الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لبنان بين التحركات الغاضبة وفرص الثورة الفعلية

ناجح شاهين

2019 / 11 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


"أفكر أن هناك ارتباطاً بين الأشياء السريعة من قبيل القهوة وبين الحراكات التي تفبرك على عجل" الصديقة غادة عمار
لا معنى أبداً للأفعال الناجمة عن محاولة كسر الرتابة والملل أو القيام بأي شيء من أجل التخلص من حالة التثاؤب القائمة منذ "الأزل" على صعيد الإحباط السياسي والاقتصادي القائم وإحساس الناس بأن شيئاً لا يحصل على الرغم من أن العالم في سيرورة وصيروة متصلة لا تتوقف، باعتبار أن العالم أصلا في حركة دائمة دائبة مثلما اكتشفت الفيزياء الحديثة، وأن السكون لا وجود له في أي مجال إلا على صعيد الوهم.
في هذا السياق يفكر الناس في الانتحار ويفكرون في فعل أي شيء للتغيير. هنا يبدو وكأن أي شيء يحدث هو أفضل من حالة الركود السائدة. بالطبع إذا كان هذا يحصل على صعيد الفرد نفسياً ولو لبعض الوقت فإنه ليس صحيحاً بالنسبة للتاريخ: ليس اي شيء يحصل أفضل من لا شيء بالنسبة للتاريخ. بالتأكيد ليس ما حصل في ليبيا مثلاً افضل من الوضع "السيء" أيام القذافي.
دوافع الأفراد في سياق الفعل الجماهيري أو الجمعي ليست دوافع "ثورية" محسوبة جوهرياً، إنما هي دوافع ذاتية آنية ومؤقتة محكومة برغبة الفرد في التخلص بسرعة من حالة ملل أو ركود أو فقر سائدة منذ بعض الوقت تقود إلى فقدان المعنى وحالة من الاكتئاب والإحباط الدائمة. وهذا ينطبق كثيراً على أبناء الطبقات الوسطى الذين يعانون من الملل والفراغ وانعدام الهدف في ظل مقدار من التردي الاقتصادي، أكثر بكثير مما ينطبق على أبناء الطبقات الشعبية التي تعاني فعلاً من أجل الحصول على رغيف الخبز.
هكذا يستعجل الشبان والطلبة من أبناء الشرائح المدينية من فئة الموظفين الواسعة الانتشار في بلادنا "حركة التاريخ" دون أن يعدوا العدة لتحقيق أهداف جدية وعميقة. وهكذا يطرحون على أجندة اللحظة قضايا متناقضة منطقياً وغير قابلة للتحقيق من قبيل الديمقراطية الليبرالية أو الرفاه الفوري، وهو ما يجعل اجتراح الحلول السياسية أمراً محالاً حتى عندما تصدق النوايا الثورية.
بالطبع لا يجب أن نلوم "الشوراع" العربية في الوقت الذي ينبغي علينا فيه أن نلوم الأحزاب الثورية التي كان عليها أن تتصدى لمهمات تعبئة الجماهير وتوظيف طاقاتها الهائلة في هذه المرحلة وحاجتها النفسية والمادية للتغيير.
لكن علينا أيضاَ أن نحاول التماس الأعذار ايضاً للأحزاب التي يفترض فيها أن تنشد التغيير الاجتماعي. فقد ابتلعتها الأنشطة الممولة من مراكز العالم المهيمنة وتجاوزتها قدرات الإعلام الجمعي ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته التي تنقل الفكرة والمعلومة بل تصنعهما وتنشرهما في وعي أو لا وعي أعداد هائلة من البشر الذين يمكن أن يتحركوا لاحقاً حركة "تلقائية" تتوافق مع نوعية التعبئة التي تحققت. إن الزمن الذي كان الحزب فيه يحتكر "المعرفة" ويصدرها إلى كوادره وجماهيره عن طريق الجلسات أو النشرات السرية قد ولى إلى غير رجعة وأخلى مكانه للخبراء الذين تزدان بهم قنوات عملاقة نعرف منها في بلادنا الكثير من قبيل العربية والجزيرة والميادين إضافة إلى عشرات غيرها. هذه القنوات يقودها حرفيون إعلاميون خبراء في توظيف المعطيات والصور وتكييفها بحيث تتسرب كالنعاس اللذيذ إلى العقول. حتى الخبراء المزعومين الذين تستضيفهم يقومون بالضبط بخدمة "الرسائل" التي يزرعها هذا الإعلام.
في العموم يستطيع أي مواطن، وخصوصاً الشباب الصغار الذين يفيضون من البيوت إلى الشوراع في هذه الأزمنة على غير انتظار أن "يعرف" "الحقائق" كلها بسرعة فائقة ودون أن يقرأ صفحة واحدة، إن الحقيقة على بعد كبسة على صفحة هاتفه "الذكي" أو على شاشة التلفاز التي "توهم" الفرد بعد نشرة مفصلة مصورة طويلة مشفوعة بتحليلات الخبراء أنه قد اصبح متمكناً من الموضوع تمكناً تاماً يؤهله لمقارعة أنطونيو غرامشي وروبرت دال وسمير أمين.
السرعة الفائقة هي ما يميز هذا العصر الشبابي "الشجاع". وهذا الجيل الشجاع "يعرف" كل شيء في سرعة رهيبة لا نظير لها في الأزمنة السابقة. وهو يتحرك بسرعة ماكدونالدز في الأطعمة السريعة المدمرة لصحة الناس مع أنها تجلب لهم الفرحة وتجلب لنفسها تراكماً مذهلاً لثروات لا تأكلها النيران.
ينزل الجيل الحالي إلى الشوارع وهو يعرف كل شيء عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير ومعارضة الفساد، ويطالب بشجاعة تامة بسقوط الحكم. وهكذا يرتفع الشعار التائه المشروع: "الشعب يريد إسقاط النظام" أو "الشعب يريد إسقاط الفساد" أو "كلن يعني كلن"...الخ لن نعرف أبداً في أية لحظة في هذا الزمن الشجاع من هو الذي صنع الآخر: هل وفر الجمهور اللحظة المنتفخة للإعلام أم أن الإعلام هو الذي نفخ اللحظة للجمهور؟!
بالطبع لا يعرف الشباب الغاضب "المستعجل" جداً أن أقل من عشر المصيبة الراهنة هي الفساد أو سوء النظام الحاكم ...الخ هو لا يعرف أن قضايا بنيوية كونية تحول دون "إقلاعنا الاقتصادي" أو استقلالنا السياسي أو نهوضنا العلمي، وأن قادتهم الذين يصرخون في الميادين لن يتمكنوا من فعل شيء فيما لو سلمناهم مقاليد الأمور. بمعنى آخر إن مزيجاً من الثورية والشجاعة والعقل المبدع الحكيم المتملك للرؤية وأسس المحاكمة المنطقية الصارمة هي ما يلزم في هذه المواجهة الهائلة من أجل بناء الزراعة والصناعة وتحقيق الاستقلال وفك الارتباط التبعي بالاستعمار وبناء نظم صحية وتعليمية ملائمة لاحتياجات البشر في هذا العصر.
نعرف تماماً أن المقاومة اللبنانية وقيادتها الفذة قد حازت بالفعل الأدوات الضرورية لمواجهة العدو عسكرياً وسياسياً، ولكننا لا نعرف حقاً عن وجود أية جهة عربية اجترحت معجزة إيجاد مخرج لحالة الاستعصاء في ميادين البناء بما يشمل الثورات الصناعية والزراعية والعلمية والتقنية. وقد يكون تعميم التجربة الثورية السياسية للمقاومة اللبنانية في هذا الوقت هو الأولوية القصوى من أجل أن نحقق الاختراق الكبير في طرق مقاومتنا للعدوان الاستعماري في فلسطين خصوصاً وكثير من بلدان العرب عموماً. بعد ذلك أو بالتزامن معه، ينبغي أن نعمل بالسبل كافة على تحديد معالم طريق البناء الشاق.
أما ما يحدث في لبنان في هذه المرحلة فقد يتلخص في أن تؤدي الموجات الغاضبة العمياء إلى الفوضى التي يرعاها إعلام وأكاديميا غوغائية تدور في فلك الاستعمار العالمي. ولعل من المفيد هنا أن نؤكد أن تسلم الفئات الليبرالية أو المتدينة لزمام السلطة السياسية يضعها في مواجهة المعضلة التي لم تفكر في حلها بسبب انهماكها مع ملايين الشبان الغاضبين في مشروع إسقاط الحكم السياسي أياً كان هذا الحكم. وهنا نتذكر أنه عندما استلم الراحل محمد مرسي رئاسة مصر تكشف له ولجماعته وللمجتمع كله حدود ما يستطيعه شعار "الإسلام هو الحل" عندما يضرب رأسه بصخور المآزق الاقتصادية المصرية الموروثة من زمن انفتاح أنور السادات. أما تونس فإننا لم نشاهد أي تغير مهم فيها على طريق البناء على الرغم من مرور ما يقرب من العقد على "الثورة". وبالطبع انهارت لبيبا على نحو مريع.
يحتاج مشروع البناء إلى حرب أشد ضروارة وأذكى بما لا يقاس من مجرد تحرك الناس في الشوراع لينادوا كيفما اتفق برحيل الحكم. وربما يكون إسقاط الطبقة اللبيرالية/البرجوازية الفاسدة ضرورة للتأسيس للبناء ولكن ذلك ليس تحصيل حاصل سهل وملقى على قارعة الطريق. إنه برنامج ذكي وخلاق كفاحي ومعقد ومحفوف بالمخاطر التي قد تقود إلى تقويضه مهما كانت النوايا سليمة. ليس صعود الصين بالظاهرة السهلة التفسير على الرغم من ضخامة هذا البلد وضخامة إمكانياته، وأما البلدان الصغيرة من قبيل ماليزيا وإندونيسيا فإن فرصها أصعب حتى مع توافر عقلية نادرة ومخلصة مثل العجوز المحنك مخاتير محمد. ترى هل يجب علينا أن نفكر حقاً في "حل" لقضية لبنان منفرداً؟ هل هذا الحل ممكن حقاً؟ أم أن حل معضلة لبنان قد تكون واردة فقط في حال تكوين كتلة أكبر مكونة من سوريا والأردن والعراق على سبيل المثال؟
ليس سؤالنا هذا من باب "الدعاية" للوحدة والقومية العربية ...الخ إنما هو تساؤل معرفي جدي حول كيفية صياغة ما هو ممكن واقعياً لإخراج لبنان من عنق الزجاجة الحالية التي لن تنجح حكومة تكنوقراط جعجع بالتأكيد في إخراجه منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق