الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقوط المشاعية البدائية بتدمير قرطاجة، وظهور المسيحية

جورج حداد

2019 / 11 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


بعد تفكك نظام المشاعية البدائية، نتيجة التقسيم الطبيعي للعمل، وتطور المهارات، وتعدد الحرف، وتطور ادوات الانتاج وادوات الصيد (والقتل والقتال)، وظهور الملكية الخاصة والتبادل الاولي (المقايضة) ثم الائتماني (الصكوك) ثم المالي (النقود والفائدة والربا)؛ بعد كل هذه التطورات اخذ يظهر بالتدريج النظام القائم على العبودية. وقد نشأت انماط عديدة من النظام العبودي، تبعا لطبيعة الارض وكثافة السكان والعادات والتقاليد والثقافة الدينية والاجتماعية ووسائط النقل البري والنهري والبحري وتطور ادوات الانتاج وادوات القتل والقتال. وقدم لنا التاريخ نموذجين او نمطين للنظام الاجتماعي ـ السياسي "ما ـ بعد ـ المشاعي الاولي":
الاول هو: النموذج القرطاجي (والفينيقي عموما).

ولفهم هذا النموذج نلقي اولا نظرة على نشوء قرطاجة:
في الالفية الاولى قبل الميلاد نشأت المدينة ـ الدولة "قرطاجة"، في شمالي افريقيا، وهي انبثقت عن المدينة ـ الدولة الفينيقية المتقدمة: صور، التي كانت من اشهر واهم المدن ـ الدول الفينيقية المزدهرة في شرقي البحر المتوسط.
وقد اسست قرطاجة احدى اميرات صور "أليسار"، التي ـ في طريقها مع مرافقيها الى شمالي افريقيا ـ مرت بجزيرة قبرص واصطحبت معها عددا من الفتيات الاغريقيات اللواتي تزوجن من الشبان الفينيقيين مرافقي أليسار. ومن هذه النقطة يمكن اعتبار الظاهرة الحضارية التي مثلتها قرطاجة لاحقا هي ثمرة تلاقح حضاري فينيقي ـ اغريقي. وبعد تأسيسها ونهوضها اقامت قرطاجة علاقات تجارية وثقافية وسياسية وعسكرية واسعة مع مئات المستعمرات الفينيقية والاغريقية (السابقة عليها) وغيرها من البلدات في كافة ارجاء افريقيا الشمالية وفي غالبية الجزر والاراضي الاوروبية في غربي وشمالي البحر الابيض المتوسط. ونشرت قرطاجة حضارتها الفينيقية (المطعّمة بالحضارة الاغريقية) في كل تلك الارجاء. وكانت تمثل همزة الوصل والحلقة المركزية او القلب المحرك في كل تلك الشبكة الحضارية الواسعة، والتي قدمت مثالا نموذجيا للعلاقات الدولية الحضارية المثمرة.

وقد قام النمط القرطاجي على "تعايش" ثلاثة اشكال للانتاج:
أ ـ الانتاج العبودي المطلق، حيث توجد طبقتان: طبقة ملاك العبيد الاغنياء الذين يملكون كل شيء بما في ذلك عبيدهم الذين يعتبرون لا اكثر من حيوانات ناطقة؛ وطبقة العبيد الذين لا يملكون شيئا حتى ولا ذواتهم، بل "يملكون" فقط "حرية" العمل المضني حتى الموت ويمكن لسيدهم قتلهم دون ان تترتب عليه اي تبعة.
ب ـ الانتاج المختلط الذي يقوم على العمل العائلي للمنتجين الاحرار، والذين يملكون عبدا واحدا او بضعة عبيد يعملون مع افراد الاسرة ويعيشون معها، وهو ما يسمى العبودية الأسرية، وكان هؤلاء العبيد يعاملون في الغالب كبعض افراد الاسرة، ولكنهم بالطبع يكلفون بالاعمال الاكثر مشقة وقذارة.
ج ـ انتاج المنتجين الاحرار، الذي يمكن اعتباره (بتحفظ شديد) "الوريث الشرعي" المرحلي لنظام العمل المشاعي، حيث يعمل جميع افراد العائلة الكبيرة الواحدة او عدة عائلات معا، بشكل مشترك تماما، وبالتعاون الكامل بين جميع المنتجين اطفالا ورجالا ومسنين، نساء ورجالا، وكل حسب قدرته ومهارته، وينتجون منتوجات معينة، حرفية او زراعية او دواجنية او نهرية او بحرية، ويتم استهلاك المنتوج ضمن مجموعة المنتجين وكل حسب حاجته، ثم يتم مقايضة او بيع الفائض خارج العائلة او المجموعة العائلية المنتجة، ويتم الاحتفاظ بالسلع التي جرت المقايضة عليها او الصكوك التجارية او النقود بشكل مشترك لتستفيد منه العائلة المنتجة او مجموعة العائلات المنتجة بأكملها. ويقود ويدير هذه العملية الانتاجية ـ التبادلية ـ الاستهلاكية ـ الاكتنازية، قائد مسن، حكيم وقوي، يعاونه بعض المعاونين الموثوقين من قبل المجموع وبدون اي مقابل خاص. واذا كان هذا العمل التنظيمي يأخذ كل وقت العامل فيه، فكان القائد يتقاضى بمقدار المتوسط الذي يتقاضاه اي فرد في المجموعة.
ووجدت على هامش والى جانب هذه الانماط الانتاجية شرائح التجار، الصغار والمتوسطين والكبار. وكذلك الملاحون والبحارة والقوات المسلحة الامنية الداخلية والجيوش المحاربة.
ومن كل هذه الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية استطاعت قرطاجة ـ وبحكم الضرورة الوجودية ـ ان تطور نظاما سياسيا "دمقراطيا"، امتدحه "ابو التاريخ" الفيلسوف والمؤرخ الاغريقي هيرودوتس.
وقد نشأ ضمن هذا النظام "الدمقراطي" حزبان:
أ ـ "حزب ارستقراطي" بقيادة عائلة ماغون، ويعتمد في قوته الرئيسية على كبار ملاكي العبيد وكبار التجار والمتمولين.
ب ـ و"حزب شعبي" بقيادة عائلة برقة يعتمد في قوته الرئيسية على المنتجين الاحرار.
ويمكننا (بتحفظ شديد)، ان نسمي النمط الاجتماعي ـ السياسي القرطاجي "دمقراطيا". ولاجل الدقة نكتفي بأن نطلق عليه تسمية "النمط القرطاجي"، الذي هو نمط انتقالي بين النظام المشاعي البدائي المتفكك، والنظام العبودي المطلق.
وفي تلك الاثناء كانت الامبراطورية الرومانية، القائمة بكليتها على النظام العبودي المطلق، تتوسع على حساب الدول والشعوب والمجموعات السكانية المحيطة بها. وكان من المحتم ان تصطدم بالدولة او المملكة القرطاجية. ونشبت بين الطرفين اول حرب عالمية واسعة شملت القارتين الاوروبية والافريقية.
ونأتي الى النظر في النموذج الثاني ـ الروماني:
هذا النموذج كان يقوم على النظام العبودي المطلق للمجتمع المعين المتشكل في دولة. حيث يوجد طبقتان "داخليتان" فقط هما: طبقة ملاكي العبيد النبلاء والاغنياء؛ وطبقة العبيد البؤساء الذين لا قيمة لحياتهم الا كحيوانات عمل حتى الرمق الاخير لمصلحة اسيادهم، اي ملاكي العبيد، الذين يملكون حق قتلهم اذا شاؤوا دون ان يسألوا على شيء. وكان يمكن للعبيد ان يتزاوجوا ويتناسلوا ولكن ابناء العبيد يكونون عبيدا ايضا.
وقد نشأ هذا النظام بالتدريج في الظروف الجغرافية ـ الديموغرافية لروما وايطاليا ذاتها.
فإيطاليا هي لسان ارضي ضيق يحيطه البحر من الجانبين. وطبيعة ارضها الشاطئية، السهلية والجبلية، ومناخها المعتدل، المشمس والماطر، والمليئة بالانهار والينابيع، كان يجعل منها ارضا صالحة للزراعة والبستنة السهلية والجبلية، وتربية الدواجن، والصيد البحري والنهري، والسكن المريح، وسهولة الوصول اليها بحرا حتى بالزوارق البدائية البسيطة. ولهذه الاسباب الملائمة للحياة البشرية، تقاطرت الى هذه الارض الضيقة اقوام ومجموعات بشرية من كل حدب وصوب. ولما اكتظت هذه الارض الضيقة بقاطنيها، صار الاقتتال بين العائلات والمجموعات الاتنية واللغوية المختلفة هو ديدن الحياة اليومية في الارض الايطالية. وينطبق ذلك على المجموعات التي كانت تعيش في ما اصبح فيما بعد يسمى روما. وفي ظروف الاقتتال والهدنات فيما بين المجموعات القاطنة في منطقة روما توصلت هذه المجموعات اخيرا الى الاتحاد فيما بينها وتأسيس مدينة ـ دولة روما، التي تأسست في البداية كـ"جمهورية"، وفي زمن متقدم تحولت الى النظام الامبراطوري او القيصري. وكانت روما ضيقة بسكانها ومساحة ارضها، ومضطرة بحكم الضرورة الى التوسع الجغرافي. ولكنها لم يكن بامكانها التوسع الا بالقتال ضد المجموعات المحيطة بها، والانتصار عليها. وفي البداية كان يتم الاستحواز على اراضي المجموعة المهزومة واسر المحاربين وقتل وطرد الباقين من سكان تلك الارض. وبدأ استعباد الاسرى واجبارهم على العمل لصالح "الرومانيين" الاحرار. ولكن مستوى ادوات الانتاج البدائية المتخلفة لم يكن يسمح للمنتج، سواء كان حرا او عبدا، ان ينتج اكثر من حاجاته الشخصية كي يبقى على قيد الحياة. ولهذا وجد الرومانيون الاحرار انه من غير المفيد الاحتفاظ بالاسرى ولو كعبيد، فكان يتم اطلاقهم وطردهم في بعض الحالات، وفي اغلب الحالات كان يتم التخلص منهم بقتلهم. واستمرت روما ردحا من الزمن تتوسع جغرافيا على حساب جيرانها. وتقتل وتطرد من تنتصر عليهم. ولكن مع التطور التدريجي لادوات ووسائل واساليب الانتاج، صار بامكان المنتج ان ينتج اكثر من حاجاته الشخصية ومن ثم صار يمكن تشكيل فائض معين يستخدم كمخزون. وعلى هذا الاساس "اكتشفت" روما انه صار بالامكان الاستعاضة عن قتل الاسرى او طردهم، باستخدامهم كعبيد لدى "الرومانيين" الاحرار. وبذلك اخذ الرومانيون يتحولون بالتدريج من "منتجين احرار" الى "سادة ملاكي عبيد" يعمل العبيد عنهم ولمصلحتهم جميع الاعمال، من ادناها الى ارقاها. وصارت "المهنة" الوحيدة للرومانيين هي الحرب التوسعية، لاجل التوسع الجغرافي، وللحصول على المزيد من عبيد العمل، الذين لم يكن يسمح لهم بحمل السلاح ولا في المشاركة في "الحروب الرومانية". وجاء وقت "طورت" فيه روما دور العبيد، بأن سمحت لهم بحمل السلاح، والقتال لصالح روما ـ كعبيد، وبدون مقابل مادي او مالي او ما اشبه ذلك ـ وانما مقابل الوعد بإعتاق العبد المقاتل اذا أسر بعض "الاعداء" ومنحه "المواطنية" او "الجنسية" الرومانية كي يصبح هو سيدا للاسير او الاسرى الذين اسرهم. وبذلك تحولت روما الى "سرطان اجتماعي" "أكل" بالتدريج كل ايطاليا، ثم اخذ يتوسع حولها، في الجزر والاراضي الاوروبية المحيطة بايطاليا. وكان من المحتم ان يصطدم التوسع الروماني بالوجود القرطاجي والاغريقي في سائر المناطق الاوروبية. وعلى هذا الاساس نشبت ما تسمى "الحروب البونيقية" بين قرطاجة وروما، التي بدأت في 264ق.م وانتهت في 146ق.م بالتدمير الكامل لمدينة قرطاجة، التي كانت تعد 700.000 الف نسمة حسب الروايات التاريخية. فتمت ابادة 300.000 من سكانها واستعباد الآخرين.
ويرى الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع ان الصراع الروماني ـ القرطاجي انما كان صراعا بين امبراطوريتين ذاتيْ نظام عبودي، وفي الاخير انتصرت الامبراطوية الاقوى.
والسؤال التاريخي هو: لماذا استطاعت الامبراطورية الرومانية الانتصار على الدولة القرطاجية التي كانت في الاساس أقوى واغنى واكثر حضارة ورقيا من روما؟
ان الجواب على هذا السؤال هو مهمة أولية، جذرية، امام الكلية الثقافية في العالمين العربي والاسلامي اولا، وفي العالم قاطبة، في سياق البحث التاريخي عن اسباب تقدم الغرب وتخلف الشرق.
ان النظام الاجتماعي الذي نشأ في روما ومن ثم الامبراطورية الرومانية كان "نظاما عبوديا مطلقا او كليا" حتمت نشوءه طبيعة الجغرافية والديموغرافية في شبه الجزيرة الايطالية.
اما النظام الاجتماعي الذي نشأ في قرطاجة فقد كان نظاما اجتماعيا ـ سياسيا مختلطا، نشأ في ارض مفتوحة وخصبة وفي رحاب الحضارة الهيلينستية. وفي قرطاجة تحديدا تشكل مجتمع مركب من كتلتين رئيسيتين، اجتماعيا ـ انتاجيا ـ ثقافيا وسياسيا.
أ ـ الكتلة الاولى هي كتلة ملاكي العبيد الذين كان بعضهم يملك مزارع يعمل فيها عشرات الاف العبيد الذين كان يتم الحصول عليهم بالشراء وليس بالحرب والاسر. الى جانب كبار التجار وكبار الاغنياء القرطاجيين. وكانت هاتان الفئتان تشكلان كتلة اجتماعية ـ سياسية واحدة يمكن تسميتها "الكتلة الارستقراطية" التي لم تكن تؤيد الحرب ضد روما بل تميل الى المساومة وتقاسم"النفوذ والمنافع الدولية" معها. وكان يقود هذه الكتلة عائلة ماغون الارستقراطية الغنية التي كانت تعمل ضد الكتلة "الشعبية" (التي سنتكلم عنها لاحقا) وتميل الى تحويل النظام السياسي المركب القائم في قرطاجة الى نظام استبدادي امبراطوري فردي على النسق الروماني.
ب ـ الكتلة الثانية والتي يمكن تسميتها مجازا "الكتلة الشعبية" وكانت تضم اساسا المنتجين الاحرار وصغار التجار والميسورين والذين يملك بعضهم واحدا او اكثر من "العبيد الأسريين" الذين يعيشون ويعملون مع الاسرة المنتجة كأحد افرادها. ويمكن اعتبار كتلة "المنتجين الاحرار" كآخر شكل و"وريث تاريخي" لنظام المشاعية البدائية.
ومقابل حزب "الكتلة الارستقراطية" كان حزب "الكتلة الشعبية" بقيادة عائلة برقة، التي برز منها القائدان التاريخيان هملقار برقة وابنه هنيبعل برقة.
ويمكن تلخيص الحروب البونيقية وحتمية انتصار روما بالنقاط التالية:
أ ـ ان الذي خاض الحرب ضد روما ليس "كل" قرطاجة، بل فقط "الكتلة الشعبية" التي تمثل "المنتجين الاحرار" في قرطاجة. وكان "المنتجون الاحرار" يجدون صعوبة في المزاوجة بين متابعة الانتاج والانضمام الى الجيش. ولهذا كان الجيش القرطاجي يعتمد بشكل رئيسي على المرتزقة من الاتنيات الاخرى وخصوصا من "الليبيين" (الامازيغ). وفي ظروف غياب العائلة البرقاوية عن قرطاجة بسبب ظروف الحرب، فإن "الارستقراطية القرطاجية"، بما لديها من نفوذ واموال طائلة استطاعت السيطرة على الحياة السياسية في قرطاجة خلال الحرب، ومنع تقديم المساعدة المالية واللوجستية الضرورية للجيوش القرطاجية المحاربة. ومن ذلك انه تم منع المساعدة عن جيش هملقار برقة مما ادى الى عجزه عن دفع اجور المرتزقة في الجيش وانتفاضتهم ضده، وادى في الاخير الى انتحاره بان اغرق نفسه في احد الانهار. كما تم منع المساعدة عن جيش هنيبعل برقة بعد انتصاره الباهر على الجيش الروماني في معركة كاناي الشهيرة سنة 216ق.م، وكان الجواب المعهّر على طلبه المساعدة للجيش انه "اذا كان هنيبعل ينتصر فهو ليس بحاجة الى المساعدة، واذا كان لا ينتصر فهو لا يستأهل المساعدة".
وبعد هزيمة الجيش القرطاجي بقيادة هنيبعل في معركة زاما في شمال افريقيا سنة 202ق.م، وعودة هنيبعل الى قرطاجة وعزمه على القيام باصلاح سياسي فيها، ادرك بأن الحزب الارستقراطي يتآمر لاجل القبض عليه وتسليمه الى روما، ففر نحو الشرق واخيرا انتحر بالسم.
ب ـ ان مجتمع "المنتجين الاحرار" القرطاجي ("وريث" المجتمع المشاعي البدائي) كان مجتمعا حضاريا واكثر انسانية بما لا يقاس من المجتمع العبودي المطلق.
ج ـ اما المجتمع العبودي الروماني فكان مجتمعا وحشيا ولاانسانيا يحقّر الكائن البشري ويحيْونه. الا انه من وجهة نظر الانتاجية والربحية والنفعية، فإن المجتمع العبودي المطلق او النظام العبودي المطلق كان هو "الافضل" لانه الاكثر انتاجية وربحية ونفعية من المجتمع او النظام المشاعي البدائي حتى في شكله المتقدم والحضاري "القرطاجي" والفينيقي والشرقي عموما.
والمجتمع البشري، مع تبجيله للمبادئ الانسانية والاخلاقية، كان ولا يزال حتى اليوم يقدّم الربحية والنفعية على المبادئ والاخلاق الانسانية، وهو يستصغر ويزدري وفي احسن الحالات يشفق على الفقراء، الا انه يحترم ويقدّم وحتى يؤله الغنى والاغنياء.
وهذا هو السبب الاساسي في انتصار روما على قرطاجة، اي انتصار النظام العبودي اللاانساني على النظام المشاعي البدائي وبقاياه بالرغم من انسانيته و"دمقراطيته".
د ـ ان حزب "الكتلة الشعبية" ومجتمع "المنتجين الاحرار" بقيادة عائلة برقة كان محكوما تاريخيا بالفشل والهزيمة اما في الحرب الخارجية على يد روما، او في معركة داخلية على يد الارستقراطية الاستعبادية القرطاجية، التي كانت تنتظر هزيمة حزب "الكتلة الشعبية" بعد اضعافه خارجيا، للانقضاض عليه بجيش عرمرم من العبيد داخل قرطاجة بالذات.
هـ ـ ان مجزرة قرطاجة التي ذهب ضحيتها مئات الالاف من الاطفال والنساء والرجال والشيوخ "المقاتلين" و"المدنيين"، والتي أعقبت بالتدمير الكامل للمدينة، كانت اول واكبر مجزرة يرتكبها العالم الاستعبادي والاستعماري الغربي ضد الشرق المظلوم. وقد دشنت هذه المجزرة "الطريقة النموذجية" للتعامل الغربي مع شعوب الشرق. ولا تزال هذه "السياسة" هي محور التعامل الغربي مع الشرق حتى يومنا هذا.
* * *
خلال الحروب البونيقية وقبلها وبعدها كان "العالم الهيلينستي" قد اعطى الزرادشتية وفلسفة صراع الخير والشر الفارسية، و"الجمهورية الفاضلة" لافلاطون (427 ق.م – 347ق.م)، وكتب السياسة والاخلاق والحكمة لارسطو (384ق.م - 322ق.م)، والفلسفة الرواقية لزينون الفينيقي (334ق.م.–262ق.م).
وكانت الفلسفة الرواقية تدعو الى نبذ العبودية، والمحبة والاخاء بين البشر، وضرورة الانسجام مع الطبيعة، وتبني الاخلاق وجعلها الركن الاساسي في البناء المجتمعي.
ولاقت الفلسفة الرواقية انتشارا واسعا في صفوف الفئات المتنورة والمثقفة في العالم الهيلينيستي، وامتدت لتنتشر بين الفئات المتنورة والمثقفة في الامبراطورية الرومانية ايضا.
وفي رأينا المتواضع ان الرواقية لعبت دورا تاريخيا خاصا كممهد فلسفي ـ اخلاقي ـ فكري للمسيحية الشرقية.
ان سقوط قرطاجة يعتبر نقطة تحول في التاريخ العالمي، وتحديدا تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب. فمنذ سقوط قرطاجة سقط الشرق، وسقط التوازن بين الشرق والغرب، وتحول الغرب الى غرب استعماري متقدم والشرق الى شرق مستعمَر وتابع ومتخلف (باستثناء روسيا التي بقيت عصية على الامبراطورية الرومانية قديما وعصية على الغرب الاستعماري حتى يومنا هذا). وحتى اليوم لا نزال نعيش: مرحلة ما ـ بعد ـ سقوط ـ قرطاجة. او: مرحلة الآثار التاريخية لسقوط قرطاجة.
وبعد تدمير قرطاجة وابادة واستعباد سكانها الاحرار، استولت الامبراطورية الرومانية على ليبيا وكل شمال افريقيا ومصر واثيوبيا وسوريا الطبيعية والعراق وايران واسيا الصغرى والبلقان والحلقة الشاطئية حول البحر الاسود حتى رومانيا، وتوقف التمدد الروماني على حدود الاراضي الصقيعية التي صارت فيما بعد تسمى "روسيا"، حيث عجزت الجحافل الرومانية عن اقتحام "المنطقة الروسية" بفضل المقاومة الشرسة لسكانها الاشاوس الذين تشكلوا فيما بعد في "الشعب الروسي" العظيم.
اي ان الامبراطورية الرومانية احتلت العالم الهيلينيستي بمجمله. وفي ظروف هذا الاحتلال الوحشي، وكتعبير عن رفض الاحتلال، ظهرت "المسيحية الما ـ قبل ـ المسيح" التي كانت تبشر بمجيء المسيح ليخلص العالم من الجور والبؤس والعبودية. وبعد ولادة المسيح وقتله على يد اليهود والرومان، وتحت انف الحكم الروماني الوحشي تحول العالم الهيلينيستي كله الى المسيحية الشرقية، باستثاءء ايران التي تبنت الزرادشتية، والاتراك وغالبية الاكراد الذين ظلوا على المذاهب العشائرية المغولية ـ التتارية، اي المذاهب الدينية الوثنية ـ الشامانية الهمجية (باستثناء قسم من الاكراد تبنى الزرادشتية الفارسية). وبكلمات اخرى، وبالرغم من الاضطهادات الفظيعة للمسيحيين الاوائل، فإن مصر القبطية كلها، وسوريا الطبيعية كلها، والعراق الاشوري كله، والبلقان كله (الاغريقي، المقدوني، البلغاري، الصربي والسلافي الجنوبي) تحول الى المسيحية الشرقية التي انتسب اليها السيد المسيح ذاته باعتماده في نهر الاردن على يد القديس يوحنا المعمدان الذي كان ابرز الداعين الى مجيء المسيح المخلص. وقد شذت عن المسيحية الملة اليهودية، بقيادة الاغنياء اليهود (التجار والمرابين وتجار البشر (النخاسين) )، الذين كانوا يبشرون بمجيء المسيح اليهودي ـ الملك الجبار الذي يزيح الرومان ويجعل اليهود يحلون محلهم في التسلط على جميع شعوب العالم. وقد تعاون الاغنياء اليهود هؤلاء وكهانهم مع الرومان تعاونا وثيقا بانتظار مجيء "مسيحهم" ودورهم في السيطرة على العالم. ومن يقرأ التوراة اليهودية يكتشف بسهولة دعوتها الى الابادة الكاملة للكنعانيين (المسيحيين ما قبل المسيح وما بعده)، تماما كما ابادت روما قرطاجة. وكل هذا يأتي بنا الى القول: ان اليهود (قبل وبعد مجيء المسيح) هم خونة الشرق ـ كانوا ولا يزالون ـ وقد تعاونوا مع المستعمرين والمستعبدين الرومان، وساهموا في قتل المسيح، كما يتعاونون الان مع الاستعماريين الغربيين (الاميركيين والاوروبيين) ويساهمون في قتل ومحاربة الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الاخرين، ويأملون عن هذا الطريق في ان يصلوا الى السيادة على جميع شعوب العالم بما في ذلك على حلفائهم الحاليين: الاوروبيين والاميركيين. ولا يمكن التحرر من اليهود الا بتحريرهم هم انفسهم من عقدة العظمة والتفوق على الجنس البشري، وذلك بهزيمتهم الساحقة وكسر شوكتهم تماما مرة والى الابد واجبارهم على العيش كناس طبيعيين يحترمون سائر البشر كي يحترمهم سائر البشر.
ان ظهور المسيحية، ولا سيما بعد ولادة السيد المسيح وانطلاق رسالته، والانتشار الواسع للمسيحية في المناطق ذات الحضارات التاريخية العريقة (مصر القبطية، وسوريا السوريانية، والعراق الاشوري، والبلقان)، مثّـل نقلة نوعية كبرى في تاريخ البشرية. وقد قسم التاريخ الى "ما قبل الميلاد" (ميلاد المسيح) و"ما بعد الميلاد".
ان للمسيح والمسيحية ابعادا عديدة: دينية (سماوية، ما ـ ورائية metaphysic)
وفلسفية واخلاقية واجتماعية وسياسية. ومن حق الكنيسة الرسمية ورجال الدين والمؤرخين الدينيين اعطاء المفهوم الديني للمسيحية. ولكن ـ ومن وجهة النظر الدينية ذاتها، التي تعترف بناسوتية المسيح الى جانب لاهوتيته ـ من الواجب النظر الى المسيح والمسيحية من وجهات النظر الاخرى، ذات الطبيعة البشرية او الناسوتية. ومن وجهة النظر الاجتماعبة التاريخية نحن نرى انه عشية وبعد ميلاد المسيح كانت اللغتان الاكثر انتشارا في المنطقة الهيلينيستية (ولا سيما في صفوف المثقفين) هما: الاغريقية والآرامية. ولهذا مدلول حضاري عميق بالمعنى التاريخي. وكما تقول الرواية المسيحية فإن الاناجيل المقدسة المعترف بها، كما والاناجيل المنحولة (الأبوكريف)، كتبت او ترجمت لكلا اللغتين.
وان المسيح ولد في عائلة عبرانية ـ يهودية، ولكنه نسب الى مدينة الناصرة الارامية (الكنعانية) العريقة وسمي "يسوع الناصري". وهو تخلى عن اللغة العبرية وتكلم، وبشّر وكرز برسالته، باللغة الآرامية، وكانت آخر كلمات نطق بها باللغة الآرامية ايضا. إذ حينما طعنه الجندي الروماني بالحربة في خاصرته وهو على الصليب، "طفح الكيل" معه، فنظر الى السماء وهتف بالآرامية متعجبا "إيلي، إيلي، لِـمَ شبقتني!" اي (الهي، الهي، لِـمَ تركتني) ويقصد: ...في ايدي هؤلاء الوحوش!
وهذا كله يعني ان المسيح تخلى عن لغة العبرانيين وثقافتهم العنصرية الاجرامية، وتبنى اللغة والثقافة الآرامية، اي لغة وثقافة الكنعانيين الذين تدعو التوراة اليهودية الى ابادتهم، وجعل نفسه حتى الرمق الاخير واحدا من الكنعانيين.
ولهذا ينظر الى اللغة الآرامية (الكنعانية) بأنها "لغة المسيح" ولغة مقدسة. وقد اعتمدت لاقامة القداديس والصلوات في الكنائس المسيحية القديمة. ولا تزال الطائفة المارونية (ذات الاصل الاورثوذوكسي الشرقي) الى اليوم تستخدم اللغة السريانية (الآرامية) في خدمة القداس في الكنائس.
وقد طرحت المسيحية مفاهيم مثل: نبذ العبودية والظلم الاجتماعي، وتفضيل الفقراء والمعذبين على الاغنياء والمترفين، والتسامح والمحبة والتعاون والاخاء بين البشر، وسيادة الاخلاق. وكل هذه المفاهيم تدعو الى القول ان المسيحية الاصلية (الشرقية) التي نادى بمبادئها وبشر بها السيد المسيح، انما كانت موجهة ضد النظام الاجتماعي الذي يقوم على التمييز الطبقي والعرقي بين البشر، واول اشكاله النظام العبودي، ومن ثم يمكن اعتبارها قالبا دينيا للحنين Nostalgia الى المجتمع البدائي المشاعي الذي لم يكن يعرف التمييز الطبقي بين البشر على اساس الملكية الخاصة. اي ان المسيحية شرّعت وقدست النضال ضد جميع المجتمعات الطبقية في كل زمان ومكان.
وقد وضع المسيح نفسه، او وضعته العقيدة المسيحية، في موقع ألوهي على طرفي نقيض مع الامبراطور (القيصر) الروماني ومع الديانة الرومانية. فاذا كان الامبراطور (القيصر) الروماني يعتبر "الها" في الديانة الرومانية، لانه يملك حق الابقاء على الحياة وقدرة الحكم بالموت على اي كان، فإن المسيح (الاله المؤنسن، او الانسان المتسامي الى الالوهية) ظهر بكونه ـ على النقيض التام من "الاله" الروماني ـ قادرا على إحياء (إعطاء الحياة) للاموات. وهو نفسه بعد ان عذبه وقتله اليهود والرومان، انتصر على الموت بالموت، وازاح الصخرة عن قبره، وقام من بين الاموات. وبذلك اعطى الامل لجميع المعذبين حتى الموت على ايدي الظلاّم، انهم سينتصرون على الموت بالموت. وهذا هو المعنى العميق لمفهوم الشهادة في الثقافة المسيحية والاسلامية والشرقية عموما.
وفي العشاء الاخير او العشاء السري للمسيح وتلاميذه قبل اعتقاله وتعذيبه وقتله من قبل اليهود والرومان، بارك المسيح الخبز والخمر وقدمهما للتلاميذ قائلا: خذوا كلوا هذا هو جسدي، وخذوا اشربوا هذا هو دمي. اي انه ساوى الخبز والخمر بجسده ودمه. وبمعنى اجتماعي فهذا يعني الرفع من قدْر القمح والحنطة، والكرمة والعنب، الى مستوى القداسة، وبمعنى آخر تقديس عمل زارعي الحنطة والكرمة وصانعي الدقيق (الطحين) والخبز والخمر، اي تقديس عمل الزارعين والصانعين ولو كانوا عبيدا.
وتقول الروايات المسيحية انه بعد اربعين يوما من قيامته من بين الاموات فإن المسيح اجتمع باحد عشر من تلاميذه في بيت عنيا القريبة من القدس وفيما هو يحدثهم أصعد في غمامة الى السماء. وسواء نظرنا الى هذه الرواية من زاوية واقعية (ايمانيا) او من زاوية رمزية، فإنها تدل على تقديس المسيحية للقدس وأرض فلسطين، ليس فقط لكونها الارض التي ولد وعاش وعلـّم وعذّب ومات فيها يسوع وقام من بين الاموات، بل ولكونها ايضا "بابا الى السماء". وفيما بعد كرس الدين الاسلامي ايضا هذا المفهوم القداسي للارض الكنعانية في الرواية الدينية عن الاسراء والمعراج. وهذا كله يعني ان المسيحيين الشرقيين والمسلمين على السواء يقدسون الارض الفلسطينية، التي عاش اجدادهم كما عاشوا هم فيها منذ آلاف السنين، قبل اليهودية وسيبقون بعدها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي