الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات الرفيق وليام قوبيك

سعد محمد عبدالله
- شاعر وكاتب سياسي

2019 / 11 / 11
سيرة ذاتية


الرفيق وليام قوبيك - كان ظاهرة إستثنائية في تاريخ كفاح الحركة السياسية والحقوقية السنارية الممتدة عبر الحقب والحركة الشعبية كأقدم تنظيمات الكفاح الثوري التحرري في السودان وقارة افريقيا، وسنار تعتبر من أهم مدن السودان قامت فيها حضارات إنسانية أجمل ما فيها التسامح مع التنوع الثقافي والديني، وللجنوبيين تاريخ أصيل في سنار، وكان الرفيق وليام قوبيك صفحة جديدة من تاريخ السناريين وضع عليها بصمته الخاصة وغادر الحياة دون أن يغادر قلوب وعقول الملايين، فهو كنجما لامعا يتوهج إسمه بين سطور دفاتر الذكريات الإنسانية، ومنابر السياسة تذكر التحولات التي أحدثها بخطابه التفاعلي الرصين الذي جعل مشروع السودان الجديد يبدوا كطعام الناس وحلوة الأطفال في الأعياد ليضع الحركة الشعبية ضمن التنظيمات الكبرى المنتشرة في كل البيوت، فشخصية وليام لها وزن وجاذبية وحضور علي سطح المسرح السياسي والفكري السناري، وقد عاصر جيلنا الحالي حياة ذاك المناضل الوحدوي الجسور في أشد وأحر سنوات الكفاح المسلح والمدني لتحرير السودان من الحكم الدكتاتوري الإسلاموعسكري الذي سطى بالسلاح علي الحياة العامة وإستبد بشعب السودن، وكان العمل الثوري والسياسي السري في ذلك العهد الظلامي يحتاج لعقل حركي راجح ولا يركن للضغط البوليسي وقد جسده الرفيق وليام حينئذن مع عدد من الرفاق الأحرار، وفي عهد إتفاقية السلام ظهر الرفيق قوبيك بخطاب سياسي وإنساني جديد إستمده من تعاليم السودان الجديد وأخلاقه الإنسانية الرفيعة وتجاربه السياسية الممتدة وسط الجماهير، وكانت ندوته التاريخية الشهيرة بميدان الجنوبية - سنار المدينة علامة لامعة غير قابلة للمسح من ذاكرة الشعب السناري، ففي سياق حديثه للناس حينها عن ثقافة السلام إستشعر ما جاش في نفوسهم من شعور بأهمية السلام فطلب منهم إحتضان بعضهم البعض والتصافح تعبيرا عن المحبة والسلام ولما فعلوا ذلك خرت دموعهم تجري كالنهر حبا وسلام.

إن العودة لسيرة كفاح الرفيق وليام قوبيك تفتح شرفات عديدة لتنسم رياحيين الحرية والسلام والإنسجام الروحي والفكري مع ترانيم الثورة وإستشراف المستقبل بعيون مبصرة للحقيقة بعدسة السودان الجديد، فمن إرث قائدنا وليام السياسي والثوري نتذود بالأمل للخوض في مستنقعات الحياة سعيا للمستقبل المنشود، وهذه السيرة العظيمة من تجليات الظاهرة السياسية الكامنة في شخص سناري خرج من رحم حضارة ممتدة جزوها ضاربة في التاريخ السوداني التليد، وشخص كوليام قوبيك يمثل رابط إنساني وثقافي بين شعوب السودان وجنوب السودان، أولئك الذين تقاسموا الماء والطعام والأرض والتاريخ منذ قرون خلت وفرقتهم سياسات تلك الحكومات الظلامية الفاسدة والمستبدة، فالوحدة الجاذبة كانت ممكنة في السودان لولا تسلط النظام الإنقاذي العنصري الإنفصالي، ولم يكن إنفصال جنوب السودان في العام 2011م نهاية لما كان يربط بين وليام ورفاقه في السودان، فقد ظل بعد رحيله إلي جوبا يتفقدهم بين الفينة والآخرى سائلا عن أخبارهم والأرض التي أحبها وعاش فيها جل عمره، ولن ننسى لحظات وداع الجنوبيين، وعندما قام النظام الإنقاذي الغازي بالهجوم علي النيل الأزرق وجنوب كردفان رافضا الإتفاق الإطاري الذي وقعه القائد مالك عقار معهم لمنع تجدد الحرب مرة آخرى إستباح جنود جهاز الأمن الإنقاذي دور الحركة الشعبية وقاموا باعتقال مئات الرفاق/ت والزج بهم في السجون، وكان وليام حينها في جوبا يراسل المعارف ليعرف ما يجري، وإتصل بي في اليوم الثالث تقريبا من إطلاق سراحي، وكنت أشعر بمرارة أناته وهو يحاول كعادته إخفاء ذلك وتبسيط الأمور ليخفف من وقع الفجيعة والجراحات لكني كنت أعرف طبعه وأستطيع التمييز فيما يشعر به من خلال تذبذب نبرة صوته، وقد ردد لي بلطف عبارة "أصبر يا رفيق" فكانت بمثابة بسلم لجرح عميق أصابني إزاء بؤس تلك الحروب التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء بين قتلى وجرحى ومشرديين بسبب سياسات النظام البائد الذي رفض كل الحلول السلمية لحقن الدماء وأصر علي فرض حلوله العسكرية، وإستمر الكفاح ضد الحكم الإنقاذي الإستبدادي، بينما ذهب الرفيق وليام قوبيك للعمل والعيش في دولة جنوب السودان الوليدة علي أمل أن نلتقي، لكني وللأسف الشديد أفاجئ بنبأ إغتيال الرفيق وليام غدرا في العام 2016م من قبل مجهوليين، فكانت حادثة مؤلمة جدا لم أستطيع إستيعابها في ذلك الوقت، وكنت كلما جلست علي "مقهى" في القاهرة لا أتذكر إلا نضالات وتضحيات وليام من أجل سنار والسودان الجديد، وكان يحضرني في أزهى صورة حين أتذكر صوته علي الهاتف وهو يقول لي عبارة "أصبر يا رفيق" فهذه العبارة عالقة في ذهني ولا تنسى مهما طال الزمان، لكني صبرت حتى ضاق صدري يا رفيقي.

كانت سنار وككل مدن السودان إبان توقيع إتفاق السلام الشامل المعروف إصطلاحا باتفاقية "نيفاشا" تطلع لعهد جديد من التغيير والتحرر والإنفتاح علي العالم الخارجي، فقد أنهت تلك الإتفاقية أطول وأشنع حرب أهلية في تاريخ دولة السودان والقارة الافريقية، وكان للحركة الشعبية مجهر تحليل سياسي وفكري خاص شخص جزور الأزمة الوطنية التي ترجع لبدايات تأسيس الدولة الحديثة، وفي ذلك الوقت الدقيق من تاريخ السودان أنتجت الحركة الشعبية خطاب جديد تجاوز سياقات الأنماط المألوفة سابقا ليتحدث عن السودان الجديد والوحدة طوعا وإختيارا علي أساس التنوع التاريخي والمعاصر وتساوي الحقوق والحريات لكل السودانيين وإزالة كافة أشكال التمييز في الشمال والجنوب وإسقاط المركزية الثقافية والسياسية والإقتصادية التي تسيطر علي البلاد ونقل المدينة إلي الريف وتوفير مناخ صحي لمشاركة الجميع في السلطة، فمع بروز شخصية القائد جون قرنق دي مبيور كمناضل ثوري وسياسي حكيم ومدافع صلد عن حقوق الكادحيين المهمشيين برزت عدة شخصيات في الحركة الشعبية تشاركه ذات الحلم وتحمل حمض الحرية والسلام وتدافع عن السودان الجديد في معارك ضارية ضد النظام الإنقاذي ومن بينهم وليام قوبيك الذي رسخ المبادئ الثورية في مدن وقرى سنار فصار أملا نيرا للفقراء والكادحيين وقائدا للتغيير، وأذكر ذات يوم إلتقيته في مكتبه بدار الحركة الشعبية من أجل الإعداد لندوة سياسية تقام في الدار، وبينما كنت أحادثه حضر الأعمام فلنتينو واني وحسن سليمان وشاركونا في الموضوع، وقال وليام فيما معناه "يا رفاق حرروا دعوات لسكان القرى فهم بناة السودان الجديد"، ما زلت أتذكره بهذه العبارات العميقة في معانيها ومضامينها، وكلما تذكرته أحاول تحليل وفهم ما كان يقصده بتوجيه دعوة خاصة لسكان القرى رغم بعد المسافات بين المدينة والريف كما مليا في إهتمامه بقضايا وهموم الفقراء والكادحيين، فقد تعلمنا من وليام قوبيك كيف نحلم ونعيش حياة السلام، وكيف نحب بعضنا والآخرين، وكيف نثور ونقاوم بصبر، وتعلمنا أيضا ما معنى الوقوف مع الفقراء والكادحين في نضالهم اليومي من أجل حياة كريمة، وكم نحتاجه اليوم في عالم معقد وشديد القسوة، وفي طريق السلام المحفوف بالمخاطر، ونحتاج لحسه الوطني وأفكاره النيرة وحبه الذي لا ينتهي، نحتاج لذلك الفارس الذي ما خاض نزالا في منابر السياسة وساحات الثورة إلا وإنتصر بحنكته وعقلانيته وصموده، نحتاج ونشتاق جدا لتلك الندوات والنقاشات الدسمة حول السلام والسودان الجديد الذي ناضل من أجله مع جميع الرفاق الأحرار، نحتاج إليك حقا لكنك قد رحلت، فشكرا لك وليام قوبيك، أنت إنسان رائع، ولن ننساك.

11 نوفمبر - 2019م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات في بريطانيا لبناء دفاع جوي يصُدُّ الصواريخ والمسيَّرات


.. جندي إسرائيلي يحطم كاميرا مراقبة خلال اقتحامه قلقيلية




.. ما تداعيات توسيع الاحتلال الإسرائيلي عملياته وسط قطاع غزة؟


.. ستعود غزة أفضل مما كانت-.. رسالة فلسطيني من وسط الدمار-




.. نجاة رجلين بأعجوبة من حادثة سقوط شجرة في فرجينيا