الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(9).

ماجد الشمري

2019 / 12 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عندما يظهر الرب لايوب اخيرا،وكان حضوره ضروريا لازما لتنظيم الفوضى واعادة التوازن بين الارض والسماء بعد سقوط ايوب في وهدة التجديف والانكار.وهذا ما شكل انحرافا في معادلة الايمان الثابتة، بدخيل مرفوض معكر هو الشك الكافر!.ولكنه وخلافا للمتوقع، لم يتصرف وفقا للموقف ولم ينكب اويتصدى لاسئلة ايوب الحائرة،والمتعلقة بماهية وجوهر عدالته هو،عدالة الرب المزعومة،ويجيب بعقلانية منطقية جادة ورصينة تريح ايوب وتزيح ضباب الريبة لديه، وتقلب التجديف لوجهه الآخر: الى ايمان.فعوضا عن ذلك،وبعيدا عن صلب الاشكال الموضوعي،مضي في شرح وتبيان منهجه وخطه الالهي لمفهوم العدالة والجزاء.ليقدم عرضا لاسرار ومفارقات وغرائب ومخلوقات هذا العالم المتنوعة،والتي ابدى تبجحا مغترا في عرضه لها ليبهر ايوب بالجانب الخلقي العملي لاالجانب الاخلاقي وقيم الحق.فماكان يهمه هو دفع ايوب لنسيان محنته،واسئلته العطشى لاجابة مقنعة،ورشق ايوب بأسئلة مضادة مربكة تغطي استفهامه القلق،لتغرقه بخدر بحر التكوين المتلاطم!..هجوم الهي مضاد يخترق محدودية فهم ومعلومات ايوب مثل:"من أين جاءت البشرية؟.من أين جاءت الارض؟.تبدو الحيوانات والنباتات والمعالم الفلكية والجغرافية اكثر جمالا وتلغيزا وتعقيدا واعجازا من ان تحدث بكيفية ذاتية وبنفسها دون علة او مسبب؟!.وايضا، تبدو اكثر جمالا وتعقيدا وادهاشا لايوب الذاهل وهو يستمع لمحاضرة الله وهو يسبح نفسه بتعالي فنسى ايوب نفسه ولم يعد يتذكر الاصنيع ربه الفنان!. وايضا كانت استراتيجية الله هي ان يجعل من نفسه بقوة الحجة المقررة،مركزا للكون،والبؤرة الوحيدة التي ينبثق منها كل شيء.وقد نجح الله في فعل ذلك فصدم ايوب وسحره وبالتالي هزمه،باستعراض عضلاته السماوية الجبارة!.فكيف تتحرك الاجرام السماوية بمثل تلك الدقة في مداراتها؟.وكيف يمكننا فهم التنوع والاختلاف في المقاييس بين المتناهي في الصغر،وحتى الكوني اللامتناهي في الحجم والامتداد؟.وبيان الاختلاف والتنافر في الزمن:الليل والنهار،ومن حيوات تستمر للحظة،الى نجوم لاتتغير ابدا اوتفنى؟.ماهي الحياة؟.ماهو الموت؟.طلاسم الاسئلة،والغاز محاجات واسئلة الرب المعجزة والباهرة تشل بسهولة العقل البدائي لطفولة البشرية،وايوب ايضا!.ولانه لايستطيع الاجابة على هذا الكم من الاحاجي والمعميات التي تهزه،فان شكه يختفي،ليعود ايوب الاواب الى ايمانه المخدر المريح بتسليم العاجز.وهذا ماقامر عليه الله برهانه المضمون،ونجح في ذلك الرهان.فخطاب الله كان دعوة مراوغة للتأمل والتفكير بهذه التشكيلة المتنوعة والضخمة من الاستعراض و الادهاش المبهر،وكانت قدرات ايوب العقلية المحدودة قاصرة عن هضمها وتمثلها في بيئة وزمن الايمان.فكل واحدة من اشكاليات موضوعاتها هي مثار اعجاب وروعة وغرابة،لكنها تبقى غير مقنعة للعقل النقدي العلمي الحديث الشكاك والممحص.التأثير الاجمالي لخطاب ولائحة الرب الاستثنائية كانت فاعلة في اقناع ايوب البسيط في تفكيره،وكان ذلك كافيا بطبيعة الحال لعقل العالم القديم الذي لايملك بديل عن الايمان الميتافيزيقي-هذا على الاقل مارمى اليه كاتب السفر-فالعقل البشري المتوسط في العالم الايماني القديم كان في مرحلة طفولته اللاهوتية،وظاهرة او فكرة الله هي مركزية تفسر كل شيء،وهي علة واصل هذا العالم.وان كانت اسئلة الرب عصية على التفسير عند ايوب،ولكن العلم الحديث استطاع الوصول لاسباب وعلل اغلب تلك الاسئلة،وتمكن من تفسيرها وشرحها علميا،وبعيدا عن الدائرة الدينية لله وقدراته الخارقة.ولكن تبقى بعض القضايا الانطولوجية شائكة تفتقر للوضوح والحل،ولازالت مطروحة وعرضة للفحص والدراسة،لما ورد في قائمة الرب وسفر ايوب، وماقدمته من منظور شعري مشوق:كسماء الليل المرصعة بالنجوم،والقمر البازغ،والمستقبل كفيل بتبيانها.نعم لدينا اليوم تفسيرات علمية كثيرة لتلك الظواهر والموجودات التي لجمت تجديف ايوب واخرست شكه،واخرجت الله الى الابد من سببيتها،ولم يعد ينظر الى تلك السموات القديمة على النحو الذي كان ينظر اليها في زمن ايوب،وكاتب سفره في غابر الازمنة.فالنور الصناعي الكهربائي انار سماء ليلنا،وحجب وابعد ذلك المشهد الرومانسي المذهل عن عقولنا وقلوبنا،وباتت التفسيرات لاغلب مظاهر غرائب وعجائب الطبيعة والكون متوفرة وتعرفها ابسط العقول،تلك التي اوردها الله منتشيا بعظمته وتفرده كخالق اوحد، وصفعت تجديف ايوب ونكرانه الخجول في سفره.نجدها اليوم وقد خفت بريقها،وتلاشى الاندهاش والرهبة عن معظم تلك المشاهد الكونية الملغزة.ومايبعث على الاعجاب اليوم هو مايبتكره ويصنعه الانسان لاالله من مكتشفات ومخترعات وانجازات:الجسور العملاقة،ناطحات السحاب والابراج الشاهقة،الطائرات النفاثة الضخمة،الاقمار الصناعية وسفن الفضاء التي تجوب خارج الكوكب وعبر المجرة،الاجهزة الدقيقة والالكترونيات المذهلة،الخ.مشاعرنا وتفكيرنا ورؤيتنا للطبيعة واسرارها هي غير،ومختلفة تماما عن مشاعر وتفكير وفطرية ايوب وفضاءه العقلي المحدود،الاحساس بالعجز والضآلة،سحرية الاشياء،الخ.كذلك فان بعض ماذكره الله بوصفه اكتشافات وغرائب غير مألوفةاو معروفة لايوب،كوحيد القرن،لم يعد عجيبا كما كان في الماضي السحيق.مؤلف السفر الايوبي يسرد الكثير من اسرار الطبيعة وخبايا العالم،وعلى لسان الله،ولكنه تركها هكذا دون تفسير او تبيان مسبباتها وشرح حركتها او آلية طبيعتها.فالله كان حاضرا بمشيئته وقدرته وسيطرته كعلة وانتساب سهل وجاهز في تكوين وخلق وايجاد وتحريك كل ماهو مجهول وغريب،ومعروف وقريب لدى الانسان.ولكن مبدع نص ايوب الحكائي يتجاهل عمدا او سهوا او جهلا،ويمر مرور الكرام على الثيمة الاساسية والمركزية في السفر الايوبي الا وهي:العدالة الالهية وماهيتها،وكيفية تحقيقها واقامتها بحياد واستقامة ونزاهة.وبالكاد نوه عنها،فالله-الراوي لم يتطرق على سبيل العرض لملابسات وتعقيدات العدالة الجماعية او الالهية وقوانين الرب،مقابل العدالة الفردية الانسانية التي رنى اليها ايوب وتطلع لتحقيقها.وايضا لم يتحداه بطرح الاشكالات الاخلاقية-القيمية التي اهملت او تركت معلقة او محشورة في جب الحيرة والسكوت.مادام الرب قد تجاهل فعلا وبقصد الموضوع الاهم والمحدد الذي أرق أيوب وتركه نهبا للعذاب والجهل.وبدلا من ذلك صادر السؤال،وحاجج بفذلكة خطابه،مستعرضا قواه الخارقة واعجازه الخلقي،وبنبرة غاضبة استعلائية،مظهرا قدر من الاستهانة والاحتقار لمحدودية وضآلة الكم المعرفي والمعلوماتي لعبده المسكين ايوب!.علينا ان نعترف بأن مؤلف السفر الايوبي ذو الخلفية الايمانية المدرسية الخالية من الشك المرتاب،قد رسم صورة مثالية ومتعالية للأله،واكد على كونه منبع ومصب كل خفايا واسرار الكون وسننه وموجوداته،ولكنه لم يلتفت لحظة واحدة، او يولي اهتماما او ذكرا حتى ولو بكلمة لعمدة السفر او عاموده الفقري الا وهو:العدالة التي طالب بها ايوب بأنينه الصارخ ،وافتقرها لدى الرب،كافرا بوجودها.فالله وكاتب السفر كانا معا في وادي الايمان الخالص والاعمى،وأيوب المحترق بالظلم والعدالة المفقودة في وادي النبذ والتهميش والتجديف!.نستطيع ان نستشف ونحن نقرأ سفر ايوب، ان نفسر او نؤول مقاصد واهداف كاتب النص من دعاية دينية وترويج وتوجيه تربوي ودوغما مقولبة،من خلال كلام الرب وفحواه:ان العدالة الالهية هي ضرب من الالغاز والشفرات العصية على فهم الانسان،ومتعالية فوق قدرته،ولايمكن ادراك كنهها،او بلوغ مراميها،مع انه لم يصرح بذلك او يلمح،لانه باطن في غيهب المستحيل.لم يتعاطف الله مع بلاء ايوب بحس الهي،ولاحتى انساني،بل تعامل مع شكواه بحساسية الهية،وبشيء من الغرور والغضب الالهي.فسنين الآلام والدمار الشامل لم تهز رحمته او عنايته او شفقته،ما اثاره وجعله يهبط بعجلة ليتدارك قضية مأزق الايمان وخطورة التجديف الذي اعلنه ايوب في يأسه.انها حالة طواريء تطلبت منه الظهور العياني النادر مع واحدا من عبيده الذي بدأ يشرد ويتمرد عن القطيع!.ما هيج امتعاض الرب هو:جسارة وجرأة وتطاول ايوب،ونطقه بخطيئة التجديف المميتة التي لايسمح او يتهاون بشأنها راعي القطيع!.الله-طبعا-لم يتعامل مع ايوب كانسان بسيط منكوب ملتاع،ويكتفي بوصفه بالضلال والحماقة وقصور الفهم،فهو الرب وايوب هو العبد،وشتان بين الخالق والمخلوق والعلة والمعلول.لذلك نهره الله قائلا:"كيف تجروء؟".وكأن ايوب لايملك حقا في الاعتراض او الاستفهام او التسائل عن جوهر وماهية العدل الرباني وحقيقته.فالله نفذ ابادة جماعية لابناء ايوب العشرة وعبيده،وقتل مواشيه ودمر مروجه،ولم يكتفي بذلك،بل اعطى تفويضا لشيطانه،بان ينتهك جسد ايوب بالداء الجلدي الوبيل الذي هرس لحمه وجلده وتركه يتعفن فوق الرماد!.وكل ذلك جرى من اجل ماذا؟!.من اجل رهان عبثي جرى وفق جلسة مسامرة وترفيه بين الله ورهطه من الملائكة والشيطان ،كما كان يجري بين آلهة الاولمب من تحديات ومراهنات، وتلاعبها في مصائر وشؤون البشر!.فأي منطق عقلاني او حس اخلاقي سليم ممكن ان يقنع ايوب بوجود او احتواء جوهر الرب وكيانه لادنى مستوى من عناصر العدل او الحكمة او المعقول؟!.
...............................................................................................................................................................................................................

يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مساعدات بملياري دولار للسودان خلال مؤتمر باريس.. ودعوات لوقف


.. العثور على حقيبة أحد التلاميذ الذين حاصرتهم السيول الجارفة ب




.. كيربي: إيران هُزمت ولم تحقق أهدافها وإسرائيل والتحالف دمروا


.. الاحتلال يستهدف 3 بينهم طفلان بمُسيرة بالنصيرات في غزة




.. تفاصيل محاولة اغتيال سلمان رشدي