الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنشودة للإنعتاق 1 من 10

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2019 / 11 / 24
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أسباب مُشجعة للكتابة

وصلني قبل فترة وجيزة عملٌ أدبي جميل للكاتب يحيى علوان موسوم بـ "مطارد بين… والحدود". صدر مطلع عام 2018 عن دار الفارابي. بيروت ـ لبنان. يقع في 415 صفحة. وما أن ظهر الكتاب بين يدي حتى أغرتني كلمة حدود، بل التوليفة المؤثرة بين المُطارد والحدود والنقاط الثلاث المجهولة بينهما. أجهزت على الكتاب خلال يومين إثنين فقط. أعني القراءة الأولى تحديداً. وبدأت بالعمل عليه ومعه في الحال. على أمل الإطلاع لاحقاً على الأعمال الأخرى للكاتب.

تتداعى الإنطباعات والتصورات والتقديرات، عند الإنفعال الصميمي بعمل إبداعي ما. وتنفتح بإنسيابية حرة في الذهن من غير قيود. بما فيها قيود القواعد المعلنة في ميدان النقد، بكل مدارسه وإتجاهاته وأنواعه. يقف العمل بشخصياته الأكثر إشراقاً، كما لا تغيب الشخصيات الأكثر صارمة وعبوساً، الحديثة منها والموغلة في القِدّم. يكون صدق الإنفعال الذاتي الميزة ذات الإعتبار أو القوة المحركة في مقامٍ أو وضعٍ كهذا. توخياً للدقة، أقول: إن الإنفعال يُروض ليأخذ حالة من السكون. يوحي للإنسان بأنه في ذروة التجرد. يمكن أن أفسر وهم التجرد، بأنه مجموعة من وقفات التأمل، لترويض التسرع المحتمل، وتحقيق مغالبة بين التقديرات بأقل قدر من العاطفة والعاطفة المنفعلة بصورة خاصة، والحذر المطلوب منهجياً. هذا كان حالي عند قراءتي لـ"مطاردٌ بين... والحدود".

أضيف للدقة أيضاً: إن الإنسان مهما تجرد أو حاول ذلك، يظل شيء من العاطفة وتأثراتها في عمق معرفته غير البائنة، والغائرة في بواطن ذاته، تنبض بإحساس لا تُلمس حركته. تحضر أو تتسلل المؤثرات القريبة والبعيدة، حتى تلك التي يُخاصمها. إنها إختراقات لجدار الذاكرة البعيدة، أعني الجزء الأقدم منها، من حيث يدري ولا يدري صاحبها. فلا غرابة أن تتجلى مقولة: "المعرفة تذكر" في صدارة الفلسفة عند الإغريق.

وإذا أمكن تمرير القول: ليس بالضرورة أن تنضوي معالجة أي عمل إبداعي، تحت راية أحد الإتجاهات الرئيسية السائد في عالم اليوم. سواءً ما كان منها مؤسساً على النقد الإجتماعي أو التحليل النفسي أو البنيوية الوظيفية وغيرها. توجد في أحشاء كل مدرسة أو إتجاه إختلافات وتناقضات، ربما لا حصر لها. الى جانب ذلك توجد أسئلة ملحاحة، تقول: هل هناك فرق في النظرة الى أي نص لكاتب تعرف وآخر لا تعرفه؟ وهل المفردة تأخذ ذات المعاني والأبعاد الزمانية والمكانية في الحالتين؟

بعد تجاوز أكبر قدر من الإنفعال. والسعي للحد منه قدر الإمكان. والإنتقال الى قراءة جادة تأخذ صفة القراءة الختامية. دون تجاهل كل المحاذير السالفة. تظل هامة للغاية النظرة السوسيولوجية للعمل الإبداعي. يمكن الإحتماء بها، وتبرير جدواها وفاعليتها، من خلالها أو من خلال أدواتها. والأهم من خلال تأكيدها على أن العمل الإبداعي، هو قطرة في بحر العلاقات الإجتماعية الإنسانية. ذلك البحر الهادئ حيناً والمتلاطم أحياناً. وربما من أدق النظرات النقدية والتحليلية، هي تلك التي ترى في العمل الإبداعي بكل أنواعه: رواية، قصيدة، لوحة، مقطوعة موسيقية، مسرحية...الخ. حدثاً إجتماعياً. يتشكل في محيط إجتماعي، بكل حالات ومراتب التواصل الإنساني نوعاً وكماً. ذلك بعلم المبدع أو المرسل أو صاحب الخلق، أو حتى من دون علمه. إن حقائق وقوانين العالم المادي موجودة في حالة معرفتنا الكاملة بها أو بعدمها أو بين بين. وكذلك العلاقات الإجتماعية في تشابكاتها التي يفرضها أي وجود إجتماعي. هذا دون تَجاهُلِ حقيقةَ أن بعضَ حالات التشابك الإجتماعي، أقلُ حسماً ووضوحاً بما لا يقاس، مقارنة بغيرها في العالم الطبيعي المادي.

لا تنشأ القيم الروحية بمعزل عن الحياة الإقتصادية، والتاريخية، والعلاقات بين الطبقات الاجتماعية، ولا تنفصل القيم الفكرية عن الواقع الاجتماعى. بل هى قائمة بالذات على ذلك الواقع أو تجريداً له. ومن التعسف أن يكون الربط ميكانيكياً أو مطلقاً. فالثقافة بمجمل عناصرها كبناء فوقي لها قوانينها الذاتية، والمستقلة نوعياً بصورة نسبية. أليس العمل الفني هو ترجمة أو محاكاة للواقع، وليس آلة تصوير. وحتى لآلة التصوير "الكامرة" مهاراتها المبدعة، التي تتجلى بحسِ مَنْ يقف خلف العدسة، وذاته الفاعلة، ونوع معاناته، اللحظي منها والمديد. وكيف يرصد حالة الفرد أو الجماعة في دائرتهما الأوسع ـ المجتمع. ويظل الانسان هو المحور المركزي الذى تدور حوله الأحداث، وبدونه يستحيل وجود إبداع. وفي إندماجه مع المفاهيم والكيانات من حوله. إن عمليات الخلق تمس طرفي المعادلة المنتج والمستهلك، طبعاً ليس بالمعني المتداول أو الموصوف عن الإنتاج البضاعي.

بعد الإشارة الى منطلقات قراءة النصوص الإبداعية لـ"مطاردٌ بين ... والحدود". يبدو السؤال عن مبررات إنفعالي بـها وجيهاً. فلا يوجد إنفعال دون دوافع ومحركات ونبضات وصلات. وحين حاولت التحري عن حقيقة الأمر. وجدت الكثير الكثير من الأسباب الحقيقية والملموسة. ووجدت من الضروري التوقف عند كل واحد منها، أو أقلة بعضها:

أظن أن كلمة مطارد لها وقع خاص، عند كل مَنْ عاش في ظل أنظمة القمع، ولفترات مديدة. والحال نفسه عند شقيقتها كلمة حدود. بديهي أن المطاردة في حينها لا تنطوي على أي شيء رومانسي. وتتطلب الملاحقة بكل أنواعها يقظة عالية، واليقظة بمعنى ما عملية إستنزاف، وإن كانت مشرفة. وكم هو إحساس كريه الشعور كأنك صيدٌ للأعداء أو الخصوم. وحتى الإستقواء بأبي مُحسَد: "وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا" ليست شفيعاً كاملَ القدرة.

أما قدرات الأشخاص في مواجة المفاجآت، فهي بالواقع متفاوتة. في الوطن يَميلُ المُلاحِقون إلى القيام بـ"زيارات مفاجئة" في مطلع الفجر. ومحاولة الصيد هذه هي سلاح العدو الدائم. وفي الحدود كل حدود يكون "حماتها" مهوسين بالمطاردة. يمكن تفكيك طلاسم الحدود بالخبرة المكتسبة، والإهتمام المبكر، والصيانة التام، وصلابة وموثوقية المعنيين، ودراسة نظام المراباة الراجل والسيار الذي يعتمده "الحماة". تظهر في المواجهة قوة جديدة عند المُطارد، تتمثل بالكرامة الشخصية كخط مواجهة أول. بعدها تُسْتَحْضَرُ القناعات والمشروع والثقة برفاق الدرب وعوامل أخرى كثيرة وهامة، تأتي بإرادةٍ وحتى من دونها.

إن علم اجتماع (النقد السوسيولوجي) يملك مرونة منهجية في شرح البناء الإبداعي بسياقه الاجتماعي. وتصبح اللغة أوسع دلالة وأعمق في محيط علاقاتها الإجتماعية المتشابكة. والكلمة الواحدة تعبر عن معان عديدة أكثر ملموسية وتفرداً. تكتسبها من الموقع الذي تولد فيه. ومن النبرات الصوتية. وحركة وردود فعل الجسد، ومن سياقات عديدة تُبنى أو تُطْرَحُ فيها. هذا الى جانب كل حالة الإنعكاس الأخرى، التي تُساهم في إضاءة العمل الروائي. وتشرق من جانب آخر علاماتٌ وأدلةٌ ورموزٌ ومقاربات تُضيء النص في حركته وإيقاعاته.

جاءت قراءتي لـ"مطاردٌ بين... والحدود" في وقت عثر فيه الكاتب عليّ، أو عثرت عليه. بعد إنقطاع أخبار كل منا عن الآخر لعدة عقود. ومن مفارقات الحياة، حتى عندما نكون في مكان واحد، تبخل علينا الحياة أو حالاتها في ظروفها الملموسة، أن نلتقي وجهاً لوجه. هذا حصل مرتين. الأولى في بغداد. كنّا نعمل سوية في ذات الجريدة "طريق الشعب" أواخر السبعينات. والثانية خلال المؤتمر الوطني الرابع للحزب ـ الحزب الشيوعي العراقي 1985 بكردستان. ربما لا تبعد المسافة بيننا أكثر من 500 خطوة بين مقر الإعلام المركزي للحزب، وبين خيمة المؤتمر. إنها مفارقات الدنيا. جميل أن نعثر على بعضنا في وقت لم يمض فيه الكثير من الوقت على صدور "مطاردٌ بين... والحدود". فلا غرابة أن تسخن الذاكرة إتجاه صديق عاد إليك أو عدت إليه بعد غياب مديد.

ومن أسباب تناولي أن الكاتب أشار إليَّ بالإسم. كما فعل الكثير من أصدقائي، الذين كتبوا عن دورهم في سنواتنا المشتركة. لم أبادر سابقاً الى الكتابة عن تلك الفترات المشتركة. ولا أنوي ذلك لحد الآن على الأقل. لأنني أعتبرها جزءاً من واجبي إتجاه قناعاتي فحسب. وأخشى أن أقع، عن دون قصد، فيما وقع به بعض الأصدقاء. مثل، إعتبار الذات حجر الزاوية، أو إهمال دور الآخرين، أو النظرة الأحادية الى الحالات والظواهر العامة و و و الكثير. هذا على الرغم من المطالبات المباشرة من قبل بعض الأصدقاء. وإعتبارهم ذلك خدمة للمساهمة في إظهار الوجه الأصيل، لمرحلة إتسمت بالصعود الثوري النقي. ومثلت رداً ثورياً على العدوان، الذي تعرضت له شعوب منطقتنا، أي بعد العدوان الصهيوني عام 1967 على الدول والشعوب العربية. سأكتفي في هذه الفترة، بما قاله الصديق الكاتب يحيى علوان، وما أضافه أصدقاء الآخرون، وإذا أضفت شيئاً، فذلك يستهدف إستكمال الصورة، وضمن تناولي للكتاب.

ومن الميزات المشجعة في سردية الكاتب، أنها مختلفة. خالية من الترهل والشد الأناني، والتواضع المفتعل الذي يظهر بغير موقعه. ومن الإحتباس في شبكة خيوط الخوف الواهية، بسبب أو من دونه. تَظهَرُ المعاناةُ التي يسردها الكاتب بواقعِها الإنسانيِّ المرن والسهل والعميق، دون ممارسة أي جهد للإقناع. ترد الحالة الإنسانية كما هي، بما لها وما عليها، صافية كالماء الزلال الذي حُرم منه في حالات عديدة كادت أن توصله الى موت محقق في معركة مع الطبيعة حسب. وشَمِلت قصص الكتاب صوراً وأحداثاً وتطوراتٍ ومواضع ومواقع ومحن مضنية أيضاً.

لم تأخذ سرديات "مطاردٌ بين ... والحدود" طابعَ تلك الكتابات، التي تناولت أحداثاً مشابهة. حيث إتسمت تلك الكتابات، في الغالب، بخصائص العمل الصحفي الجاف، ونقص البراعة الفنية والروح الشاعرة. يعوز بعضها التواضع المطلوب والضروري فنياً وإجتماعياً. والى جانب الضعف في محاولة النظر بعيون متفحصة الى الأحداث، من داخلها ومن حولها، وفي تشابك علاقاتها.

تمسك الكاتب في عمله بالتواضع والوداعة والمحبة وروح الجماعة، بما لها وما عليها، وفي حالتي: التجلي والإنحدار. وبذلك تَغلبت روايته على نظيراتها من حيث الصدق والدقة، والتواصل الزمني لإعادة الحياة من جديد الى سيرة تلك السنوات.

فَرَضَ عليّ سلوك الكاتب الإبداعي أن أقول: أنه الأكثر توخياً للدقة في سرد الأحداث، والأقرب الى تلك الأحداث. أجمل النصوص تلك لا تبغي تطويع الزمن. وإنما الوثوق بأنها وجدت لتحسين شروط الزمن بحدود الممكن. حين تسود النصوص الرغبة في الإقتراب من الحقيقة، فهي تقترب من قيمة إبداعية قائمة بذاتها. وهي تشترط بأن يثق الإنسان بحاله، وهذه الثقة لا تنطوي على وهم الرضا عن الذات، بل تظل الطبيعة أجمل من تصويرها، وتأتي القيمة الإبداعية من الإقتراب الى الواقع. أجمل ما في رواية الكاتب يحيى علوان أنه لم يضع فوارق بين حديثه وسط الجماعة الإجتماعية أو مع نفسه.

أعترف بأن التقارب في وجهات النظر في الشؤون العامة والهامة والمعقدة والحساسة تمهد الطريق للإحساس بالقرب من الآخر النظير. وهذه الحالة تتوطد إذا أخذت مداها الضروري من حيث الوقت. فالوقتُ بذاته مختبر كبير وحيوي بآلياته المادية والثقافية والروحية. في كثير من الأحداث بدا لي الأمر في إتجاهات وأحوال العمل الذي بين أيدينا، وكأني كنت في حوار مفصل مع الكاتب. وخلال هذه المادة سأتَوَقَفُ عند تلك الحالات التي رسمت بريشة فنان موهوب من خلال "مطاردٌ بين... والحدود". وإذا تَمَرَّنَ العقلُ الفردي بجدية تتغيّر نظراته في التعامل مع كل إختلاف. خاصة إذا إكتسب الفرد معارف من النوع الذي يُعتبر ضرورياً لكل إنسان. والأهم حين تتخضب أو تتعزز تلك المعارف بالخبرة الملموسة. وبالتعرف على المزيد من أنماط السلوك النفسي والعملي للفرد والجماعة على أرض الواقع. ولا يكون الإنسان غِرّاً في فهم طبيعة وأبعاد العلاقات مع الآخرين. خاصة إذا تمرس في مواجهة حالات متعدد من الإيقاع وأنماط السلوكية.

وعليّ أن أبرر كل ما أقوله عن أساليب الكاتب الأثيرة في السرد الروائي وتقنياته المحكمة. ليس بصدد صياغته للرؤية الفنية للعالم من حوله فقط. بل فيما يترك بذهن القارئ، بأنه مجرد شاهد، ينقل الأحداث بحيادية تامة. وعندما يقتضي الموقف أن يكون حَكَمَاً على الأحداث يكون صريحاً برأيه الى أبعد الحدود. وفي الحالتين كشف الكاتب عن مهارة لا تثير إلاّ الإعجاب المبرر. إن مهارة أي كاتب تتجلى بما يتركه من شعور بأنه صادق الى أبعد الحدود، هذا دون أن يفقد أو يصيب بالأذى إسلوبه السردي، حيث يشعرك بحلاوة الإيقاع الدرامي، والمشهد الدرامي أو السينمائي، ولا ينقصه من ضرورات الدعم الغنائي. ويتواصل اللحن في إنسجام ذبذباته، ويرافق المشهدُ السينمائيُّ القارئَ والناظرَ منساباً بلا خدوش، ولا إيقاعات تزلزل هدوء وإنسيابية التواصل.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هذا يعني ان الكتاب جميل ونافع في محتواه ونصكالاخاذ
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2019 / 11 / 24 - 22:23 )
عزيزي د عبد الحميد دليل على ذالك ولكنك لم تذكر لنا شيئا عن الوقائع التي تضمنها الكتاب حتى ماكان يتعلق بذكر اسمك مع تحياتي الحاره-من جونا المتجمد-لك وللزميل يحيى علوان وللاسف وبسبب العمر والصحه ساكون محروما من التشرف بقراءة الكتاب تحياتي

اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية