الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارل ولغز الورقة

أكرم شلغين

2019 / 11 / 16
الادب والفن


خصصني المكتب المعني بجامعة إيسكس بالسكن في الغرفة رقم 9 وفي الطابق الحادي عشر (11/9) من البرج السكني المسمى ويليام موريس، باسم الشاعر البريطاني ومطوّر نظريات حول مهارة الصناعة اليدوية في الفنون التزيينية في القرن التاسع عشر. كان معظم الطلاب الذي سكنوا الغرف في الطابق إنجليز ما عدا خمسة وهم طالباً اسبانيا وآخر مغاربياً وثالث نيجيرياً وآخر من اليونان بالاضافة لي من سوريا. لا أقدّر الآن بعد هذه السنين كم أحببت تلك الغرفة...! كانت لما هي وبما فيها كل ما أريد لأدرس وأنام فإضافة لموقعها العالي الذي يسمح لي برؤية الأرض المكتسية بالاخضر من الأعالي وأشجار الكستناء تتوزع بشكل جميل وسطها كانت نافذتها الأخرى تلبي فضولي إن أردت من ذلك العلو مراقبة المارة الماشين باتجاه المبنى الرئيس للجامعة بإدارتها وقاعاتها وباراتها وساحاتها وملاعبها الرياضية ومباني غسالاتها...إضافة إلى الفضول والاستغراب برؤية ما تفعله الرياح في أحيان نادرة حين تشتد وتدفع بالمارة بين الابراج لعدم التوازن بسبب قوة الريح... وأحببت تلك الغرفة أكثر خاصة أنه لم يكن عليّ أن أنظفها لأن عاملتي التنظيف (جيني و آن) يقمن بذلك بدون تذمر دورياً وهن يمازحن الطلاب... كان السكن في تلك الغرفة مغنيا لي من حيث تنوع انتماءات جيراني بين إنجليز وهويات أخرى ووجود ثقافات متنوعة في الوعي والتعامل مع الاشياء والاشخاص. كنت أرى الكريم والبخيل، الحريص واللامبالي، العقلاني والمتهور، المتدين ونقيضه، من يحب الحياة وأتى للجامعة متحلياً بذلك الحب ومن أتى للجامعة وهو يريد إنهاء مرحلة ليبدأ مرحلة أخرى، من يعتقد أن الوقت يسير ببطء من يشعر أن الأيام تركض، بين من كان فرحاً ليعلّمك عن بلده وبين من كان ضمنياً لا يرغب برؤية أجانب يشاطرونه السكن والعيش، بين من يُقحمك بالحديث عن التاريخ الاستعماري الانجليزي مبدياً أسفه وبين من يتفاخر بإنجازات الإنجليز العالمية والتاريخية...أقاطع هذه الملاحظات مع صخب هؤلاء وصخبي معهم (عند الضرورة)، مع أصوات التسجيلات الموسيقية تنبعث ليس فقط من معظم الغرف بل من الطوابق العليا والسفلى من المبنى...هناك من يضع موسيقا راقصة ويهدر في المبنى صوتيا وجسدياً وهناك من يضع موسيقا فولك وكونتري وبوب... وهناك من يستمع للمغني ستيفي ووندر "من أجل حبك قد أفعل كل شيء، فقط لأرى الابتسامة على وجهك" أو أغنية ميت لوف "أفعل كل شيء من أجل الحب ..إلا تلك..!" ويغني معه وكأنه يريد إما أن يتدرب على الدخول في مسابقة اختيار مغنين ومغنيات أو كأنه بحالة عشق أنسته موقعه الجغرافي والاجتماعي فراح يرفع من صوته وكأنه يريد أن يُسمِع في شمال بريطانيا من يحبها، عمق حبه لها...! بل، ومرة شعرت أنه بطريقة غنائه يظن أنه يستطيع تأديتها أفضل من المغني نفسه وقد عشق صوته وراح يدير الأغنية في المسجلة الكبيرة (الستيريو) ويغني معها...كنت ممنوناً للظروف التي وضعتني في هذه الأجواء، فكنت أراقب وأتعلم من كل شيء ومن كل شخص، كان ذلك بشكل مباشر وعبر النقاش وكذلك بشكل غير مباشر. كنت واحداً من المجموعة في تلك الشقة السكنية وكانت صلتي بالأجانب في السكن مليئة بالود والاحترام وكذلك بالنسبة للإنجليز فقد كنت أعرف أنهم لايحملون في قلوبهم مقتاً أو كرهاً لي أو تحيزاً ضدي كغريب بينهم، بل على العكس سمعتهم أكثر من مرة يتهامسون عن نظرتهم لمن يسكن بينهم فكانت تتسرب من بين همساتهم ملاحظات التقدير لمن "يحب الحياة".
بعد قضاء ساعات حافلة في الجامعة متنقلا بين قاعات حلقات البحث والمقاصف والمكتبة أعود لسكني ولغرفتي وأقضي بعض الوقت في الدردشة مع جيراني في مطبخ (11/9) الكبير ذو الاطلالة الرائعة ثم ألزم غرفتي وأشرع بالدراسة والكتابة وتجميع الملاحظات من الكتب التي كومتها حولي على السرير وأبدأ بتلخيص هذه النص أو بإعادة صياغة ما كتبته أو أن أتلف هذه الورقة وأبدأ بالكتابة على أخرى... كنت أقوم بذلك بشكل تلقائي دون أن يسرقني أو يقلقني ما يدور خارج غرفتي، أكان ذلك صوت الموسيقا المنبعث من هنا وهناك أم صوت الطالب الاسباني (خوسيه) وهو يتشاجر مع صديقته الانجليزية إما داخل غرفته او خارجها..أم صوت اليوناني يانوس وهو يتكلم بصوت عال باليونانية عبر الهاتف العام في السكن....اما داخل غرفته (رقم7) أو في الموزع....كانت دراستي تسير بشكل جيد وليس هناك ما أخاف منه أو أقلق بسببه ولهذا لم يقرع الصخب رأسي بل أصبح كموسيقا تصويرية لجو دراستي...
وسط هذه الزخم من ضجيج الأجواء مرت الأسابيع وكل ما حولي جديد وممتع بالنسبة لي وكأنما طفل يتعرف على الأشياء للمرة الأولى وجاء شهر ديسمبر حيث بدأ الجميع يتكلمون عن قضاء عطلة عيد الميلاد ورأس السنة مع عوائلهم وذويهم في هذا الجزء من بريطانيا أو ذلك وكذلك الاجانب قرروا أن يسافروا وحتى المغربي فقد اعتزم الذهاب إلى لندن لقضاء العطلة الطويلة مع أصدقاء ومعارف له...فعلوها تباعاً..وهكذا بدأت أصوات الطلاب وصيحاتهم وموسيقاهم تخفت وتتلاشى بالتدريج فما أن جاء الأسبوع الأخير قبل عيد الميلاد حتى أصبح السكن الجامعي خالياً من الجميع باستئنائي...لهذا قررت أنها فرصتي لأقرأ المزيد وأسترجع بعضاً من الهدوء الذي أفتقده منذ أشهر طويلة. رحت أشعر بالارتياح والهدوء بغياب الجميع وكانت الفرصة المناسبة لي لأن أقرأ قدر إمكاني دون أن أسمع صخب أصوات غيري من الطلاب. وهكذا بدأت مرحلة من الهدوء وجدت نفسي من خلالها أحاكم، وأتفاعل مع، ما أقرأه بعمق أكثر وأتوقف هنا وأركز هناك...بعد أكثر من أسبوع شعرت أن حالة الهدوء والاستمتاع راحت تطول وبذلك بدأت أشعر بما لا أسميه بدقة الفراغ الطويل بل بما يمكنني أن أصفه الآن وأنا على هذا البعد من ذلك الزمان والمكان بالحاجة الاجتماعية إلى الكلام والأجواء الاجتماعية...احدى الليالي كنت أكتب معدّاً لمقال يتوجب عليّ تقديمه لأستاذي في قسم الدراما منظم حلقات البحث حين شعرت فجأة بالتعثر وأن ما أكتبه به خلل ما رحت أعيد وأعيد وأكرر لكنني لم أعرف كيف أتجاوز تلك العثرة...بل شعرت بشيء من العصبية والانزعاج حيث رحت اسمع من داخل المبنى صوتاً مزعجاً يترافق مع صوت الريح خارج المبنى وهو الصوت الذي أسمعه منذ عدة أيام جون أن أكترث به...وارتبكت فيما علي أن أفعله حينها! ولكن، وكما يحصل في كثير من الحالات المشابهة عندما ننضغط كبشر نلقي باللوم على ما هو خارج مساحتنا النفسية أوالجسدية، فقررت أن ما يعيقني هو ذلك الصوت القادم من داخل المبنى والمترافق مع أصوات الرياح التي تعصف في تلك الليالي الشتوية...خرجت من غرفتي قاصداً تعقب الصوت فوجدت على الفور أنه يأتي من ارتطام باب الغرفة المجاورة بالإطار حوله إذ بات من الواضح أن جاري "كارل" ترك نافذة غرفته مفتوحة وذلك سبب بتيار هوائي بين النافذة المفتوحة والباب الغير محكم الإطباق على إطاره. عدت إلى غرفتي وتناولت ورقة من بين الأوراق البيضاء وخرجت ثانية و طويت الورقة التي بيدي عدة مرات كي أزيد من سماكتها لتصبح مناسبة لأحشرها بين الباب وإطاره من الخارج وهكذا فعلت فنجحت في إيقاف ارتطام الباب واختفى صوت القرقعة، دخلت غرفتي من جديد فرحاً أنني سأتابع بدون شرود مع ذلك الصوت.
مضت تلك الليلة والليالي التي تلتها بسلام ونسيت كل شيء يتعلق بذلك الصوت المنبه المقرع المقيت. بعد أيام قليلة بدأ الطلاب يعودون من عطلة الميلاد وراس السنة تباعاً وأتى جيراني في السكن رأيت بعضهم وسلمنا ودردشنا. قبيل ظهر أحد الأيام تناهى إلى سمعي وانا في غرفتي صوت جاري كارل الذي لم أره من قبل فقد عاد لتوه وهو يتصل بجهة ما ويعلمهم أن بباب غرفته وُضعت ورقة بداخلها شيء ما لايعرف ما هو وإنه يخاف مما قد يكون ذلك الشي! وكرر سأترك كل شي على حاله! لم أشأ أن أخرج لأقل له ما الذي حصل في غيابه لسببن أولهما ردت أن أعرف النتائج التي ستتمخض عن اتصاله وثانيهما لأنني تكاسلت. بعد قليل حضر رجال أمن الجامعة ومعهم المتر لاستخدامه في القياس ومعهم كاميرا...، تجمّع الحضور من الطلاب سكان الطابق وراءهم ورحنا نراقب، أحدهم راح يصور والآخر لبس قفازات مطاطية واخذ المتر وراح يقيس من زاوية الباب العلوية نزولا عموديا باتجاه الورقة الموضوعة في الباب وراح يسجل القياس على صفجة من دفتر صغير كان يحمله ثم فعل نفس الشيء من الأسفل وسجل القياسات من جديد...! ثم انتزع الورقة أحدهم وفتح طياتها الواحدة بعد الأخرى، رفعها بيده و شمّها وهز رأسه يمنة ويسرة ثم سأل كارل: هل فتحت الغرفة؟ فأجاب كارل: ليس بعد! وبناء على طلبهم فتح كارل الباب ودخل ثم دخل بعده رجال الأمن الجامعي وسألوه أن يتفقد غرفته جيداُ وكل ما تركه بها! قال بعد أن تفحصها جيداَ إن كل شيء على حاله ولم ينقص من غرفته شيئا ولم يتغير بها أي شيء...كنت أراقب بكل اهتمام لأعرف أين سيذهب تفكيرهم. كانوا يطرحون الاسئلة وكارل يجيب وينظرون إلى الورقة ثم يقولون إن في ذلك لغز سيستعينون برجال الأمن في المدينة على حله والوصول لشيء ما!
بعد أيام وعندما كان كارل في المطبخ يضحك ويمازح بشكل عادي أعلمته بحكاية الورقة فضرب راحة يده على جبهته وانتابته نوبة ضحك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا