الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الحرب والحب والخوف (10)

حسين علي الحمداني

2019 / 11 / 24
الادب والفن


ذات مساء كنت أطالع في الصحف خبرا يقول( مشاريع بناء وتوسيع طرق في الخالص)الخبر في الصفحات الداخلية،لم أقرأ من قبل خبرا كهذا عن الخالص،شعرت أن شيئا ما قد حصل في مدينتي،كان من بين الذين سيلتحقون من ألإجازة بعد يومين جندي اسمه عباس من أحدى قرى الخالص القريبة،ربما يحمل الأخبار التي تفسر لي خبر الجريدة هذا.
عندما عاد عباس من الإجازة،سألته عن أخبار الخالص،نظر لي وقال كلهم أخذوهم،حرقوا البساتين،سحبته جانبا قلت له ما الذي جرى،قال داهموا بساتين(الكوبات)واعتقلوا رجال ونساء وحتى أطفال،قلت مع نفسي بساتين الكوبات يعني بساتين خالي وجدي لأمي.
من الغباء أن أتصل هاتفيا وأستفسر،لم يكن هنالك وسيلة لمعرفة ماذا جرى في الخالص،لم يكن أمامي سوى الصمت،إجازتي بعد هذه الوجبة،حاولت إشغال نفسي ريثما يأتي موعد الإجازة،عندما تمتعت بها،عرفت ما حصل،اعتقلوا الكثير من أبناء المدينة من بينهم خالي العسكري المجاز،وأبن عمه لأنهم يمتلكون بساتين تم تجريفها ومن ثم تمت مصادرتها للحكومة وهم الآن لا أحد يعرف مصيرهم.
في هذه البساتين تم فتح الشوارع كما قال الخبر المنشور في الجريدة حينها،شوارع عريضة،الكثير منها تم تجريفه،يقال إنها كانت تحتوي على أوكار لحزب الدعوة وبعض الهاربين من الجيش،وتمت مصادرتها وبيعت لأشخاص آخرين،لم يسأل أحدا عن مصير هذه البساتين،بقدر السؤال عن مصير ألأشخاص الذين اعتقلوا من قبل الجهات ألأمنية ومن بينهم خالي.
لم يبقى لي سوى خال واحد بمثابة صديق عادة ما تتصادف إجازاتنا معا،هو الآخر كان يعمل بناءا،شجعني أن اعمل معه في الإجازة من أجل قضاء الوقت،لم استجب في بداية الأمر لكنه أقنعني،كان الأمر صعبا نوعا ما على شخص مثلي،لكنني تعودت على ذلك خاصة وإن الوقت بحاجة لعمل كي يمر مسرعا.
كانت هذه آخر إجازة نلتقي معا أنا وخالي هذا،عندما التحقنا في يوم واحد هو ذهب للشمال حيث وحدته وأنا ذهبت للجنوب حيث البصرة،بعد أيام وقع هجوم على وحدته،سمعت ذلك في بيان عسكري،كنت في غاية القلق عليه،بعد يومين نجحت في الاتصال بأهلي هاتفيا وعرفت إنه وقع في الأسر،خبر نزل كالصاعقة حاولت جاهدا أن أتكيف معه لكنني لم أستطع ذلك،حاولت أكثر من مرة،ولم ينقطع تفكيري في هذا ألأمر إلا مع بداية هجوم قوي وكبير احتلت في نهايته القوات الإيرانية مثلث الفاو،كانت وحدتنا ضمن قاطع البصرة لكن بعيدة عن الفاو،المعركة طويلة استمرت لأكثر من خمسين يوما قطعت فيها الإجازات،لكنه يسمح لنا بالنزول للبصرة في النهار،فكرت بذلك ونزلت،كنت أعرف إن صديق طفولتي وإبن الجيران عباس في لواء هو في البصرة،قوة عسكرية كانت يافطتها أمامي في القدمة الإدارية،مررت أسال عنه،سألني أحدهم هل أنت قريبه قلت له جيران،قال بالأمس إستشهد.
صدمة جديدة أنستني صدمة أسر خالي،تمالكت نفسي وخرجت من الوحدة وقررت أن لا أسال بعد الآن عن أي شخص أعرفه،كانت مدينة البصرة مزدحمة بالآباء والأمهات الباحثين عن مصير أبنائهم،وجوه خائفة من الإجابة التي قد تصدمهم،كانت الأمهات أكثر من الآباء،كنت أنظر في تلك الوجوه التي ربما البعض منها كان يتمنى أن لا يكون له أبنا والبعض كان لا يعرف أين يذهب ومن يسأل.
الكثير منهم كان يسأل في وحدات الميدان الطبية والمستشفيات المدنية والعسكرية،المنظر مؤلم والحرب قاسية،عدت أدراجي لمقر الوحدة،كان هنالك جمعا من الآباء والأمهات يسألون عن أبنائهم،لم نكن ضمن القطعات التي تعرضت للهجوم أو شاركت فيه،لكن تعرضنا للقصف،وجودنا في البصرة وحده يكفي لقلق الآباء والأمهات،ولولا التلفون هذا لكانت أمي من ضمن الحضور هنا.
ستون يوما مضت على وجودي هنا دون إجازة،ربما أنا أقلهم،لأنني التحقت قبل الهجوم بأيام،لم تكن هنالك بارقة أمل في فتح الإجازات،وإن تم فتحها ستكون ثلاثة أيام ليس إلا.
يبدو إن إحتلال الفاو تعاملت معه القيادة كأمر واقع خاصة وإن الخسائر كانت كبيرة قدرت حينها بأكثر من أثنا وخمسون الف بين شهيد وجريح،هذا الرقم مؤلم جدا.
إنتهت عمليات الهجوم المقابل،تم فتح الإجازات ثلاثة أيام لكل وجبة،هذا يعني في غضون إسبوعين يأتي الدور لي،فكرت أن لا أخذها لأنها تنهي في الذهاب والإياب،مضى علي أكثر من سبعين يوما،عندما جاء موعد إجازتي كنت أنا من حمل كل الإجازات لآمر الوحدة لكي يصادق عليها،سألني من منكم مجاز في هذه الوجبة قلت له أنا،قال هل تكفيك هذه الأيام القليلة،ابتسمت وقلت له أسوة بالجنود الآخرين،شعر الآمر إنها لا تكفي وقال لتكن إجازتك أكثر قليلا وأتفق مع أبو أحمد.
نقلت هذا لأبو أحمد الذي قال تدلل أبو علي،كانت إجازة دورية بثمانية أيام شريطة أن أجلب معي كيك وكليجة وكبة وهي اكلة تجيد أمي عملها ،شعرت حينها إن ثمة تعاملات إنسانية كبيرة جدا قد لا نجدها خارج حدود الحرب.
كالعادة في الفجر كنت في البيت،ظلت تبحث في ملامح وجهي وتتحسسني كأنها تبحث عن جرح أو شظية أو بقايا ألم،كنت بحاجة قوية للنوم،حتى لم أفكر بأي شيء رغم وجود كدس كبير من الرسائل والصحف والمجلات موضوعة على طاولة في غرفتي الصغيرة.
بتكاسل استحميت،كأني أحاول التخلص من رائحة الحرب التي فاحت من ملابسي التي فرغتها أمي من حقيبتي ووضعتها في الماء الحار،وضعت رأسي على الوسادة ونمت أطول فترة في حياتي استغرقت تسعة عشر ساعة من السادسة صباحا حتى الثانية من فجر اليوم التالي،حين صحوت كان الكل يغط في نوم عميق.
كنت تعلمت كيف أصنع الشاي وأعمل فطورا بسيطا لي،سمعت صوت أمي تنادي منو،قلت لها (آني)قالت أعمل لك أكل، قلت لها لا أنتهيت من عمل ذلك،وبدأت أفتح الرسائل التي وصلتني من بقاع عربية عديدة،بعضها كان يتحدث عن حرب الفاو،هنالك مجلات وصحف عربية في مظروفات كبيرة،هنالك صفحات مقطوعة منها،كنت أعرف إن الرقابة لا تسمح بمرور ما يتعارض وسياسة الدولة،استغرق الأمر أكثر من ساعتين وساعة أخرى أجبت على رسائل أصدقائي من المغرب والجزائر والسعودية والأردن وصديق آخر من النجف.
كانت غرفتي عبارة عن مكتب فيه من الأوراق أنواعا كثيرة،ومضاريف رسائل وأقلام متعددة كأني أحاول تعويض رغبتي بالحصول على قلم جاف أيام طفولتي،الآن لدي عدد كبير ومتنوع منها.
كان مجموع الرسائل التي أكملت كتابتها أكثر من عشرين رسالة،فكرت أن أرسلها من بريد بعقوبة طالما إنني ذاهب للتربية كي أخذ رواتبي للأشهر الثلاثة الماضية،سيكون مبلغا مهما.
عندما وصلت للمحاسبة،سمعت منها عبارة حمدا لله على السلامة،قالتها بروحية عالية،شكرتها وناولتها كتب التأييد كل حسب شهره،قالت كل الجنود تأخروا لكنك تأخرت جدا يا أستاذ،أول مرة أسمع من يناديني أستاذ،قلت لها وحدتنا في البصرة وانت تعلمين ما البصرة،أنجزت المهمة بسرعة.
إجازتي هذه كانت تختلف عن سابقاتها،لأن الحرب بدأت تأخذ منحى آخر،فيها قساوة جديدة،حتى الحياة العادية بدت قاسية هي ألأخرى،الدوائر الحكومية أمامها متاريس،وفوق أسطحها أسلحة مقاومة الطائرات،حرب المدن بدأت تفعل فعلتها،صواريخ متبادلة بين الدولتين،ولجان المساعي الحميدة تسرب إليها اليأس بعد مصرع أولف بالمه رئيس وزراء السويد،سقوط طائرة وزير الخارجية الجزائري وهو يحاول التوسط لأيقاف فرن الموت هذا.
هنالك من لا يريد لهذه الحرب أن تقف،هذا ما يمكن أن نستنتجه،لهذا كانت السلطة تعالج حالات الهروب من الجيش بإصدار عفوا عاما،عادة ما يلتحق الجنود الهاربين لمقرات الحزب ويأخذون كتب لوحداتهم تؤيد شمولهم بالعفو العام.
كان من الضروري جدا أن يصدر عفوا عنهم بعد معركة الفاو التي احتلت بموجبها إيران مدينة عراقية،قبل نهاية إجازتي صدر عفوا عاما عن المساجين أيضا بما فيهم السياسيين كما يقال،هذا يعني ممكن أن نرى خالي من جديد،تبين إنه حكم عليه بالإعدام ثم نزل للسجن خمسة عشر سنة مع مصادرة أمواله وتنزيله رتبة عسكرية،رغم إنه جندي أول احتياط،أصبح الآن مجرد جندي، أمضى في الأمن العامة وسجن أبو غريب تسعة أشهر قبل أن يجد نفسه مشمولا بالعفو،خروجه من السجن حياة جديدة بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الإعدام.
كان عليه بعد أسبوع أن يلتحق في مقر حدد لهم ليشكلوا قوة من هؤلاء الذين أفرج عنهم بالعفو الأخير.
عندما عدت للوحدة،كانت الإجازات عادية كالسابق،وهنالك من عاد من الهروب وثمة مجالس تحقيقية بالعودة تكون نهايتها إغلاق التحقيق لشمولهم بالعفو العام.
بت أجيد كثيرا أمور القلم الإدارية،أستطيع أحيانا كثيرا أن أدير كل هذا لوحدي،كانت هنالك علاقات وطيدة تربطنا نحن العاملين في القلم مع الآمر وبقية الضباط في السرايا،شيء من الاحترام تفرضه أحيانا كثيرة حاجتهم لنا في الكثير من الأمور.
كنت أجد الكثير من الوقت للكتابة،كانت هنالك مسابقة القصة القصيرة في أحدى الصحف،فكرت أن أشارك، لدي الوقت والقدرة،والمشاركة بحد ذاتها تهمني أكثر من أي شيء آخر،فكرت بكتابة قصة تدور أحداثها بعد نهاية الحرب،أكملتها في ليلة بخط يدي،طالعها كريم قال لي أنت متفاءل جدا،قلت له الحياة الخالية من التفاؤل لا قيمة لها.
أرسلت القصة إلى الجريدة عبر بريد البصرة،وفي نفس الوقت كان هنالك في البريد كتاب يطلب فيه من الوحدات العسكرية أن يكتب من كل وحدة ضابط وجندي بحثا في محاور محددة كانت مدرجة من بينها المعنويات وكيفية رفعها وأمور،نظر إلي الآمر وقال من سيكتب من الجنود،قلت له أنا مستعد لذلك كجندي،وأنت كضابط.
ضحك الآمر وقال معقولة الأمر ليس صعبا،قلت له يمكنك الإستعانة بالكراسات الموجودة لدينا في القلم.
بدأ الأمر سهلا ومحفزا خاصة وإن هنالك جوائز مادية،هذا كان لا يهم بقدر ما يهمنا أن الوحدة تكون مشاركة ولا يؤشر عليها التقاعس في هذا.
أكملت البحث بالصيغ التي أعرفها من هوامش ومصادر وتبويب وبخط جميل،تكفل كريم بخط الغلاف الذي كان عبارة عن فايل ورقي،وفعل كذلك مع بحث آمر الوحدة وتم رفعهما معا إلى الفرقة ومن ثم الفيلق وصولا للدفاع.
في يوم من ألأيام طالعت في الجريدة القصص الفائزة،وجدت قصتي واسمي بالمركز الرابع،فرحت كثيرا،في اليوم التالي تم نشر القصة في الجريدة وطالعها الآمر الذي قال والبحث أين صار؟قلت له هذه قصة لا علاقة لها بالبحث الذي أرسلناه،قال سيفوز بحثك أيضا،ثم ضحك وقال هل تتوقع نهاية لهذه الحرب،قلت له في قصتي هذه تدور أحداثها بعد نهاية الحرب سيدي.
بارك لي الفوز وقال هل تريد أجازة قصيرة أم أمنحك مساعدة فوق إجازتك الدورية؟قلت له أنا الأسبوع القادم مجاز،فهم من ذلك إنني أريد يوم أو أكثر فوق إجازتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب


.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً




.. عوام في بحر الكلام - الفن والتجارة .. أبنة الشاعر حسين السيد