمتين، ولم يختف إلآ عندما هطلت على البلاد أمطار غزيرة)، يعبر هو أيضا عن هذا التزاوج بين الواقع والعقل الجمعي، ليفرز واقعا جديدا، يفضي الى إستمرار الحياة عن طريق رضى وقناعة الفرد أو الجماعة بزوال المصاب أو بالعيش على هذا الوهم بدون وعي. ويتجسد هذا التزاوج أيضا في أكل مكية قطعة من أذن طفلها، بناء على نصيحة إمرأة:( وأمام دهشة سلمان اليونس وأبنتها حليمة أجتزأت قطعة من أذن الصغير الطرية، وضعتها في لقمة خبز وأكلتها). فضلا عن أخذه الى الملا في سعي منها لإنقاذه من الخوف الذي يشعر به في الظلام، الذي يوصيها بعد أن يكتب كلمات غامضة على ورقتين، بتعليق واحدة بدبوس في كتفه وأن تربط الأخرى في وسادته. ليتلاشى خوفه في الظلام. بيد أن أغرب الخرافات التي صدقها الناس، هي ما روته خانزاد الكردية عن رؤيتها لرئيس الوزراء في القمر: (وتخيل بعضهم أنه شاهدها فعلا الأمر الذي عززه الإعلام الحكومي حين طبع الأسطورة في صورة وزعت على نطاق واسع). ناهيك عن العقد المبرم بين مكية والحية بأن لا تضرهم ولا يضرونها، تاركة لها مكية حرية الحركة والتجوال في البيت،وتقدم لها الطعام والحليب.غير أن الوجه الآخر للإيحاء المتمثل بالرموز السياسية التي قادت البلد لفترة معينة من جهة وبثورة الرابع عشرة من تموز عام 1958من جهة أخرى، يبدو أكثر وضوحا بحكم التعبيرعنهما بشكل مباشر كما في هذه الجملة مثلا :( وذات يوم وقف فوق سدة ناظم باشا من جهة ساحة الطيران قائد وطني معروف، أعدم في ما بعد، أبصر البلدة بعينين حالمتين وهتف بألم:( يا إلهي كم هي أليفة، إنها تبدو كبيت واحد). في إشارة واضحة الى أن هذا القائد الوطني هو عبدالكريم قاسم. أو في جملة:( حمل سوادي النبأ معه وجرى مسرعا في الطرقات. .. )، في إشارة الى إندلاع ثورة الرابع عشرة من تموز. وجملة:( لكن مظاهر الفرح في البلدة أختفت، عندما شب حريق هائل في مخازن الوقود. . ). إشارة الى وجود قوة معارضة، بدأت تحرك نفوذها في المنطقة. ومفردة ( زلزال) التي تطلقها الأم توحي الى التهيئة للقضاء على الثورة من قبل القوة المعارضة. ومرور رجل بجانب خانزاد توصيه أن يطلب من رئيس الوزراء أن يعيد لها حفيدها. إشارة الى عبدالكريم قاسم أيضا.
بالإضافة الى تقنيتي التزاوج بين الواقع والعقل الجمعي، والوجه الآخر للإيحاء الأقرب الى المباشرة منه الى عدم المباشرة، فقد عمد صخي الى إستخدام تقنية الإيحاء أيضا ولكن خلال الرمز. وأولى الجمل التي أستخدمها لهذا الغرض هي:( أنتحب الرجال، ودخنوا كثيرا يساورهم شعور بأنهم تركوا وحيدين يواجهون مصائر مجهولة في أرض غريبة.). تأتي هذه الجملة على لسان الراوي بعد موت سيد جار الله، رمز المهاجرين الطاهر والقديس، حاثا المتلقي الى الصعوبات التي سيواجهونها هؤلاء الناس الفقراء والغرباء للحصول على دار يأويهم من حرارة الصيف وبرودة الشتاء، وكما يتنبأ، فأن أمنيتهم هذه، لا تتحقق. بدليل: (وصول شاحنة، بعد إزدحام البلدة بالمهاجرين، وهبوط منها موظف يرتدي بدلة زرقاء، آمرا العمال بوضع علامة على البيوت المرشحة للهدم. . ). كما أن جملة: ( ما الذي فعلناه؟ أكان يجب ألآ نأتي الى هنا؟ قيل لنا أنها أرض مباركة.)، توحي الى المعنى السابق نفسه. كما إن شرب مكية لبول أبنها، نزولا لتوصية غجرية، إن أرادت الحياة له، يرتد فعل هذه التوصية، بعكس الإيحاء المنشود، من إيجابي الى سلبي، مؤديا الى موت الطفل. أما جملة:( إنحراف عربة علي عن خط سيرها وإرتطامها بعربات قادمة، ورأسه مغطى بالدم)، فهي إيحاء الى عدم قدرة علي على مواجهة الحياة، وتحقيق ما ينشده في منزل يعمه الإستقرار وتتوفر فيه سبل الراحة. و(خوفه من الخنجر)، الإيحاء نفسه. وإقتران:( تيقن الأب من الحياة المتحفزة الكامنة في علامات الزغب فوق شفتي أبنه، بلحظة دوي إنفجار عنيف) إيحاء الى فقدان الأمل في ظل إنقلابات العسكرتارية المتتالية، بناء مسستقبل الشباب، ولا سيما جيل الخمسينيات من القرن الماضي. وتوحي إنهيار سقيفة البيت مع ظهور صورة رئيس الوزراء الى زوال حكم عبدالكريم قاسم وتبديله بحكم آخر. ورؤية خانزاد الكردية لملابس رئيس الوزراء ملطخة بالدم الى المعنى السالف الذكر أيضا، الى جانب عودة فاطمة وزوجها الى القرية، وموت الطفل.
إن أكل الحجارة والنوم من قبل الأطفال في الحياة الأعتيادية اليومية، تبدو مسالة طبيعية، أما عندما تغدو هذه المسألة حدثا روائيا، أي تخرج عن طابعها المألوف وتصبح غير مألوفة، عندها ينبغي التعامل معها بشكل آخر. ولعل هذا التعامل يصبح أكثر جدية، عندما يقترن بجمل تعبر عن ممارسة هذه العادة لأكثر من مرة. فقد تكررت جملة: (أكلت صبيحة قطعة حجر صغيرة) ست عشرة مرة، وغيرها من الجمل المشابهة لهذه الجملة التي تكسب المعنى نفسه.
لم تنقطع صبيحة عن ممارسة هذه العادة، إلآ بعد أن أبلغتها زوجة عمها (فاطمة) بأن الرجل لا يهوى إمرأة تأكل الطين، وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: ترى لماذا لم تنقطع قبل هذا التبليغ؟ الجواب كما يبدو لي يكمن وبمنآى عن التفسيرات العلمية في حاجة صبيحة الى الإستقرار في كلتا الحالتين، كما في طفولتها كذلك في مرحلة مراهقتها، ولكن في مرحلة المراهقة بات هذا الإستقرار أكثر إلحاحا، ذلك كون الطين أهم عنصر في تشييد الدور، ففي طفولتها تأكله لحاجتها إليه لأنها تشعر بعدم الإستقرار، بعدم الأمان، بعدم الراحة، وفي كبرها، أملا بالزواج المرتقب الذي سيوفر لها هذا الإستقرار في مأوى يبعث الطمأنينة، بالإضافة الى العامل الأهم ألا وهو حنين العودة الى عش الطفولة. بدليل أن فاطمة التي عادت الى القرية، كانت هي السبب بتخلي صبيحة عن أكل الحجارة: (إن البيت القديم، بيت الطفولة هو مكان الألفة، ومركز تكييف الخيال، وعندما نبتعد عنه نظل دائما نستعيد ذكراه، ونسقط على الكثير من من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا البيت.)1. وللتأكيد أن أكل صبيحة للحجارة هو بسبب شعورها بعدم الإستقرار، سآتي بثلاثة نماذج من الرواية، تشير الى أن أكلها للحجارة غالبا ما يحدث خارج المنزل، أي في المكان الذي تشعر فيه براحة أكثر:
1- في الوقت الذي غفا فيه سلمان اليونس وهو جالس مستندا الى صرر الأمتعة. . . أختفت صبيحة تلتقط الأحجار بين الأسر المحتشدة على السدة الثانية حتى الجسر الحديد. أضع خطا تحت كلمة (السدة) = الخارج.
2- كان المبنى صامتا وهم يمشون، كما لو أنها أنتهزت فرصة إنشغال الجميع إلتقطت صبيحة حجرا وهي تتطلع إليهم خشية أن يكون أحد منهم قد رآها. . . أضع خطا تحت كلمة (يمشون)= الخارج.
3- كانت صبيحة في الخارج وهي تقبض على كسرة حجر.
وينطبق الشيء نفسه على شقيقتها صبيحة التي تنام بشكل مفاجيء في كل الأماكن، ويتكرر نومها هذا بحدود أربع مرات على ما أظن. إذ لا تترك هذه العادة إلآ بعد أن يأتي بها عبد الحسين حاملا إياها على كتفيه الى البيت وهي نائمة، وإحساسها بإرتعاشة في عينيه. أي أنها هي الأخرى كشقيقتها لا تتخلى عن عادة النوم في أي مكان كان إلآ بعد وقوعها في حب. فكلا الشقيقتين إذن تعانيان من المرض ذاته، لإفتقارهما الى بيت تتوفر فيه سبل الراحة، ولكن بدون وعي، وهو المرض الذي يعاني منه كل الذين هاجروا من قراهم وأريافهم الى هذه البلدة.
وبمثل ما تفيض الرواية بالإيحاء، لا تخلو بالحجم نفسه من الأحلام التي تراود شخصيات الرواية. وبغض النظر عن حلم الإستهلال الموحي الى الإنجاب، أو الولادة، فإن الحلم المقرون بزيارة مكية مع أبنها علي لواقعة الكربلاء: (ليغمر جسده بضوء النور، وإختبار خرزة وضعتها تحت وسادتها، لإكتشاف أثر السحر على حاملها)، من أجمل المشاهد تعبيرا في التزاوج بين الحلم والواقع، سواء بإختراقها السور البشري الذي جاء يشارك أحداث إستشهاد حسين، وهي تجتاز الميدان ويحث علي خطاه الى جانبها، أو تطلب من الرجل المعمم أن يسانده: ( تنهدت بعمق والتفتت الى السور البشري وخيل اليها أنهم جميعا مثلها رجالا ونساء، جاءوا ليغمروا أجسادهم بضوء النذور الغزير كأنهم بذلك يخرجون لأول مرة الى الشعاع المضيء، شعاع الإطمئنان والأمان الرحبة).
إن عبورها مع علي الى الضفة الأخرى الرامز الى تذليل الصعوبات التي تواجه المهاجرين، يذكرها بعبور قنطرة خشبية شاهدتها قبل ولادة علي (فلاش باك). وهي تطلب من الرجل المعمم أن يساند أبنها ويساعدها على العبور. ولعل عبورها الى الضفتين، في الحلم وأثناء عرض واقعة كربلاء، كان بادرة خير لطلب يد أبنتها حليمة، وليضيء الشارعان الرئيسان في البلدة لأول مرة. كما أن تزامن نفث سيارة الصحة للدخان الأبيض الخاص في قتل البعوض والحشرات، أثناء خروج أهل عبد الحسين من بيت سلمان بعد موافقته على هذا الزواج، يوحي الى إقلاع عبداالحسين عن شرب العرق والى الأبد. فضلا عن خوف علي في حلمه من النزول الى المياه التي غمرت أخته، وأنزلقت قدمها فهبطت نحو الأسفل، وإستنجاده بالمارة، موحيا هذا الحلم الى عدم قدرة علي ولا الجيل الذي يمثله على تحمل المسؤوليات الكبيرة والمحن التي يمر بها الوطن.
وإذا كان من مشهد آخر في الرواية يوازي تكوين جمالية وقوة مشهد واقعة كربلاء، فهو مشهد إستقبال موكب عزاء باب الشيخ، وهوكذلك لا لأن العمليتين، عملية تعذيب الجسد من قبل الحشد المؤمن وعملية الجنس من قبل علي وبدرية، يفضيان الى التطهير، لإعتماد كليهما على التفريغ،
بل لأن الطقسين يعودان بنا الى إحتفالات أعياد أكيتو في مدينة بابل بستة آلاف سنة قبل الميلاد.
وليؤكد علي مرة أخرى بعجزه وعدم قدرته على بناء ما تم هدمه من جديد، ذلك أن بدرية هي التي تقوده الى الإحتكاك والممارسة، مثلها مثل كاهنات معابد بابل:( كانت بدرية منهكة بمراقبة الموكب الذي بدأ يستعد للإستماع الى قارئه إذ ينشد فصولا من قصائد رثاء . قالت بدرية:
-علاوي أترك عباءتي كي لا تسقط، أمسك يدي إذا تريد.
أجابها بصوت ضائع مخنوق:
-كلا سأتكيء على البسطة.
قالت وهي تقرب وجهها منه:
-ألا تحب أن تمسك يدي؟
أحس بأنفاسها تلامس وجهه، وشم عطرا خاصا من شعرها، فدب في جسده إرتعاش غامض أفقد ساقيه القدرة على الثبات. وتسللت يده الى يدها. كانت دافئة خشنة، شعر بها كبيرة، بوسعها أن تحتوي جسده كله).
يبدو لي أن ثمة صلة وشيجة لجسر يمتد بين تعثر علي في مواجهته لمصاعب الحياة، وبين ثعثر بناء المدينة الجديدة، بالأحرى أن إيلائه من قبل والديه إهتماما خاصا، دون إيلاء الأهمية ذاتها لشقيقاته، وبما تكاد أن ترتقي بمستوى إهتمامهما ببناء المدينة، يمنح هذا الإنطباع. وبعبارة أكثر وضوحا، إن إرتباط إخفاقات علي المتكررة بإخفاقات مشاريع بناء المدينة، مرهونة بإرهاصاته، والإنقلابات التي يقوم بها الضباط العسكريون، ويتضح هذا الإرتباط بشكل دقيق في عودة علي منهكا من بيع المرطبات، وقد تيه الطريق المؤدي الى المدينة، ويصادف حارسا يأمره بعدم العودة الى هذا المكان، كونه (معتقل):( أدرك أنه يقف عند حدود البلدة من دون أن يستطيع تحديد أية جهة. من هناك. من نهايات البيوت يبدأ طريق ترابي شق حديثا في آخره يقوم بناء ضخم لم يكتمل بعد. ورآى آلات حفر وأكواما من رمل وجص وأسمنت، رآى معدات هدم وأسياخ حديد وأبوابا كبيرة وشبابيك وكتلا من الطابوق في كل مكان.). ليتذكر علي هذا المكان، وهو في طريقه الى بيت خالته مع أفراد اسرته، أثناء هروبهم من تداعيات إنفجار الخزان الثالث: ( فأنتبه الى قاعات بيض كبيرة مطوقة بأسلاك شائكة تربض وسط برية خالية، كانت تشبه الصفوف المدرسية وقد تركت بينها مساحات واسعة. كل شيء في المبنى يوحي بالفراغ).
إن الصلة الوشيجة القائمة بين ثعثر علي والمدينة يكمن في:
1- إخفاق علي في بيع المرطبات.
2- عدم قدرة علي على تحديد جهة الدخول الى البلدة.
3- وجود مواد بناء مهملة.
4- وجود معتقل.
ولو كونا من الجمل الأربع فقرة واحدة وحاولنا بلوغ معناها لوجدنا أنها تؤدي الى الحد من بناء البلدة المزمع تحويلها الى مدينة فاضلة. ذلك أن الفشل وعدم القدرة على تحديد الهدف والإهمال، فضلا عن وجود المعتقلات، نتائجها محسومة سلفا.
ثمة تناص بين هذه الرواية وبين رواية (الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي، من خلال شخصيتي (عدنان وحسين) في هذه الرواية، وشخصيتي ( قدوري وصادق النجار) في الرواية التي نحن بصددها.
في الرجع البعيد، والى حد ما، يكشف المؤلف عن هوية شخصيتيه بطريقة أقرب الى الطريقة غير المباشرة، قياسا بالطريقة التي يكشف فيها مؤلف سدة الهندية عن هوية شخصيتيه بشكل مباشر. فإذا كان التكرلي قد أعلن عن هوية عدنان من خلال قوله لمدحت:( تسمعون من عدنا عن قريب) بالإضافة الى إغتصابه لمنيرة، وبوصف حسين ماركسي، فإن صخي وعلى لسان قدوري يكشف عن هوية الأثنين، بالدفاع عن البعثيين والهجوم على الشيوعيين وعبدالكريم قاسم وهو يقول:( يتآمرون عليه، هااااا؟ منو يتآمر؟ هو اللي يتآمر على الأمة العربية، ليش ما يتوحد ويه مصر؟ ليش طرد رفاقه اللي شاركوه بالثورة؟ الأحزاب الوطنية. ها يابه، الأحزاب الوطنية كلللللللللها ما تريد الفوضى، وأنت صاير لي سياسي، وين؟ بأنصار السلام لو بالمقاومة الشعبية؟ لك يا مقاومة شعبية، يا بطيخ.).
مثلما يعلن صخي بشكل مباشر عن هوية شخصيتيه، بالنفس ذاته يعلن عن إنحيازه لصادق النجار دون قدوري، بعكس التكرلي الذي يتخذ موقفا محايدا أزاء كلا الشخصيتين، وأتصور أن حبكة الرواية وأحداثها فضلا عن شخصياتها والمكان هي التي فرضت على المؤلف أن يتخذ هذا الموقف المحايد. ولكن مع هذا، أي بانحياز أو عدم إنحياز المؤلف لطرف دون آخر، فإن المتلقي في كلتا الحالتين، في الوقت الذي يكن الضغينة فيه لعدنان وقدوري، يتعاطف مع حسين وصادق النجار.
إذا كانت شخصية علي وشخصية فاطمة تتنافران مع بعضهما البعض، في ضعف شخصية الأول من خلال خوفه، وقوة شخصية الثاني عبر طيبته وكده وحبه للناس والتعاون معهم، إلآ أنهما يلتقيان معا في نقطة واحدة فقط وهي رفضهما للواقع الذي يعيشانه ومن خلالهما المهاجرون في البلدة – الفاضلة، فاطمة عن وعي، وعلي بدون وعي وبالفطرة وعن براءة. وهذا الرفض وإن كان يتمثل بكل الإخفاقات التي تعرض إليها علي، سيما في عجزه عن تحديد وجهة المدينة المؤشر الحقيقي لعدم إنجذابه إليها، فإن هذا الرفض بالنسبة الى فاطمة وإن كان مشوبا بالرمز، غير أنه واضح جدا، ويتمثل في الحية التي تعيش في نفس الغرفة التي تسكن فيها فاطمة مع زوجها، وتأبى مكية قتلها بمسوغ أن قتل الحية يجلب الشؤم. لذلك فقد قررت فاطمة ألآ تدخل غرفتها وألآ تبيع الحليب، وأخيرا أن تحسم موقفها بإتجاه العودة الى القرية، بإطلاق جملتها هذه في وجه زوجها خلف : ( لا أستطيع تحمل هذا الجحيم).
وبالضد من موقف فاطمة الرافض للحية، يظهر الوجه الآخر المنجذب إليها، باديا في وجه مكية للدلالة على الصمود والبقاء في البلدة، مستمدة إياه من حلمها في الحية وهي تجلس قبالتها وتبتسم لها، وأحتضنتها كطفل لكنها لدغتها، ولأن رافقت لدغتها الدم، لذلك فقد فسد الدم الحلم. وللتأكيد على وفاء الحية ليس في تخمين مكية فحسب، وإنما في تخمين زوجها أيضا، فقد كان هناك يوم فارق فيه الحياة :( لم يكن بجانبه أحد. كانت هناك الأفعى فقط تنتقل في أرجاء البيت الموحش.).
إن الصراع القائم ليس صراعا بين الطرفين المتنازعين على السلطة فحسب، وإن ظهر بحدة أقل بين شخصيات الرواية. وإنما هو صراع بجدوى البقاء في البلدة أو دون جدواه. بين مكية من جهة وفاطمة من جهة أخرى. وبين سلمان اليونس وصهره عبد الحسين، فضلا عن الصراع المحتدم القائم بين قدوري وصادق النجار.
أما المكان في هذه الرواية فهو كل شيء، إن لم يكن الرواية نفسها، بدليل أن الصراعات المحتدمة بين الأطراف المتنازعة ما هي إلآ من أجل الإستحواذ على المكان بهدف بناء المعتقلات والحد من قوة المعارض في هذه البلدة التي يعيش سكانها في فقر مدقع، لذا فهي تبدأ بفضاء واسع، وتنتهي كذلك بفضاء واسع، تبدأ في هذا المكان المديد بالولادة، وتنتهي بالبحث عن التي تولد. في الأول مات، وفي الثاني كما لم يعرف أن يسلك طريقه كي يعود الى البيت، أثناء عودته من بيع المرطبات، كذلك في نهاية الرواية يتمنى أن يلتقي ثانية بالأعمى، ولكن في هذه المرة ليدله على بدرية، كونها رمزا للوطن الذي تيهه، وليس على طريق البلدة.
إن المكان من الأهمية بلغ حدا بحيث هو الذي يقوم بالتأثير على الأحداث، وبالتالي تحريك الشخصيات وفق الأهداف المرسومة له، سواء في الفضاء الخارجي، أو الفضاء الداخلي.
في الفضاء الخارجي لتجسيد واقعة كربلاء، وعدم إهتداء علي الى الطريق العام المؤدي الى المدينة، فضلا عن موت سيد جارالله، ودفنه في المكان تفسه. وفي الفضاء الداخلي، في الغرفة التي تسكن فاطمة مع زوجها، للتعبير عن موقفها أزء الحية التي تعيش معهما. وبالرغم من وجود غرفة مكية وزوجها الى جانب غرفة فاطمة، بيد أن الغرفة الأولى تلعب دورا أكبر من الثانية في تفعيل الأحداث، سيما بعودة فاطمة الى القرية، وإذا كان من حدث مهم قد وقع في غرفة مكية كمكان، هو موت زوجها وحيدا، وبغياب مكية وأبنتيه، وحضور الحية فقط.

المصادر:
جمالية المكان: غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت- 2006.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي