الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوشكين الإريتري

كمال الجزولي

2019 / 11 / 1
الادب والفن


بُوشْكِينُ .. الإِرِتْرِي!

(1)
أسعدتني تصاريف العمل، خلال العام 2011م، بالإقامة لبضعة أشهر في ضاحية سنبل ـ كوريا الرَّاقية بالعاصمة الإريتريَّة التي خلبت لبِّي منذ الوهلة الأولى، ببساطتها الآسرة، ونظافتها المائزة، وأمانها الشَّامل، وهدوئها الذي يجعلك تظنُّ، من فرط تمامه، أن النَّاس فيها لا يتكلمون إلا همساً، أو بلغة الإشارة، وأن عرباتها لا تسير على شوارع من الأسفلت، وإنَّما تنزلق فوق ملاءات مشدودة من الحرير النَّاعم! وكان أصدقائي من قضاة المحكمة العليا، ومستشاري وزارة العدل، يحيطونني، على الدَّوام، باهتمامهم الفائق، وكرمهم الفيَّاض، ويرتِّبون لي، بين الحين والآخر، نُزَهاً وبرامج ترفيهيَّة تنتشلني من دوَّامة العمل، وتخفِّف وطأة روتينه الصَّارم شيئاً.
إحدى هذه النُّزه والبرامج أخذتني، ضحى يوم أحدٍ، إلى حديقة أنيقة لا تبعد كثيراً عن مكتبة أسمرا الشَّعبية، حيث نصب الرُّوس، في 28 نوفمبر عام 2009م، تمثالاً نُحاسيَّاً رشيقاً، من أعمال النَّحَّات نيقولاي كوزنيتسوف، لأمير شعرائهم، بل أحد أعظم شعراء العالم قاطبة، على اختلاف أجيالهم، والأب الشَّرعي للرِّواية والمسرح الرُّوسيَّين، والمؤسِّس للغة الأدب الرُّوسي الحديث، الاسكندر سيرغييفيتش بوشكين.
ولئن سبق أن نصبت عشرات البلدان حول العالم، وما زالت تنصب، مثل هذا التِّمثال في كبريات ساحاتها، فإن لنصبه في القارَّة السَّوداء، بالذَّات، سيرة فخر واعتزاز تستحقُّ أن تروى. فبداية هذه السِّيرة، في نسختها القصيرة، تعود إلى قرنين للوراء، حيث وُلد بوشكين في السَّادس من يونيو عام 1799م، بموسكو، وعاش، للأسف، عمراً قصيراً لم يتجاوز الثَّمانية والثَّلاثين عاماً (ت: 1837م)، في عائلة أرستقراطيَّة تنتمي، من جهة أبيه ذي الأصل الأفريقي سيرغي بوشكين الذي كان، هو نفسه، شاعراً معروفاً، إلى حاشية من نبلاء البلاط القيصري تنعم بحياة الدِّعة والتَّرف.أمَّا في نسختها الطويلة فتعود سيرة الفخر والاعتزاز الأفريقيَّين بهذا الشَّاعر المفكِّر، والأديب العظيم، إلى الفترة ما بين خواتيم القرن السَّابع عشر، تاريخ ميلاد جدِّه الأكبرلأمِّه، الجــنرال الإريتري أبراهـام هانيبال، وخـواتيـم القـرن الثَّامــن عشــر، تاريــخ وفــاته (1698 ـ1781م). فوالدته ناديجدا هي إبنة أوسيب هانيبال وماريا بوشكينا، وحفيدة أبراهام هانيبال، الملقَّب بـ "زنجي بطرس الأكبر"، والذي وُلد بإريتريا، عام 1703م، لأمير أسير كان يتبع للسُّلطان العثماني، فأرسل إلى قصر السُّلطان في القسطنطينيَّة. وفي العام التَّالي انتشله سافا راغوزينسكي، مبعوث روسيا إلى القسطنطينية، من بين خدم الحريم، واصطحبه إلى موسكو، حيث قدَّمه للإمبراطور بطرس الأكبر الذي عمَّده، ولقَّبه بهانيبال، وأصبح أباه الرُّوحي، فتربَّى في كنفه، وتعلم حتَّى أصبح مهندساً عسكريَّا برتبة جنرال. ولعلَّ علاقة ذلك الجِّد بالقيصر هي التي أوحت لبوشكين الحفيد برائعته "ربيب بطرس الأكبر"، أحد أهمِّ معالم الأدب الرُّوسي.

(2)
الانتماء الأسري، إذن، إلى طبقة النُّبلاء هو الذي مكَّن بوشكين من الالتحاق بأرقى المؤسَّسات التَّعليميَّة الرُّوسيَّة، بما في ذلك كليَّة الشُّؤون الخارجيَّة. غير أن ولعه بالإبداع الأدبي حال دون اهتمامه بتلك الكليَّة، أو بالوظيفة التي تهيِّئه لها، فانكبَّ، بكلِّ ملكاته العقليَّة، واستعداداته الرُّوحيَّة، على مراكمة ما أضحى، لاحقاً، أضخم ميراث في الأدب الرُّوسي، من قصائد، ونقد، وسرديَّات، ويوميَّات، ومذكِّرات، وخطابات، وخلافه. ولعلَّ اللافت، هنا، بوجه خاص، هو أن انتماء بوشكين الأسري إلى طبقة النُّبلاء، وتربيته، وتنشئته، وتعليمه، في أجواء البلاط القيصري، لم يحُل دون انحيازه إلى أبناء الشُّعب العاديِّين، وسعيه الدَّائم للتَّعبير عنهم، وعن قضاياهم. فقد عاش تحت الظروف القاسية لاستبداد القيصر والنُّبلاء، ومع ذلك تأثَّر بالفكر الاجتماعي الهادف لإحداث تغييرات سياسيَّة جذريَّة في روسيا، بل كان أحد روَّاد ذلك الفكر الذي انعكس بوضوح في أشعاره ورواياته. لكن، برغم خلافاته مع القيصريَّة والنَّبالة، كان بطرس الأكبر، شخصيَّاً، من أشدِّ المعجبين بأشعاره وأعماله الأدبيَّة، وقد حاول جهده كي يكسبه شاعراً للبلاط، لكن بوشكين واصل نقده له، ولسياساته، بعناد، فاتَّهمه القيصر بالخيانة، وقضى بنفيه إلى أماكن نائية في روسيا، من بينها القوقاز، حيث تعرَّف، بوجه خاص، على ثقافة المسلمين، وأحبَّها، وشغف بالقرآن، وبسيرة النَّبي محمَّد (ص) شغفاً عظيماً، وعبَّر عن ذلك في مطوَّلته "قبسات من القرآن". وكتب أيضاً خرائد أخرى من بينها "الأسير القوقازي"، و"أمام النَّبيلة الأسبانيَّة"، كما كتب روايته "ليالي مصريَّة"، ومقالته عن "تاريخ الثَّورة الفرنسيَّة" التي مجَّد فيها نضال الشَّعب اليوناني في سبيل الحريَّة، رغم أنه لم يحدث أن غادر روسيا إلى أيِّ بلد آخر طوال حياته! وفي هذا قال فيودَر دَستَييفسكي، عام 1880م، أثناء حفل افتتاح نصب بوشكين في موسكو، "إن من ميزاته الفنيَّة: النَّخوة العالميَّة، وتجليه الكامل في عبقريَّة تنتمي لشعوب أخرى". هكذا طرح دستَييفسكي مسألة الشِّعر لدى بوشكين ما بين القوميَّة والعالميَّة، فالعبقري الذي استلهم القرآن لم يكن، بالضَّرورة، مسلماً، لكنه استوعب شتَّى الأديان، والثَّقافات، والحضارات، فأضحى أكبر من مجرَّد روسي!
إلى ذلك تضمَّنت رواية بوشكين الأشهر "يفغيني أونيغن" الكثير من ملامح حياة النَّاس في عصره، وأرَّخ في شعره للقيصريَّة الرُّوسية، من بطرس الأوَّل إلى نيقولا الأوَّل، كما أرَّخ، بوجه عام، لأحداث النصف الأوَّل من القرن التَّاسع عشر، دون أن يفقد أسلوبه شاعريَّته المائزة التي تسم نتاجاته الأدبيَّة، بوجـه عام، لغـة وروحاً.

(3)
هذه الشَّاعريَّة الأكثر تمييزاً لمزاج الخلق الأدبي لدى بوشكين لا تقتصر، فقط، على كتابته للقصائد، بل تتجلى حتَّى في كتابته للرِّوايات، والقصص، والذِّكريات، وغيرها. بتلك الشَّاعريَّة تمكَّن بوشكين من تفجير طاقته الإبداعيَّة الوافرة في التَّعبير عن القناعات التي يحملها، والقيم التي يؤمن بها، فضلاً عن ذائقته بشأن الحريَّة، والجَّمال، والحبِّ، والصَّداقة وما إلى ذلك. ولعلَّ أظهر ما تكون تلك الشَّاعريَّة في سلسلة الحكايات الشِّعريَّة السَّبع: "العريس"، "حكاية الكاهن وموظفه بالدي"، "حول الدَّببة"، "حكاية القيصر سلطان"، "حكاية السَّمكة والصَّيَّاد"، "الأميرة الميِّتة والأبطال السَّبعة"، "الطائر الذَّهبي". وكذلك في رسائله إلى أصدقائه التي وضعها في شكل قصائد أشهرها: "أحببتك"، "صباح شتائي"، "أذكر تلك اللحظة الرَّائعة"، والتي تتَّسم، أكثر ما تتَّسم، بالميزان الشِّعري الخفيف؛ وأيضاً في قصيدة "على شاطئ البحر" ذات الرَّواج الشَّعبي العالمي، إضافة إلى العديد من القصائد الأخرى التي كرَّسها لحبِّ الوطن، وأسهمت إسهاماً وافراً في تشكيل الوعي والوجدان الرُّوسيَّين الجَّمعيَّين.

(4)
نعود لنؤكِّد أن أصول بوشكين الأفريقيَّة عموماً لم تكن، يوماً، محل خلاف. وفي هذا يقول الدِّبلوماسي الرُّوسي ألكسي بوكالَف الذي وضع كتاب "إفريقيا بوشكين" بعد أن عمل 10 سنوات في الصُّومال وإثيوبيا: "لا يمكن وضع النُّقطة في نهاية سطر أي نقاش عندما يتعلق الأمر بببوشكين! فنحن، جميعاً، نستشعر صلة القربى معه، ويشغلنا كلُّ ما قيل أو كتب عنه. ولأنه حفيد جدٍّ أفريقي، فقد كان يدرك أنه لا يشبه الآخرين. إنه مميَّز، بما في ذلك صفاته الخارجيَّة. كان شديد السُّمرة، مجعَّد الشَّعر، رشيقاً، يتجلى فيه كلُّ اندفاع الدَّم الأفريقي. كانت أفريقيا حاضرة دائما في أعماله. وكان على اتصال مستمر مع المستشرقين والِّدبلوماسـيِّين الذين عملوا في أفريقيا، وفي الشَّـرق عمـوماً".
لكن البلد المحدَّد، في القارَّة السَّوداء، الذي ينتسب إليه بوشكين من جهة أمِّه، هو الذي لم يكن محسوماً، فقد نُسب، أحياناً، إلى الكاميرون، وأحياناً إلى تشاد، وأحياناً إلى الكونغو. لكن، بينما أشارت أغلب البحوث إلى إثيوبيـا، عادت كثير مـن البحـوث لترجِّح إريتريا بالذَّات! أمَّا في مستوى التَّقدير الشَّخصي فتجدني أغلِّب أن ذلك التَّرجيح كان ثابتاً، أصلاً، منذ البداية، لولا تحفُّظ موسكو، طوال تلك الأزمنة، بسبب حساسيَّة كانت معروفة لديها، منذ أيَّام الاتِّحاد السُّوفيتي، تجاه الملابسات التي كانت تحيط بالعلاقة بين إثيوبيا وإريتريا، ومن ثمَّ فإن الرَّاجح من اضطرار موسكو للعودة إلى الإعلان عن نسبة بوشكين إلى إريتريا أنها قد استندت، ليس إلى نتائج بحوث أكاديميَّة تاريخيَّة فحسب، وإنَّما إلى وقائع تحوُّلات سِّياسيَّة كبرى، رفعت عنها الحرج، ونجمت، مطلع تسعينات القرن المنصرم، عن ممارسة إريتريا لحقِّها في تقرير مصيرها، واختيارها الاستقلال السِّياسي عن إثيوبيا! ولعلي أستند في هذا الاستنتاج إلى ثلاث حجج مهمَّة: أولاها أن أقوى الروايات المعتمدة حول انتقال الجِّد إبراهام هانيبال من أفريقيا إلى الأراضي الرُّوسيَّة هي أنه قد تم اختطافه من ساحل البحر، وفي ذلك إشارة حاسمة إلى إريتريا، حيث أنها هي التي تملك مثل هذا السَّاحل، وليس إثيوبيا، بصرف النَّظر عن أن بلاد الحبشة ضمَّت، في وقت من الأوقات، ولأسباب مختلفة، أراضي كلا البلدين، دون أن ينفي ذلك حقيقة أن إريتريا كانت، تاريخيَّاً، كياناً قائماً بذاته من النَّاحية السِّياسيَّة! وثانيتها أن النِّقاب لم يُزح، حتَّى الآن، بشكل وافٍ ومقنع، عن طبيعة البحوث التَّاريخيَّة التي يقال إنها أجريت، فأثبتت، مؤخَّراً فقط، نسبة بوشكين إلى إريتريا بدلاً من إثيوبيا! وثالثتها أن هذه البحوث لم تُجرَ إلا بعـد اسـتقلال إريتريا، في عقابيل حرب ضروس ظلت مشتعلة حول ذلك الاستقلال، منذ مطـالع سـتِّينات القـرن المنصرم، وهـذا ما لا يُعقـل أن يكـون قد وقـع بمحض الصـُّدفة!
مهما يكن من شئ، فإن الدَّرس المستفاد، هنا، هو أن علاقة أيِّ جزء من الوطن به هي علاقة لا يمكن جحدها أو تزويرها، إذ مهما طال الزَّمن، ومهما برع الجَّاحد أو المزوِّر، أو استقوى، فلا بُدَّ من يوم يعود فيه الجُّزء إلى الكل.

(5)
أمَّا أكثر ما يثير الأسى والحزن بشأن سيرة بوشكين فهو المصير المأساوي الذي انتهى إليه. فقد قضى، عام 1837م، على يد بارون فرنسي نكرة يدعى جورج دانتيس، أثناء مبارزة بالمسدَّسات دعاه لها بوشكين، وفق تقاليد القرون الغابرة، حيث اتَّهمه بأنه على علاقة بزوجته ناتالي. وكان دانتيس قد تزوَّج من شقيقة ناتالي خصِّيصاً كي يقترب منها، الأمر الذي أثار حفيظة بوشكين!
الشَّاهد أن أفضل أطبَّاء روسيا، آنذاك، بما فيهم أطبَّاء القيصر نفسه، فشلوا في إنقاذ حياة بوشكين، بعد تلقِّيه رصاصة قاتلة في بطنه أثناء المبارزة. هكذا مات الإرتري العبقري، وعاش الفرنسي النَّكرة .. فتأمَّل!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى