الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رغيف أبي - من حكايات الحي القديم

فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة

(Falasteen Rahem)

2019 / 11 / 6
سيرة ذاتية


أمي إلتي لا تخطإ أبي، حدست وهي تقف على تنورها في عصر تشريني مر بنا في منتصف ثمانينات القرن الماضي ، ان ذاك الظل الذي يتقدم إليها ويترآى لها في اول الشارع الطويل والذي يجر في طرف ردائه أمرأتين،أبي، كان الخريف ينشر ظلاله فتصفر الحقول بينما تنبت ساحات المدارس شغبا ابيض القمصان وعصافير تبحث عّن مخبأ في جدران مدرسة تعرت شجيراتها ، غير آبهة بالأناشيد الصباحية ولا تفزعها وحشة الليل في بناء تسكنه الأشباح في النهار وتفرغ منه في المساء، وكنا نلعب على دكة تنورها حال عودتنا من المدرسة منتظرين اخر واصغر الإرغفة وأكثرها حنانا لذلك كان اسمها ( الحناية) دون ان نكترث لبقايا الجص الأبيض الذي يعلق بملابسنا ، وعلى الأغلب كنا قد بنينا دكة التنور يومها من مادة الجص التي أخذناها عن بيت فلاح ليس قريب جدا، وربما كان يستعد لبناء غرفة استعدادا لزواج احد ابنائه، تلك الأعراس التي تكثر في موسم الجني والحصاد ، فيصير تشرين مزدحما بالطلبة المتغيبين والأعراس التي لا تنتهي حتى دخول الشتاء .
لا ادري كيف يلتقط هذا الرجل ضيوفه ، قالت امي ، فلما وصل أبي قدم السيدتين وهما طالبة وأمها ، كانتا من السماوة، جائتا من أجل تسجيل الابنة الطالبة في المعهد الفني بالكوفة والذي كنا نسكن في منزل صغير تابع له، المرأتان اللتان حل عليهما الظلام دون ان يعرفا كيف يمكنهما قضاء ليلة في هذه المدينة التي لا يعرفن فيها احدا، سمع همسهن أبي وهن يتشاورن حول إمكانية وجود فندق قريب، فعز على أبي الفلاح والموظف على آليات كري الأنهار و آلاليات الزراعية ، وكان افضل من يقوم بقيادتها ويستعان به في تدريب المنتسبين الجدد عليها ، عز عليه هو الذي ورث قُري الغرباء كيفما كانوا عن أبيه وجده الذي كان أسمه مستعارا من جذوة لهب النار ، ماجعله يتفاخر به ، فنار الضيف لم تخفت جذوتها عند أبي ليحمي المرأتين من الظلام في المدينة التي بدت تستعد للشتاء ، فتدخل بين السيدتين وطلب إليهما ان يستضيفهما في بيته الذي يسكنه أربعة اولاد وخمسة بنات مع أمهن آنذاك ، بيتنا المكتظ بالأولاد كان لا يحتار في ايجاد مكانا لضيف بيننا ونادرا ماكان بيتنا يخلو منهم ، دخلت المرأتين على استحياء ، وكانت تلك الليلة ميلاد ضيفة لمدة سنتين ، فعلى الرغم من أن ابي نجح في الحصول على مكان لسعدية وهو أسم الابنة الطالبة بالمعهد الإداري ، نجح في حجز سرير لها في غرفة بالأقسام الداخلية للطلبة لكنها ظلت ابنتنا الطالبة في المعهد حتى تخرجت وتزوجت ، لم تفزع أمي من طيبة أبي وطبعه في حب الضيوف ، لكن مبيتها ساهرة علينا وهي تحمل في يدها سكينة تستخدم في تنظيف النخل من الحمولة الزائدة من السعف والعذوق ( عثوك التمر ) في أوائل التسعينات ، كان ذلك بعد دخول الجيش لتطهير المدن ( وكان هذا اسم العملية التي قام بها الجيش ) من الغوغاء( وكان هذا اسم المنتفضين ) بعد الانتفاضة الشعبانية ، وانسحاب الجنود من الكويت ، لا ادري كم من الوقت مر على أمي وهي لا تنام بعد انقطاع اخبار اخي الجندي المكلف في كتيبة المشاة ، واستشهاد خالي الطيار ، في تلك الليلة الاذارية كانت أمي مثل جندي يستعد لعملية استشهادية ، فالضيف الذي حل علينا في ذلك المساء كان غريبا جاء به الليل إلينا بعد ان سدت بوجهه كل الأبواب التي طرقها، فدله اهل القرية على باب لا يرد طارقه، فكان باب أبي قبلة الخائفين في تلك المحنة التي قشرت معدن الرجال فلم تجد لأبي جلدا غير جلده ولا عرفت له لونا غير لونه ، فهدء روع الغريب وسكن الخرف أمي، الذي لم يثني أبي بأن يجعل سقف بيته ملاذا لكثير من العوائل التي لا نعرف معظمها، يطعمهم ويسهر على حمايتهم مستعينا ببندقية قديمة ، الاهالي الذين كانوا يبيتون بيننا ويتقاسمون معنا قلق ومرار تلك الأيام ،لم نعرف مصيرهم بعد تلك الأشهر التي قضوها في بيتنا، أبي الذي لم يهتم ان كان الرجل مطلوبا من جهة او العكس ، كان ضيفه وهذا بالنسبة له سبب كاف ليحميه ، فيما كان اهل القرية ينتظرون جريمة تقع او عقاب ينزل به ، لم يتخل عنه رغم نذر الجيران ورعب أمي من نوازل القدر ، نمنا تلك الليلة مطمئنين لسكين أمي الحارسة على باب غرفتنا حتى طل الصباح اخذ ابي ضيفه وأوصله إلى أقصى مكان يمكنه مرافقته إليه معززه بالمال والطعام دون ان يسأله، قتل فضوله بخجله، أبي كان رجلا خجولا جدا، فلم يستطع ان يسأل ضيفه الذي خاف هو الاخر مكاشفة أبي بحكايته فرجل بهذا الكرم قد يكون كريما بأسراره ايضا ، مضت تلك الأيام ومضى أبي بعدها بقرابة ثلاثون عاما ، لم يتبدل طبعه ولا رد بابه طارقا ولا عرف طعم الزاد دون ان يبحث عمن يشاركه به، فدار أبي كانت دوما واسعة بعينه تتسع لكل الناس ورغيفه فائضا يشبع جميع الناس ايضا، رحل أبي تاركا بيتا فسيحا بغرف شاغرة ، وخان السكر أمي فأقعدها مكتفية بخبز الدخن والشوفان، وانطوت حكايات مفاجآت الضيوف ، فيما بقي تنور أمي الطيني يأوي القطط في المساء بعد ان هجرته النار ، وغاب الصغار عن دكته المبنية باللبن المستعار من بناء ذاب هو الاخر فرط التحضر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يوقع حزم المساعدات الخارجية.. فهل ستمثل دفعة سياسية له


.. شهيد برصاص الاحتلال الإسرائيلي بعد اقتحامها مدينة رام الله ف




.. بايدن يسخر من ترمب ومن -صبغ شعره- خلال حفل انتخابي


.. أب يبكي بحرقة في وداع طفلته التي قتلها القصف الإسرائيلي




.. -الأسوأ في العالم-.. مرض مهاجم أتليتيكو مدريد ألفارو موراتا