الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حاجة العرب الى تدريس الفلسفة للأطفال أكثر من حاجة الغرب والأمريكان

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2019 / 11 / 17
التربية والتعليم والبحث العلمي


باتت حاجة الشعوب والدول العربية والإسلامية لتدريس الفلسفة للأطفال من الحاجات الحيوية الملحة؛ إذ هي ليست حاجة معرفية ولا تربوية ولا تعليمية ولا ثقافية ولا علمية أكاديمية فحسب كما هوعليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية والشرقية كما سوف نلاحظ آنفا، بل تتعين عندنا بوصفها حاجة وجودية تكوينية بالغة الأهمية. وقد اثبتت الدراسات العلمية والتجارب التاريخية أن غياب الفلسفة والعلوم الإنسانية من مناهج التعليم والتربية في البلدان العربية الإسلامية يعد من الأسباب القوية لتصاعد ظاهرة التطرف والإرهاب في أواسط الطلاب والشباب العرب." كتب مارتن روز، “زميل زائر” في مركز الأمير الوليد بن طلال للدراسات الإسلامية في جامعة كامبردج، ومستشار “المجلس الثقافي البريطاني” في الشرق الأوسط، ورقة عمل بعنوان “تحصين العقل” Immunising the mind فحصت الأبحاث التي تناولت هذه المسألة في المنطقة العربية. اقترحت الورقة أن هناك ارتباطا بين تدريس بعض المواد و”العقلية المنغلقة” المميزة للمتطرفين الراديكاليين. كما اقترحت الورقة أن تغيير الطريقة التي تُدَّرس بها بعض المواد، وتشجيع وجهات النظر البديلة والتساؤل، و“أنسنة” تدريس المواد العلمية والتقنية، بجانب التعليم الجيد للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية – المهملة غالباً في جميع أنحاء الوطن العربي – يمكن أن يساعد في تحصين عقول الشباب ضد التطرف والانخراط في الأيديولوجيات الراديكالية. إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، فإنه يمكن أن يكون له بعض التضمينات المهمة على السياسات التعليمية"( ينظر، أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم، تحصين العقل من التطرف والإرهاب؛ كيف يمكن للتعليم أن يُحصِّن العقل ضد الأيديولوجيات المتطرفة؟ ) وقد بينت الدراسات البحثية المقارنة للعلاقة بين التخصصات العلمية والنزعة التطرفية والإرهابية أن معظم المنجذبين لممارسة الأعمال الإرهابية ومن لديهم قابلية للتطرف العنيف هم من طلاب الكليات العلمية التي لا تدرس الفلسفة والعلوم الإنسانية "جاء في الدراسة التي أعدها خبير في المجلس الثقافي البريطاني، أن نصف من سمتهم "الجهاديين" -أي ما يعادل 48.5% منهم- الذين انخرطوا في تلك الحركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تلقوا نوعا من التعليم العالي، 44% منهم حاصلون على درجات في الهندسة. وترتفع هذه النسبة بين الجهاديين الغربيين إلى 59%.وأظهرت دراسة عن "الإرهابيين" في تونس -التي أعمل فيها مهندس كهربائي قتلا للسياح على شاطئ سوسة في يونيو/حزيران الماضي- نسبا مماثلة. وأشارت دراسة أخرى إلى أن من بين 18 مسلما بريطانيا تورطوا في هجمات إرهابية، درس ثمانية منهم الهندسة أو تقنية المعلومات، وأربعة آخرون العلوم والصيدلة والرياضيات، في حين تلقى واحد فقط دروسا في العلوم الإنسانية " وفي هذا السياق جاء كتاب (مهندسو الجهاد: العلاقة بين التطرف العنيف والتعليم) تأليف كل من "دييجو جامبيتا" Diego أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وستيفين هيرتوج" أستاذ مشارك في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية استند الكتاب عل دراسة عينة مكونة من (497) شخصاً من الجماعات المتطرفة، بيانات توفرت بيانات لعدد (207) فردا منهم، إذ وُجد أن منهم (93) تخصصوا في الهندسة، بينما حوالي (38) شخص كانت تخصصاتهم في الدراسات الإسلامية، في حين أن الأعداد الأقل كانت في تخصصات أخرى، كالتالي: عدد (21) تخصصوا في الطب، و(12) في الاقتصاد، و(8) في الرياضيات والعلوم، و(5) في القانون، والبقيّة من تخصصات أخرى متنوعة (ينظر،أحمد عبدالعليم،مهندسو الجهاد: دراسة في العلاقة بين التعليم والتطرف العنيف، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 4 يوليو 2016). وفي محاولته تفسير العلاقة المحتملة بين التخصصات العلمية والظاهرة الإرهابية صاغ مارتن روز كبير مستشاري المجلس البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مفهوم (العقلية الهندسية) التي تتمحور حول فكرة غاية في السهولة إذ تنظر إلى الأشياء عبر منظارين إما صواب وإما خطأ. وترى الدراسة أن هذه النزعة تضر بقدرة طلاب العلوم والهندسة على تنمية مهارات التفكير النقدي." ن دراسة الهندسة تجعل الخريجين أقل قدرة على استيعاب الطبيعة الارتباطية المتداخلة التي تتسم بها العمليات والعلاقات السياسية والاجتماعية، وبالتالي فهم أقل قدرة على التعامل مع العالم المحيط باعتباره نتيجة تفاعلات متزامنة من عمليات معقدة. وفي المقابل، يفترض هؤلاء الطلاب أن كل ما حولهم له طبيعة ميكانيكية "عقلانية" أقرب إلى ما هو عليه الحال في طريقة عمل الماكينات والآلات، بما يجعلهم أكثر تقبلا لفكرة واحدية النظام إلى حد قولبته. أضف إلى ذلك أن طبيعة الدراسة لا تقترب من المعتقدات الدينية بأي شكل من الأشكال، وهو ما يجعل الدارس - على الأقل طوال فترة دراسته، التي تمتد إلى خمس سنوات - غير معرض للوقوف أمام النصوص الدينية والتفكير فيها بشكل نقدي؛ وهو ما ينتج في النهاية شخصًا أكثر تقبلا للنص، وأكثر قابلية للتأثر بالحجج التي تقدمها الجماعات المتطرفة"( العالم دراسة: خريجو الهندسة أكثر ميلا إلى التنظيمات الإرهابية، الاقتصادية، الرياض، 9 مايو 2019). وقبل ثلاث سنوات عبر الأكاديمي والكاتب السعودي سليمان الضحيان عن صدمته البالغة من الافعال الانتحارية الإرهابية التي اقدم عليها أطباء ومهندسين في العراق والاردن ويرى في تفسيره لهذه الظاهرة " أن طبيعة الهندسة والرياضيات والعلوم تعتمد على منهج علمي صارم، لا يسمح بوجود وجهات نظر متعددة، بل النتيجة تكون حاسمة، وهذا المنهج ينتج عقلية تتعامل مع الواقع الإنساني بما فيه من أفكار، وأشخاص، وأحداث كما تتعامل مع المادة الصماء، وذلك بمقياس صارم يقوم على ثنائية الصواب والخطأ، والحق والضلال، ولا مجال فيه لوجهات نظر، أو نسبية، وهذا ما يقتل فيها الروح النقدية، ويجعلها أقرب للخضوع لفكرة واحدة باعتبار أنها هي الحق والصواب غير القابل لأي تساؤل أو مراجعة، وهذا ما يسهِّل تجنيدها في جماعات العنف؛ لأن منهج تلك الجماعات قائم على الصرامة في فهم الدين، والثنائية الحادة في فهم تعاليمه، فليس ثمة لديها إلا كفر وإيمان، وهو فهم نهائي لا يقبل المراجعة، أو التعددية في الفهم، وهي بهذا المنهج تتوافق مع المنهج الذي تربى عليه أصحاب التخصص العلمي، بخلاف مناهج العلوم الإنسانية القائمة على النسبية، وتعدد وجهات النظر، والقابلية للنقد" ينظر، سليمان الضحيان ، أي التخصصات الجامعية أكثر قابلية للتطرف؟ جريدة مكة، 9 مارس 2016). الا يعني ذلك الرأي المتحصل من الدراسات البحثية العلمية أن الطلاب العرب الذين وقعوا في مخلب الإرهاب المسعور وضحاياهم في كل مكان هم بعد كل حساب ضحايا لنظم التعليم والتربية العربية التقليدية البليدة التي تعيش حالة من الانفصام الشديد بين العلم والثقافة العلمية؟ إذ اثبتت الدراسات في فلسفة العلم وتاريخه أن مسألة نمو العلم وتقدمه وازدهاره ليست مسألة علمية بل تتعين في تلك المجالات الواقعة خارج العلم حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً، وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها. في ضوء هذا المنظور يمكن تمثيل العلاقة بين العلم والثقافة بعلاقة الابن والأم، فالثقافة هي الرحم الحي لتخصيب وميلاد ونمو العلم، فكيفما كانت صحة الأم يكون الابن سليماً أو سقيماً. وهكذا كانت وما برحت وظيفة الثقافة هي: تحضير ولادة الفيلسوف والمفكر والعالِم والفنان والمؤرخ والفقيه والأديب والناقد والكاتب والخبير والمربي والسياسي وكل ما يتصل بتفتيح وتنمية قوى الإنسان وقدراته ومواهبه العقلية والعاطفية والبدنية. وهذا هو تعريف كلمة (ثقافة) في (المعجم الفرنسي المنشور 1933) إذ جاء فيه «إن كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء» وهي بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات منها:
1) التهيؤ كما هو الحال بالتربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم، بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة بممارسة الرياضة والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي تمنحهم (الذكاء العاطفي) إذ أن الثقافة بالمعنى الانثربولوجي: هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء.
2) الاستيعاب بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وتجاربه وخبراته.
3) الشمول، بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والمواضيع والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية عقلانية كلية متسقة.
4) الحكم، بمعنى؛ القدرة على التجريد والحكم المنطقي على الاشياء؛ حكما مشفوعا باتساع الأفق الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم). وهذا هو (كل) ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار.
لاشك بأن هناك علاقة عضوية بين العلم والثقافة، فالهدف الأساسي من التعليم والتربية هو خلق الإنسان السوي الحر القادر على مواجهة مشكلات مجتمعه وعصره بروح إيجابية وسعة أفق عقلانية مرنة وخلاقة تمنحه القدرة اللازمة على التعاطي الفعال مع واقعه وهويته وتاريخ مجتمعه وقيمه وتراثه في سياق حاضره وتحدياته المتغيرة باستمرار بما يجعله قادرا على بناء مركب ثقافي علمي انساني عقلاني جديد يمزج بين أصالة الماضي وحيوية الحاضر واستشراف المستقبل. وبذلك تكون الثقافة في جوهرها الإنساني التاريخي الإبداعي بوصفها ذلك الكل المركب الذي يشكل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وهي فضلا عن ذلك أداة لنقل السلوك ومصدر دينامي للتغيير والإبداع والحرية وتهيئة فرص الابتكار والمنافسات والمبادرات الفردية، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف والشعور بالهوية والانتماء. في هذا السياق يمكن لنا فهم الاصوات الملحة التي أخذت تتزايد في عموم العالم العربي والإسلامي الداعية الى ضرورة التفكير الجدي في إعادة الاعتبار للدرس الفلسفي وتفعيل دور العلوم الإنسانية والاجتماعية في مدارس وجامعات الدول العربية، والشروع الفوري في تمهيد السبيل لتعليم الفلسفة للأطفال وأول وأهم تلك الاصوات الفكرية العربية صوت الدكتورة هدى الخولي إذ أكدت في مقابلتها الصحفية والتلفزيونية العديدة " أن مشروع الفلسفة للأطفال ربما يرد على مشكلة التعليم في مصر، فلن تستطيع الجامعات أن تخرج شبابا مثقفا ذا عقلية نقدية إذا لم يكن تعلم ذلك منذ طفولته وتيار الفلسفة للأطفال هو أمر ليس بجديد في الغرب فهو تيار تعليمي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية في السبعينيات من القرن الماضي، وأصحاب هذا التيار وأنا معهم نؤمن بأن الفلسفة هي نشاط، وليس مجموعة من النظريات؛ ولابد أن تدخل وتمارس من قبل الأطفال في سن الرابعة إلى الثانية عشرة؛ في برنامج يقوم على الجدل والنقاش؛ والمعلم يشرف ولا يسيطر على هذا النشاط، فهو يلعب دور المايسترو يدير النقاش، مستعينا ببعض الروايات والأساطير، التي يخرج منها الأفكار المجردة عن طريق توجيه أسئلة منظمة للأطفال تتصاعد صعوبتها تدريجيا، ثم يأخذ هذا النشاط شكلا أكثر تنظيما يستغرق فترات زمنية صغيرة، أسابيع ثم تتصاعد المناقشات بشكل تدريجي بطريقة مدروسة مسبقا تساعد الطفل على تنمية قدراته النقدية؛ وتعلمه قوة الملاحظة وفن الإنصات واختيار الكلمات والمفردات المناسبة لإثبات وجهة نظره وتعلمه في نفس الوقت بناء الثقة بينه وبين المشاركين في حلقة النقاش مع احتفاظه الكامل بحق الاختلاف، ووفقا لهذا البرنامج تعالج الفلسفة للأطفال أربع نقاط أساسية: تعلم التأمل، فن الإنصات، استخدام قوانين المنطق في التفكير، أولها عدم التناقض وأخيرا ضرورة العمل في روح الفريق بكل إيجابياته مثل احترام وجهات النظر المختلفة. إلخ، أخيرا وربما أهم ما في تيار الفلسفة للأطفال، هو أنه يخرج من دائرة اهتمامه المعرفة بطريقة التكرار وتكديس المعلومات وعمليات التعليم التقليدية التي تقوم على جمع المعارف بشكل يجعل المتلقي" التلميذ ــ الطالب أو الدارس بصفة عامة "مجرد مخزن عقيم؛ لا يسمح له بالمشاركة أو الرفض أو الإضافة، وما أشد حاجة نظام التعليم المصري إلى ذلك"( ينظر، حوارمع هدى الخولي وفلسفة الأطفال، حاورها، أحمد فوزي سالم، موقع فيتو،23 سبتمبر2018). وفي ذات السياق كتب الباحث الجزائري، جلال خشيب: " نرى في هذه العلوم الفلسفية الإنسانية الفنون بمثابة العلوم الواقية لوعينا الجمعي وعالم أفكارنا من كافة أنماط الجهل أو التطرّف أو السذاجة أو الانصياع" (جلال خشيب، دور العلوم الاجتماعية في محاربة التطرّف العنيف، منتدى العلماء، 8 مايو 2019). على حال لسنا بحاجة الى ايراد المزيد من الدراسات العلمية الميدانية الشواهد المتحصلة من عالم الممارسة والخبرة اليومية بوصفها تغذية راجعة عن أهمية الفلسفة والعلوم الإنسانية وضرورة تدريسها في المدارس والجامعات العربية التي مازالت تمنع دراستها في عدد من الدول العربية. ففي التقرير الصادر عن اليونسكو جاء" أن تدريس الفلسفة للطلاب في العالم العربي في العصر الحديث يمتلك تجربة عريقة وليس وليد الساعة، إذ يتم تدريس الفلسفة لطلاب الثانوية العامة في عدد من الدول العربية منذ عقود من الزمن( مصر وتونس ولبنان واليمن والكويت وموريتانيا والجزائر والمغرب والبحرين وبالمقابل لا تدرس الفلسفة في السعودية وجيبوتي والسودان والعراق والامارات والاردن وليبيا بحسب تقرير اليونسكو ( ينظر، اليونسكو، تدريس الفلسفة في العالم العربي،2009).
في ضوء ما تقدم وبالاستناد عليه يمكن القول: وإذا كنا نعرف أنه لا يمكن تغيير شيء يذكر في الاقتصاد والإدارة والسياسة والثقافة والاخلاق مالم يتحقق تغيير سيكولوجي تربوي تعليمي عميق في بنية الشخصية العربية ومالم تتكون الرغبة والقدرة على التفكير والعمل بطريقة جديدة ورؤية فلسفية واضحة. وعلينا أن ندرك نبل المهمة وصعوبتها ونحن نسعى لبحث مسالة التغيير لعادات التربية والتعليم في عالمنا العربي التقليدي. إذ أن عملية تعديل الأطر القديمة أو اكتساب الأطر العقلية الجديدة، غالبا ماتكن عملية عسيرة، بل واحيانا مؤلمة وشديدة التعقيد، ويظهر ذلك بوضوح، اكبر عندما لا يكتفى الأمر بمجرد إعادة ترتيب مكونات تلك الأطر الفكرية التقليدية المعروفة، وإنما إدخال أطر جديدة مطورة اساسية " ويرى شيت مايرز" في كتابة (تعليم الطلاب لتفكير الناقد)، أن أحد أسباب كون عمليات إعادة هيكلة التفكير مؤلمة هو أن الأطر الفكرية ليست قضايا معرفية بحته، وإنما فيها جوانب شخصية وعاطفية وثقافية كثيرة بما في ذلك من قيم ومعتقدات وعادات إذ أن لكل منا نظرته الضمنية عن العالم وطريقة عمله تلك النظرة التي لم تتعرض للاختبار المترسخة في اللاوعي الجمعي بوصفها هيبوتوسات - بحسب عالم الاجتماع الفرنسي بيير يودرو- هي التي تمكنا من صياغة رؤيتنا وتفسير وفهم عالمنا وهي تشكل نظام معتقداتنا ومنظورنا الشخصي وهي بذلك تصبح العدسات أو أجهزة التقنية البصرية لخبراتنا اليومية إذ تملي علينا ما نراه، وكيف نفسره وهذا يعني أن نتعلم طرق جديدة في التفكير والتربية لابد أن يتضمن تحديا للنظريات المختزنة داخليا لدى الطلاب وتعليمهم منظورات جديدة لتفسير الأمور، هذه العملية لا يمكن أن تمر بسلام بل سوف تكون مشحونة بدرجة عالية من الانفعال والمجابهة والسخونة والتحدي. ولكن مادام الحاسم في تطور أي شعب وفي جميع الأزمنة هو العامل البشري، فلا مندوحة لنا من البحث في هذه الإمكانية المجربة. وبدون أن يتحقق انعطافا جذريا في عقول وأمزجة ومشاعر أفراد المجتمع من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، فلا يحق لنا انتظار شيء يذكر من المستقبل. "يجب أن نبتدئ بالمدرسة _ سوف يتكون مجتمع الغد في المدرسة أو لن يتكون" فهل آن الأون للشروع في تدريس الفلسفة للأطفال في المدارس العربية بما لذلك النمط الجديد من فعالية في تأهيل العقول وتخصيب وتنمية الأفكار المنطقية الإنسانية القادرة على فهم عالمها والتعامل مع تعقيداته الهائلة؟
هكذا تضعنا أزمة التربية والتعليم في العالم العربي أمام خياران لا ثالث لهما "أن نوقد شمعة أو أن نعلن الظلام "إما أن نبدأ بإصلاح مسارات التربية والتعليم وتغيير آليات عملها القديمة بما يتوافق وتطلعاتها وخياراتها العربية والانسانية، وأما أن نترك الأمور تمضي على النحو التي تتدحرج فيه الآن صوب الهاوية ، حينئذ ستحل بنا الكارثة وسيكون "قد فات الاوان على شد اللجام حينما يكون الحصان على شفير الهاوية! وإذا كنا سنختار طريق المستقبل ، طريق انسان الغد ،انسان القرن الحادي والعشرين ،فهذا معناه أن نبدأ العمل بنقد جاد وامين وعميق للمؤسسة التربوية والتعليمية العربية؛ نقد كل النظم والسياسات القطرية في التربية والتعليم والكشف عن مكامن الاختلالات الحالية ومن ثم العمل على إيجاد بدائل ناجحة وممكنة من شأنها ضبط ايقاعات المسيرة التربوية التعليمية في ضوء رؤية فلسفية استراتيجية وادارة علمية وسياسية حازمة ومثقفة قادرة على تصميم ووضع المشروع المطلوب تنقيذه. ذلك لأنه لا يوجد للتقدم وصفة سابقة التجهيز وإنما يتطلب الأمر ارادة ورؤية وضحة. وجوهر المسألة؛ يكمن في قدرتنا على أن ندرج بعمق تحديات الحاضر والمستقبل وأن نعمل هنا والآن المشروع الكفيل بالاستجابة الايجابية لها. من خلال وضع سياسات تربوية وتعليمية جديدة ومبتكرة. أن التربية السليمة لا تقوم في تكوين بشر بحسب أنماط جاهزة ونماذج مشتركة ومسبقة التصور والتصميم ، بل تكمن مهمتها الأساسية في الإفراج في كل طالب وطالبة عما يحول دون أن يكون ذاته/ ذاتها الإنسانية الناضجة، وفي أن تخوله أن يحقق ذاته بحسب خصائصه الفردية وقدراته واهتماماته ومواهبة الشخصية العميقة التي تختزنها ذاته/ ذاتها. في أعماقها، وكل ما يحتاجه التلاميذ والطلاب منّا هو منحهم الفرصة والحريّة الكافية للتعبير عن ذواتهم وتنمية عقولهم تنمية علمية كفيلة بأطلاق سراح (الكنوز التي تخنبي في الداخل) بحسب اليونسكو؛ داخل عقل كل طفل من الأطفال! وعندما نبلغ أعمق ما في الذوات الفردية للناشئة فإن ذلك العمق هو بذات هو م اسوف يكون بنائيا خلاقا وناميا وجديرا بالقيمة والتربية والتنمية نحو الأفضل نفعاً والأكثر عدلا والأكثر رقيا وجمالا وخيرا وكمالا. حينها تستطيع التربية والتعليم أن تحقق مثلها الأعلى في تنمية وتنوير العقول إذ أن المثل الأعلى للتعليم لا يتمثل في منح الطلاب المعرفة، بقدر ما يتمثل في منحهم القدرة على فهم واستخدام المعرفة التي اكتسبوها في سنوات حياتهم الدراسية الأساسية والثانوية، حينها تستطيع الجامعة أن تنهض بوظيفتها الجوهرية المتمثلة بالعمل على تحويل معرفة الاولاد والبنات؛ التلميذات والتلاميذ إلى قدرة الرجال والنساء المعول عليهم في بناء وتنمية مجتمعاتهم، تنمية ثقافية حضارية مستدامة.
ختاما نكرر القول: نحن بحاجة الى الفلسفة لكي نفهم عالمنا وحياتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا وذواتنا وخيرنا وشرنا وتمنحنا الرؤية لتدبير أمرنا في عالم متسارع التغيير وشديد الاضطراب. ولا نقول كما كتب المفكر البريطاني في كتاب الثورة الرابعة " نحن بحاجة الى فلسفة جديدة للمعلوماتية.. فلسفة تمكننا من فهم واستيعاب التحولات العميقة والواسعة النطاق التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفهم طبيعة المعلوماتية ذاتها.. نحن في حاجة الى الفلسفة لنترقب ونوجه الأثر الأخلاقي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات علينا وعلى بيئتنا. نحن بحاجة الى الفلسفة لبناء الإطار الفكري المناسب الذي يمكن أن يساعدنا على إدراك الدلالات والمعاني العقلية لمأزقنا الجديد، وباختصار، نحن في حاجة الى فلسفة المعلومات بوصفها فلسفة تخص عصرنا، من أجل عصرنا" هكذا أستهل المفكر الأيطالي الجنسية لوتشيانو فلوريدي أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة ورئيس مجلة الفلسفة والتكنولوجيا"( ينظر، كتاب، الثورة الرابعة؛ كيف يغيّر الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة, لؤى عبد المجيد السيد، عالم المعرفة،452).
حينما نقرأ المبررات والدوافع التي حفزت- فيلسوف التعليم الأمريكي ماثيو ليبمان المولود في مدينة فينلاند بولاية نيو جيرسي عام 1922- حفزته للتفكير في صياغة مشروعه التربوي التعليمي الاستراتيجي، المرسوم ب ( تدريس الفلسفة للأطفال)- سوف نفهم معنى الدعوة الى أهمية وضرورة تدريس الفلسفة للأطفال في العالم العربي الإسلامي.إذ كان أستاذاً للمنطق بجامعة كولومبيا عندما بدأ النظر في الحاجة إلى تغيير منهجية التدريس في ذلك الوقت وبشكل أكثر تحديداً، كان ذلك أثناء حرب فيتنام، عندما لاحظ قدرة محدودة من معاصريه لالتقاط الأفكار المعقدة والتعبير عن آرائهم. وكما هو معلوم أن الحرب الأمريكية في فيتنام ونتائجها الفاجعة في المؤسسة العسكرية الأمريكية قد شكّلت عقدة نفسية في الضمير الأمريكي العام وأثارت أمواج عاتية من النقاش والجدل في الرأي العام، وحينما كان ماثيو ليبمان يستمع ويشاهد ويتأمل المداولات الصاخبة والنقاشة المحتدمة بين البالغين من افراد مجتمعه حول أزمة فيتنام وغيرها من المعضلات المجتمعية الأخرى التي كانت تشغل أفق حاضره الحي المباشر_ لاحظ الفيلسوف وهو سليل الفلسفة البرجماتية، وفلاسفتها الكبار امثال: شارل بيرس ووليم جيمس وجون دوي إذ تشير الدراسات الى أن المصادر الفكرية التي استند اليها ليبمان، في صياغة مشروع تدريس الفلسفة للأطفال هي مصادر متعددة "تتراوح بين المذهب الإنساني المعاصر و الفلسفة الجذرية (نظرية الوعي المشترك) و السلوكية و البنائية)، لكن دانييل تؤكد أن أهم مصدر له تأثير مباشر على تشكل الفلسفة للأطفال عند ماتيو ليبمان هو البراجماتيىة كما بلورها كل من شارل ساندرس بيرس و جورج هربرت ميد و جوستوس بوشلر)، و خصوصا جون ديوي يتجلى التأثير البراجماتي في عدة جوانب خاصة منها: فكرة مجموعة البحث و التركيز على النشاط والخبرة والمساءلة التي هي صورة للشك البراجماتي و الديمقراطية و الربط بين التعلم و الحياة و ما إلى ذلك فضلا عن تخصصه العلمي في منطق التفكير العقلاني(ينظر، مصطفى بلحمر، الطفل و الفلسفة: هل هناك فلسفة قاصرة ؟ الحوار المتمدن 2015) انطلاقا من هذا البرادايم الثقافي العام لاحظ ليبمان، أن هناك خللا خطيرا في التفكير أصاب المجتمع الأمريكي، إذ بدى وكأن الناس لا يعلمون عن ماذا يتحدثون؟! ولما كان مدركا بأن هذا الداء الوبيل المستشري في أنماط تفكير البالغين قد فات الزمن لا تقويمه وإصلاحه، وبعد طول تأمل وتفكير في كيفية الخروج من تلك المعضلة المستعصية اهتدى الى فكرة التكوين، أي المدرسة حيث تتكون المعتقدات والأفكار والاتجاهات والمواقف والتفضيلات والمشاعر. كتب مايكل بريتشارد: في اواسط الستينات من القرن العشرين انتابت الحيرة الفيلسوف ماثيو ليبمان، إزاء انخفاض نوعية النقاش الذي كان يدور بين مثقفين بلاده بشأن حرب فيتنام وأمراض المجتمع الاخرى ولأنه مقتنعا بإن تدريس المنطق يجب أن يبدأ بمدة طويلة قبل الجامعة حاول أن يتصور ويصيغ طريقة جديدة لتحفيز اهتمام الأطفال للمرحلة العمرية 10-12 سنة وهو المشروع الذي ترك جامعة كولومبيا من أجله، وأسس معهد لهذا الغرض في كلية مونتكلير عام 1970)( مايكل بريتشارد، فلسفة الأطفال، ترجمة، سميرة أحمد بادغيش، موسوعة ستانفورد، موقع حكمة، 2018/7/19م) انطلاقا من الفكرة التي تقول: إذا تكّون ذهن الإنسان على نمط من انماط الاعتقاد صار من الصعب تغييره. وفي ذات السياق كتب فيلسوف التربية الفرنسي "يجب أن نبتدئ بالمدرسة _ سوف يتكون مجتمع الغد في المدرسة أو لن يتكون" المدرسة والفلسفة هي كلمة السر المفتاحية في فهم مشروع ليبمان الداعي الى ضرورة تدريس الفلسفة للأطفال. وكانت رواية اكتشاف هاري ستوتماير عام 1974م كأول رواية فلسفية تستهدف الأطفال المتراوحة أعمارهم ما بين 10- 11 سنة، تلك الرواية هي اللبنة الأولى في مشروعه الاستراتيجي البالغ الحيوية والأهمية في اعادة تنمية وتأهيل العملية التربوية والتعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم أجمع. وعلى أثر تلك الرواية وما صادفته من نجاح منقطع النظير أسس معهد النهوض بالفلسفة للأطفال. تم تطبيق منهجه لأول مرة في العديد من المدارس العامة في ولاية نيو جيرسي، وبعد سنوات من التجربة الناجحة في اختبار نظرية تعليم الفلسفة للأطفال في بعض مدارس ولايته. سرعان ما شاع صيتها في عموم الولايات المتحدة الامريكية التي اخذت في تجريبها وتطبيقها في مدارسها بحماسة واهتمام. إذ لم تمض بضع سنوات على ميلاد الفكرة والمشروع حتى صارت جزاءً اساسيا من برامج المناهج الدراسية الابتدائية والمتوسطة في معظم مدارسها أن لم تكن جلها. ومنذ بداية القرن العشرين انتشر هذا النمط الجديد من التعليم الذي اقترحه ليبمان انتشار العطر بالهواء في كثير من دول العالم ليشمل أكثر من خمسين دولة، كل تلك النجاحات للمشروع وإنجازاته حدثت أمام انظار صاحبه، ماثيو ليبمار الذي وافاه الأجل في 26 ديسمبر 2010 في ويست أورانج بنيو جيرسي موطن مولده.
السنا نحن العرب الأن وهنا بمسيس الحاجة الى تعليم الفلسفة للأطفال في مدارسنا بأكثر من الأمريكان؟! هذا هو ما سوف يناقشه المؤتمر المؤتمر الدولي السادس الذي ينظمه قسم الفلسفة بالتعاون مع المجلس العربي للدراسات العليا والبحث العلمي، بكلية الآداب جامعة القاهرة بعد أيام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة 20_21 نوفمبر2019.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نداءات لتدخل دولي لحماية الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية | #


.. غارات إسرائيلية استهدفت بلدة إيعات في البقاع شرقي لبنان




.. عقوبات أوروبية منتظرة على إيران بعد الهجوم على إسرائيل.. وال


.. شاهد| لحظة الإفراج عن أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرا




.. مسؤول أمريكي: الإسرائيليون يبحثون جميع الخيارات بما فيها الر