الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2019 / 11 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الخوف متأصل في الإنسان، وجزء أساسي من تكوينه النفسي، وربما كان الخوف الغريزة الإنسانية الأولى، إلى جانب غريزة الحب، والتي منهما تولدت بقية المشاعر الإنسانية.. بيد أن الإنسان كان دوما يتأثر بالخوف أكثر، فيدعه يحتل الجزء الأكبر من كيانه.. حتى صارت تصرفاته في أغلب الأحيان منبعها الخوف..

نشأ الخوف مع نشوء الإنسان، منذ الزمن السحيق، وتطور مع تطوره، فعندما كان الإنسان الأول يعيش في مغارة، لا ماء فيها ولا كهرباء.. كان الظلام يحيط به من كل جانب، فيتسلل الخوف إلى خلاياه، ويستبد به، ليتوجس خيفة من أي حركة، ومن أي صوت.. كان كل ما يحيط به يشكل خطرا على حياته: الحشرات، الزواحف، الوحوش.. وحتى البشر سكان الكهوف المجاورة والبعيدة.. وكان كل من لم يخف، يتعرض للموت، فنحن أحفاد أسلافنا "الجبناء"، الذين اختبروا الخوف كشرط أساسي للبقاء، كما يقول "حامد عبد الصمد" في برنامجه "صندوق الإنسان".. كان مصدر الأمان الوحيد للإنسان يتمثل في شخصه، وفي عائلته الصغيرة التي تشاركه المغارة.. وكل ما عدا ذلك يمثل له عدوا وتهديدا..

ومع توالي السنين وتعاقب الأجيال، توارث الإنسان جينات الخوف، واستقرت في عقله الباطن.. فاقترن الليل والظلام عنده بالخوف، كما اقترنت به الأفاعي والضواري وظواهر الطبيعة المهلكة.. لذا، وحتى في عصرنا الراهن، رغم النور والكهرباء، ما زلنا نخاف الظلمة، وما زلنا نرتعد بمجرد رؤية الكائنات التي كانت تشكل خطرا على أسلافنا، رغم أننا لم نختبر أذاها، ولم نجربها.. وما زال في أعماقنا خوف وحذر من الغرباء، والمختلفين.. وخوف من أشياء وهمية كثيرة، كانت جزءا من خيال وأوهام الإنسان القديم، وظلت مختبئة في أعماقه/نا..

على نحو بطيء، وضمن مسيرة ملحمية استغرقت مائتي ألف سنة، تطور نظام اجتماعي لبني البشر.. فنشأت العائلة، ثم القبيلة.. ما كان يجمع القبيلة آنذاك لغة يتفاهمون بها، تشابه أشكالهم وألوانهم، وأنماط حياتهم، وأكلاتهم، وعاداتهم، ثم آلهتهم، وطقوسهم الدينية.. تلك الأشياء جمعت ووحدت كل قبيلة، وشكلت هويتها، وبنفس القدر كانت سببا لرفض القبائل الأخرى، أي الخوف منها، واعتبارها تهديدا وجوديا، خاصة مع ضنك العيش وشح الموارد، التي كانت سببا لصراع صفري بين كل قبيلتين.. من ينتصر يعش، ويظفر بالشحيح والنادر من موارد الأرض وخيراتها.. ومن يخسر يموت..
كانت القبيلة ملجأ الفرد من الخوف، حيث تمنحه الأمان؛ إذا فشل في تأمين قوته، أو إذا أصيب أثناء الصيد، ستوفر له القبيلة المأكل، وإذا غاب لأيام طويلة، ستحمي أطفاله.. وهكذا، كانت تلك حاجات ومنافع متبادلة أسست لنظام التكافل الاجتماعي. لكن القبيلة نفسها ستصبح مصدرا للخوف، أي إنها ستصدّر الخوف لأفرادها لدفعهم لمقاتلة القبائل الأخرى.. وفي مرحلة لاحقة، تطورت القبيلة، وصار لها إلها ودينا يميزها، فصار التمايز الديني إضافة للتمايز في العناصر الأخرى سببا إضافيا لرفض الآخر، ومحاربته.. وبذلك صار الدين نفسه (الطائفة الدينية) منبعا يصدر الخوف، بنفس المسار التطوري الذي سلكه الفرد، ثم القبيلة، والآن الدولة.

إذاً، شكَّلَ الخوفُ إستراتيجية بقاء للإنسان، وطوق نجاة لمن أراد الحياة.. وإذا أردنا تبسيط المعنى، واستبدال كلمة الخوف بالحذر، فإن الحذر (أو الخوف) كانا في حقيقة الأمر المحرك الأساسي لتطور الإنسان، وبناء الحضارة، على المستويين الجمعي والفردي.. فمثلا، كان الخوف من الموت، وبالتالي الخوف من انقراض الجنس البشري دافعا للتزاوج والتكاثر، وتوريث الجينات للأجيال القادمة، أي تمديد حياة الفرد والمجموعة..

لكن الخوف لا يعني دائما الحذر؛ الخوف سببه عدم ثقة بالنفس، وشك بالآخر، فيتحول إلى رفض، ومن ثم إلى غضب وكراهية، وفي كثير من الأحيان يتحول إلى عدوانية.. وفي حالات أخرى، إذا لم يستطع ممارسة رفض الآخر ومجابهته، يتحول إلى رفض للذات، وكراهية لها، وبالتالي إلى اكتئاب.. فينتج الخوف شخصيات مضطربة، تكره الآخر لمجرد الاختلاف معه في أي شيء (الشكل، الأفكار، نمط المعيشة..)..

هذا الخوف "القديم"، والمتأصل، والمتوارث جيلا بعد جيل، ربما يفسر الكثير من ظاهرات حيواتنا الاجتماعية كبشر.. ويجيب على سؤال لماذا وكيف نشأت الحروب والصراعات؟ بين القبائل، وبين الطوائف، وبين الدول.. وحتى بين الأفراد..

في مراعي الأبقار يضع المالك على حدودها سياجا معدنيا "مكهربا" بارتفاع 20 سم، بوسع أي بقرة القفز عنه والهروب بعيدا.. لكن الأبقار لا تفعل ذلك، لأن الأجيال الأولى حاولت، فصعقتها الكهرباء فصارت تخاف من الاقتراب من السياج.. الأجيال اللاحقة لم تختبر خطورة السياج المكهرب، ومع ذلك تتجنبه، لأنها ورثت الخوف من أسلافها.. وهكذا تظل حبيسة ضمن الحدود التي رسمها صاحب المزرعة..

كم من الأسيجة المكهربة نخشى تخطيها؟ أسيجة وضعها أسلافنا لتفادي مخاطر معينة كانت تحيق بهم آنذاك، وتلك المخاطر لم تعد موجودة، لكن تلك الأسيجة بقيت كما هي!! أسيجة تقرر حدود أفكارنا، وتصرفاتنا، وترسم معالم حياتنا الاجتماعية بمعايير قديمة، عفا عليها الزمن..

تقوقع الإنسان القديم حول ذاته، وحول قبيلته، وحول طائفته ظل كما هو، رغم عصر التكنولوجيا والثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات، وانفتاح الشعوب على بعضها.. ومع هذا التقوقع، ظل الخوف، ورفض الآخر، وظلت الكراهية.. لكن التعبير عنها صار بأدوات العصر الحديث: بأحدث الأسلحة، وأشدها فتكا!! وما أضاف إليها الإنسان هو عشرات الأيديولوجيات والنظريات التي تبرر هذا التقوقع على الذات، وتجمّل رفض الآخر.. باسم الدين والطائفة والعصبية والوطنية..

لن يتحرر الإنسان، ولن ينال السعادة ما لم يتحرر من الخوف.. ما لم يحطم كل سياج وضعه عقله، أو ورثه دون وعي.. لكن الإنسان لن يلغي الخوف من حياته، فالخوف ضروري لديمومة الحياة وتطورها.. الخوف بحد ذاته ليس قرينا للجبن، الخوف غريزة وحاجة مثل الأكل والجنس.. ولكن، علينا أن نزاوج بين الحب والخوف، فمرة نغلّب الخوف، لنتجنب كل ما هو خطر ومؤذ، ومرة نغلّب الحب، لنتجاوز به الكراهية..

المشكلة تكمن في الخوف من الخوف، أي الرهاب والخوف اللامنطقي، الحل الوحيد هو مواجهة مخاوفك، والصبر عليها، والاعتراف بها.. وبدلا من رفض الآخر، جرب الانفتاح عليه، والقبول به، واحترامه كإنسان، رغم اختلافك الفكري والشكلي معه..

قبل القبيلة، وقبل الأديان، والطوائف، والقوميات، والدول، والحدود الوهمية.. كنا وما زلنا بشرا، توحدنا وتجمعنا الإنسانية..
فرّقنا الخوف عن بعضنا، فليجمعنا الحب..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل