الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألدكتور إميل توما وتاريخ الشعوب العربية -توطيد العلاقات الاجتماعية للعصر الوسيط ونماذجه الاقتصادية وأساليب تسلطه

سعيد مضيه

2019 / 11 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الدكتور إميل توما وتاريخ الشعوب العربية
تتبع المؤرخ إميل توما تطور المجتمعات العربية في مسيرتها التاريخية؛ وكما يقول روى "بإيجاز مقتضب الأحداث التي تعاقبت على هذه المنطقة من العالم... ثم يتضاعف عدد الصفحات التي تروي ما وقع منذ الدعوة الإسلامية وقيام الامبراطورية العربية ... الى ما قبل الحرب العالمية الثانية". كرس للتاريخ الحديث الاهتمام الأوفر، خاصة حكم السلطنة العثمانية ومظالمها الجائرة التي أنزلتها بالجماهير الشعبية، وهو ما ترك بصماته على الوعي الاجتماعي للمجتمعات العربية حتى الآن، خاصة فئات المزارعين والحرفيين. تتم مقاربة هذا العرض، على حلقات ثلاث، نهج السلطنة العثمانية في النهب الضاري لكدح المنتجين، بحيث ، كما شرح إنجلز، انطوت الأوضاع في ظل السلطنة العثمانية على نهب منتظم للإنتاج ، استحال حياله ادخار تراكم يفضي الى تطوير الإنتاج صوب نمط الرأسمالية المتطورة. ضمن الأوضاع المتجمدة عند نماذج العصر الوسيط فاضت السيطرة الاقتصادية والعسكرية للامبريالية الكولنيالية، وسهل الغزو الصهيوني في كنف الغزو الامبريالي وبالتعاون معه. تميز بحث الدكتر اميل توما في تركيزه على أوضاع الكادحين وثوراتهم ضد سطوة السلطنة وولاتها، ولم يحفل بعهود السلاطين والحكام. فكلها انطوت على الجور والجريمة المنظمة وسطوة التسلط .
يتضمن العرض في حلقاته الثلاث: نهج السلطنة العثمانية في سوريا الكبرى ومنها فلسطين، ثم تسرب نفوذ الامبريالية في ظل تسلط الإدارة العثمانية، وثالثا تسرب الاستيطان الصهيوني في فلسطين بدون عائق في ظل السلطنة العثمانية، بخلاف ما يزعمه البعض حول مقاومة الإدارة العثمانية للاستيطان الصهيوني,

1-توطيد العلاقات الاجتماعية للعصر الوسيط ونماذجه الاقتصادية وأساليب تسلطه
لم تغير السلطنة العثمانية النظام الاجتماعي السياسي ، أي البنية الاقتصادية القائمة على الإقطاع،... وإنما غيرت الإقطاعيين وأجرت تقسيمات إدارية جديدة"(352). سارت الأمور في كنف السلطنة العثمانية وفق النموذج الإقطاعي، وتسلطه الأبوي، تلك المرحلة التي مرت بها معظم المجتمعات البشرية ، وحال التقاء النظم الأبوية بالهيمنة الامبريالية تحول الى نظام ابوي مستحدث ، اكتسب به المناعة، فتعذ قيام برجوازية متطورة وطبقة عاملة متطورة لديها إمكانات الهيمنة.
إذن، اختلفت الإقطاعية في السلطنة العثمانية عن الإقطاعية الأوروبية، كما تماثلت معها... اما موضع الخلاف فكان أن سارت السلطنة على نهج السلاطين السابقين في العصر الوسيط، إذ اقطعوا القادة العسكريين بصورة مؤقتة، وكانوا يصادرون املاك من ينقمون عليهم أو يشككون في ولائهم. نقل الباحث عن محمد كرد علي [في كتابه " خطط الشام"- الجزء الثاني ، ص 235] "، حيث " رجال الحكم ، بعد ان انتقلوا من البداوة الى الحضارة ، وبدأوا يعيشون في قصور فخمة ويفرشونها بأنواع الرياش مما لا يتناسب مع رواتبهم، ‘ اضطروا الى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزيم البلاد وإقطاعياتها بالأثمان الفاحشة فضاق ذرع الأهالي واضطر كثير من اهل الذمة ان يهجروا الأرض العثمانية الى البلاد الخارجية وترك غيرهم القرى وجاء الى الآستانة فرارا من الظلم...’"(359). هكذا دأبت السلطنة العثمانية على "منح المقاطعة لشخص من الأشخاص ما كان يعني تمليكه القرى والأراضي التي تؤلف تلك المقاطعة، إنما كان يعني تفويضه لجباية الأعشار وسائر الرسوم والضرائب المترتبة عليها" . والأنكى من ذلك ان السلاطين اتبعوا خطة تبديل الولاة في المراكز او اغتيالهم والاستيلاء على ثرواتهم الوفيرة التي حصلوا عليها بالنهب الضاري. فخلال قرابة الثمانين سنة الأولى من حكم العثمانيين ، أي حتى نهاية القرن السادس عشر "تعاقب على دمشق خمسة واربعون واليا ، ولذلك كان من الطبيعي أن تنتقل الأمور من سيئ الى أسوأ في الديار الشامية، لأن كل "وال" حاول خلال فترته القصيرة ان يجمع ما يمكن جمعه من ‘المغانم والمغارم’ ليسدد حصة السلطنة ويبقي لنفسه الحصة الأكبر الممكنة من هذه "المغانم والمغارم"(367). في القمة كان السلطان، وهو الذي يعين الولاة الإقطاعيين، وهؤلاء يقسمون إقطاعياتهم الدنيا الى إقطاعيات أدنى . وصور ساطع الحصري [في كتابه "البلاد العربية والدولة العثمانية"] هذا البناء الهرمي ، فذكر ان البلاد كانت تقسم إداريا وعسكريا الى إيالات ، والإيالات تقسم بدورها الى سناجق ، وهذه تتألف من عدد من التيمارات والزعامتات(مفردها زعامت).(353)
ويتضح من التقسيمات الإدارية ان ألوية القدس الشريف وغزة وصفد ونابلس ولجون هي من صلب المساحة الفلسطينية[34 زعامتات و474 تيمارات]؛ كما ان مقاطعات من لوائي صيدا وعكا انضمت الى تلك المساحة حين تبلورت إقليميا بإملاء الدولتين الامبرياليتين بريطانيا وفرنسا"(362).
اهتم الدكتور إميل توما، طيقا لرؤيته الطبقية، باوضاع الجماهير الكادحة وما لحقها من استغلال ؛ ينقل عن الحصري[ في كتابه،ص30] فقد كان عليهم ان يدفعوا ‘الضرائب المركبة’ ؛ فالإقطاعي في أدنى السلم كان يأخذ بعين الاعتبار ما عليه من التزام للإقطاعي الأعلى واحتياجاته الذاتية ... وهكذا بالتتابع... بحيث كان العبء العام يقع كله على المنتج او المزارع"(354).
قسم حاجي خليفة المجتمع [في كتابه "كشف الظنون"] الى العساكر والعلماء والتجار والرعية. العلماء كانوا عنصرا جوهريا في البناء الفوقي ومؤسساته المختلفة ؛ فمنهم القضاة والمفتون والأئمة والخطباء والمشايخ والمدرسون والطلبة والدراويش. وقد ازداد عددهم مع الأيام وألفوا فئة طفيلية واسعة قامت بدور هام في تطورات السلطنة .. كما أنهم بحكم طابعهم الطبقي أدوا دورا رجعيا في فترات التحولات الاجتماعية أو الإجراءات الإصلاحية التي فرضتها الأحداث(354).
أما التجار فكانوا الفئات التي احتلت موقع الوسط بين الإقطاعيين و "الرعية"... وأبرزهم يشير الى أمرين: أهميتهم في الحياة الاقتصادية في السلطنة .. وعدم اتساع ونمو الحرفيين الى صناعيين". حيال النهب الضاري تعذر التراكم المالي المفضي الى تطوير الإنتاج وإقامة صناعة متطورة. كما ان تسرب الامبريالية عزز النظام الأبوي السائد في أنحاء السلطنة وولديه مناعة بوجه ضرورات التطور والتنمية. " فالصناعة بمفهومها الحديث لم تنشأ في بقاع السلطنة، والمنشئات التي نمت ظلت صناعات بدائية واقتصرت على الصناعات الخفيفة- النسيج والصابون في الأساس.(354)
ثم ان الحروب التي خاضتها الامبراطورية العثمانية مع الدول المجاورة، مثل روسيا القيصرية، "اضطرت السلطنة الى زيادة النهب الداخلي للإنفاق على الجيوش المحاربة" (355)
تواصلت الهجرات وتناقص عدد القرى ظاهرة ملازمة لعهود السلطنة العثمانية. وعن [كتاب لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث-دار التقدم –موسكو ،1971، ص28] نقل الباحث "ما استنفذه النهب الإقطاعي الاقتصاد الفلاحي بصورة فظيعة ، فأخليت القرى من سكانها وأهملت الأراضي المنزرعة ، وأصبحت الحقول التي كانت مستثمرة بالأمس القريب مغطاة بأدغال الأشواك وتحولت الى أرض موات، وصارت المجاعة ظاهرة تتكرر وقوعها مع الزمن. وأضاف أن السلطنة طبقت مبدأ التكافل الجماعي في القرى بأسوأ مظاهره، حتى اذا هلكت أسرة فلاحية تنتقل ضرائبها الى الأسرة الفلاحية المجاورة .. وان انتقلت قرية ما عن بكرة أبيها تدفع القرية المجاورة ضرائبها . ولقد أفضى هذا النظام الى خراب القرية العربية اكثر فأكثر" .359
استثنيت مدينة غزة من المصير البائس؛ فقد شهدت ازدهارا استثنائيا بسبب موقعها نقطة انطلاق مصر الى سائر المدن. وحسب ما كتبه السائح التركي اوليا جلبي عام 1649ونقله المؤرخ عارف العارف[ في كتابه "تاريخ غزة"- القدس 1943ص178-181] ازدهرت غزة ازدهارا واسعا ..فقد ذكر انها تتالف من ستة أحياء وابنيتها من حجر وتكثر فيها المساجد والقصور والمنازل الجميلة والحمامات العمومية. وأضاف ان في البلدة 600 دكان، وان الميناء فيها – وإن لم تكن متطورة- حولتها الى مدينة تجارية ، يستطيع المرء ان يجد في أسواقها بضائع وأشياء ذات قيمة .. كما أن فيها مصانع الزجاج والسروجية. ووصف السائح زراعتها فكتب ان جوها بديع وهواءها عليل وتكثر فيها الحنطة.. وشعيرها مشهور ومثل ذلك قطنها وحريرها ومحارمها وبشاكيرها وفوطها الصغيرة والكبيرة المصنوعة فيها. وفي البلدة سبعة آلاف كرم يغرس فيها العنب وعنبها مشهور وكذلك قيل عن زيتونها وتينها وشمامها ورمانها وبلحها، وعن فواكهها الأخرى... فهي مشهورة في أسواق العالم . ان زيتها يصدر لمصر محملا على الجمال ويروج في أسواق مصر رواجا غريبا لجودة صنعه" (372).
تجسم تدهور السلطنة في بلاد الشام "خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر احتل مركز السلطة اربعون واليا – وفي بعض الأحيان لم يستقر الوالي في منصبه سنة واحدة [ امنون كوهين: فلسطين في القرن الثامن عشر ، ص6] وأدى هذا الوضع الى تكثيف إرهاق الفلاحين والحرفيين وسائر الفئات الشعبية بالضرائب، بحيث اتسعت الهجرة من القرى فرارا من التعسف، واصبح من الصعب ، كما لاحظ القنصل الفرنسي في صيدا ، إيجاد أيد عاملة تقوم بالمهمات العامة . ( الرسالة مؤرخة في 20/1/1708 أوردها المؤلف أعلاه، ص7).
وشهدت فلسطين ازدهارا في القرن الثامن عشر، في ظل سلطة ظاهر العمر (الدويلة الزيدانية) الذي اغتنم الفراغ االناشئ إثر انهيار سلطة المعنيين في لبنان. تطور حكمه على مراحل أربعة كانت الرابعة "من سنة 1770- 1775 وهي الصفحة المشرقة من تاريخ حياته، إذ تحول كفاحه ضد الأتراك من عصيان وتمرد الى حروب رهيبة بتحالفه مع روسيا وعلي بك الكبير حاكم مصر.امتدت سلطة ظاهر العمر من عرابة البطوف الى سائر أنحاء ‘المساحة الفلسطينية’" (382).
ولعل مصادر نمو هذه الدويلة ورسوخها هذه الفترة الطويلة تكمن في سياسة ظاهر العمر الاجتماعية والاقتصادية ؛ ومن المؤكد انه أشاع الأمن في ربوع دويلته من ناحية .. وأرسى روح التسامح بين طوائف البلاد حتى صار تسامحه مع النصارى مضرب الأمثال . وفي هذا الصدد يكتب المؤرخون " وكان عادلا في الرعية وسار معهم سيرة مرضية وساعدته المتاولة في أطراف لبنان مخافة السلطان ، واوهمه انه سيجعله نائبه في القدس ويوليه عكا والناصرة وطبريا وصفد وسائر البلدان في تلك الأطراف’. وأضاف محمد كرد علي في كتابه (ص302) "وذكر شوفيه وإيرامير ان الظاهر عمر نشط الزراعة وقضى على غزو القبائل المجاورة لبلاد العرب ؛ فكان المسيحيون والمسلمون يهرعون الى نزول بلاده من جميع أطراف الشام لينعموا فيها بالراحة والتساهل الديني ". وعن كتاب البرت حوراني [ تاريخ الشرق الأوسط الاقتصادي 1800-1914 –تحرير شارلز عيساوي –يونيفرسيتي أف شيكاغو برس 1966، ص26] نقل المؤلف أن ظاهر العمر وفر الحماية للفلاحين من غزوات البدو وشجع التجار الفرنسيين على الانتقال من صيدا الى عاصمته عكا "فقط في الجبال وبالقرب من المعسكرات كان ممكنا صيانة الحياة الفلاحية إزاء غزوات القبائل البدوية"(384). استطاع ظاهر العمر "تجاوز الصعوبات التي واجهته- بقوته العسكرية اولا وباستعداده للوصول الى تسويات مالية مع ممثلي السلطنة المعتمدين في منطقته... وبمعنى آخر لم يقطع ظاهر العمر ‘شعرة معاوية’ التي ربطته منذ البداية مع السلطنة"(387).
في عهد العمر ازداد الطلب الأوروبي على قطن الجليل ، وترسخت العلاقة بين التجار الفرنسيين والسلطة العمرية(الزيدانية). "تشير المعطيات ان فلسطين شهدت في ذلك العهد ازدهار زراعة القطن وتركزت هذه الزراعة في اللد والرملة والجليل ، ولكن أفضل القطن من الجليل او قطن شفا عمرو وعبلين وطمرة والمكر وجولس وأبوسنان وكفرياسيف وعمقه"(385). أشرفت دويلة العمر على توطيد العلاقة المباشرة بين التجار الأوروبيين والمنتجين المحليين، " وفي الوقت نفسه دفعت هذه العلاقات الاقتصادية المشايخ المحليين وفي نهاية المطاف السلطة الزيدانية الى تشجيع الزراعة وتخمينها لزيادة مداخيلهم . ولم يضعف هذا الاهتمام أن التجار الأوروبيين كانوا يكدسون الأرباح الطائلة من هذه العلاقات. وأثر هذا البناء الاقتصادي على حياة الفلاحين المنتجين ، بحيث أصبح المخاتير والمشايخ يهتمون "بمصدر مكاسبهم’ فلا يهينون الفلاحين او يرهقونهم الى درجة الإركاع وبالتالي إهمال الأراضي الزراعية"(385).
ولا شك ان هذا التطور الاقتصادي العاصف بالقياس الى مستويات التطور في الأقاليم العثمانية الأخرى ساعد على نمو البلدات والمدن الفلسطينية مثل الناصرة وطبريا وصفد وعرابة ودير حنا وشفا عمرو وحوّل عكا الى مدينة حصينة من ناحية وتعج بالحياة من ناحية أخرى . ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تتحول الى عاصمة الدويلة الزيدانية "(386).
في اواخر العام 1770 وربيع 1771 نظم علي بك الكبير حملة احتل فيها كامل فلسطين واجزاء واسعة من سوريا بمساعدة ظاهر العمر. " ولا شك ان ظاهر العمر جسد في ثورته على السلطة العثمانية المشاعر القومية العربية فتداخلت مع صراعه مع مركز السلطة الصادر عن مصالح إقطاعية... ولا نعتقد ان وجود هذا المعلم القومي العربي في الدويلة الزيدانية يحول مجريات الأمور الى حركة قومية تحررية ؛ فهذه ظهرت بعد قرن تقريبا من نهاية ظاهر العمر واتسمت بسمات ملموسة هي من مقومات الحركات القومية المعاصرة... من غير المفيد تطبيق مقولات معاصرة على أحداث قديمة". (393).
كانت روسيا في حرب مع السلطنة واستقبل قائد الأسطول الروسي اورلوف مبعوثي علي بك الكبير ، ووافق على دعم تمرد حاكم مصر. غير ان العثمانيين نجحوا في رشوة محمد ابو الذهب ، قائد القوات المملوكية المصرية في عساكر علي بك، فانقلب على قائده ونشب صراع على السلطة في مصر. صدر فرمان السلطان يتهم علي بك ب "الكفر والإلحاد"، والتحالف مع الكفار الروس، فرجحت كفة أبي الذهب وانكشف ظهر ظاهر العمر. حظي بمساندة الأسطول الروسي الذي احتل بيروت ورفع الحصار عن صيدا. اغتيل ظاهر العمر على يد احد أنصاره.
اوائل آذار 1775 زحف حاكم مصر، أبو الذهب، باتفاق مع السلطنة العثمانية ...يقول الباحث، "في تصورنا ان أبو الذهب كان يطمع في ضم فلسطين الى إمارته المصرية، وكان ينسخ محاولة سلفه علي بك الكبير التي شارك فيها وانقلب عليه"(390).قاومت المدن الفلسطينية الغزوة المملوكية وجرت معارك ضارية في يافا "التي صمدت امام حصار دام قرابة الشهرين، ولم تستسلم الا بعد قتال عنيف استمر في شوارعها .."(390).
ودخلت قوات أبو الذهب عكا في 30 أيار 1775، بدون مقاومة تذكر . "ومن الممكن أن تكون انباء مذابح يافا (التي اقترفتها القوات المملوكية بقيادة ابي الذهب) قد أفزعتهم لدرجة الشلل." (391)
تسلم الجزار ولاية عكا بعد اغتيال ظاهر العمر . وهو مملوكي عرف بسوء السيرة، يقال انه هرب من مصر إثر المجازر التي اقترفها هناك. نجح في توطيد نفوذه على الجزء الكبر من سوريا الطبيعية... وتحقق هذا النجاح على مراحل وعن طريق القوة العسكرية من ناحية ، وأساليب الخديعة والاغتيال والغدر وتأجيج المنافسات بين الإقطاعيين"(396)
والأصح القول ان الفرق بين الجزار وظاهر العمر يكمن في ارتباط الثاني بأهل البلاد، وما يرافق ذلك من حس ولو محدود بمصالحهم ؛ بينما مثل الأول حكما اجنبيا لا روابط أو وشائج تربطه بأولئك الأهل(396).
لم يعرف حكم الجزار الهدوء "رغم امتداده حوالي الثلاثين سنة...ويذكر محمد كرد علي في كتابه ‘خطط الشام’ انه من جملة الفتن ما ذكره المعاصرون من عصيان يوسف الجزار وتحصنه في قلعة صانور على مقربة من جبل جنين ( في منطقة نابلس-أ.ت) فحاصرها الجزار ينفسه ولم يظفر بطائل فطمع في اهل بلاد نابلس واخذوا ينهبون الناس ، فذهب الباشا الجزار ونهب بعض قراها وقتل اناسا كثيرين ثم حاصر صانور ثانية واصبحت بلاد نابلس في فوضى والجزار كل مرة يغزوها ويخرب في قراها ويقتل من اهلها ، ولم ينل من يوسف الجزار ...حتى مات الجزار. "(400)
يتفق اكثر المؤرخين أن فترة حكم الجزار كانت احلك صفحة في تاريخ فلسطين، وحتى تاريخ سوريا الطبيعية في العهد العثماني.. استخدم السخرة في سبيل تحصين عكا وإقامة المباني العمرانية... ويضيفون انه، باحتكاره بعض المرافق التجارية، استطاع ان يغطي جميع النفقات الضرورية وان يعيش برغد ورفاهية"، " كما اورد فيليب حتي[ في كتابه ، ص238](406). ولا جدال ان الجزار نهب الأهلين ، بل بلغ النهب ذروته في عهده ‘ فلزيادة الضريبة المقدمة للسلطان فرض الجزار ضرائب جديدة عن الطواحين وقطعان المواشي والدواجن ودود القز والحرير، وضرائب جديدة على الرأس . وحسب أهرون كوهين [في كتابه ‘الشرق العربي’،ص334] "في سنة 1789 ضوعفت الضريبة التي كان على منطقة الجزار دفعها الى استنبول... بسياسته الظالمة سبب دمار بعض القرى . وتشير الإحصائيات[ حسب كوهين ،ص126] ان عدد القرى مثلا في نهاية القرن الثامن عشر ،كانت 15 قرية في منطقة صفد –الرامة، بينما كان عددها في القرن السادس عشر 35 قرية. اما في منطقة سهل عكا وحيفا والناصرة ( وتشمل المكر في الجليل وشفا عمرو ) فقد تقلص عدد القرى من 60 قرية في القرن السادس عشر الى 19 قرية في نهاية القرن الثامن عشر. ومن المؤكد ان أن عملية تدمير القرى او الهجرة منها كانت متواصلة منذ الاحتلال العثماني بسبب النهب (الداخلي)والصراعات بين الإقطاعيين وغزو القبائل ... وتسارعت في بعض الأقاليم في عهد الجزار بعد أن توقفت في عهد ظاهر العمر. ومن أبرز مظاهر هذه الفترة تقليص تجارة فلسطين مع أوروبا ، تلك التجارة التي ازدهرت في عهد ظاهر العمر وانعشت الزراعة الى حد كبير ، خاصة زراعة القطن. وبداهة ان تزداد الانفجارات الشعبية في عهد الجزار ، وان يشارك فيها جميع فئات الشعب في المدينة والقرية .. ومن أبرز هذه الانفجارات ثورات الفلاحين في منطقة نابلس وثورة الحرفيين والتجار في مدينة دمشق (1789).. وغزوات القبائل في الجليل وسائر مناطق فلسطين." (407).
أفضى سلوك الجزار الى إشاعة الصراعات حتى داخل العائلة الواحدة . " ومن فظائع هذا التطاحن المهولة ان الأمير يوسف الشهابي سمل عيني اخيه سيد احمد واغتال اخاه الثاني الأفندي . وعلى الرغم من ذلك لم يوطد حكمه فقد عزله الجزار، وحين لجأ اليه لاسترحامه شنقه فورا..."(408)
ونقل المؤرخ عن يوسف خطار الحلو في [كتابه "العاميات الشعبية" –دار الفارابيً،ص28] ان الجزار ساند الأمير بشير الشهابي الثاني عام 1790 وفرض حكمه على الجليل ، لكنه عاد وعزله وطارده مدة سنتين ، ثم وافق على عودته، وبذلك خلق الظروف ليرتكب هذا الأمير الجرائم بحق أفراد عائلته . فقد قتل أبناء الأمير يوسف ، كما قتل بأعنف الوسائل مربيهم برجس باز. إذن لا خلاف على أن صفحة الجزار كانت صفحة مظلمة حالكة في تاريخ سوريا الطبيعية وتشمل فلسطين."(408).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل