الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القفص

سوزان العبود
فنانة تشكيلية

(Suzann Elabboud)

2019 / 12 / 5
الادب والفن


حدق في عينيي وحدقت في عينيه ، ناظراً إلي كأنه يرى حتى أصغر زاوية في أعماقي الحزينة ، كان بيننا حائط زجاجي ضخم غير قابل للإختراق ، وضعت يدي على الطرف المقابل له فتلاشى الزجاج ، وتلامست أيدينا .
جلس القرفصاء  متأملاً الناس المارقة تتباطأ خطواتهم عندما يمرون من أمامه مذهولين بضخامته وكثافة شعره الذي كان يغطي كل جسده  ، ليتوقفوا للحظات ، ثم يرمقونه بإبتسامة باهتة ويرحلون .
مقلداً  " الغوريلا " في جلستة التي كان يجلسها ، أسندت ظهري للحائط الفاصل بيني وبينه شارداً ، وقد أخذتني الذاكرة لعمر الثامنة عندما سمح لي ولأول مرة زيارة والدي السجين السياسي ... ، كان يفصل بيننا سُورَين ضَخمين من الشباك الحديدية السميكة يقف بينهما حارس ضخم مدجج بالأسلحة ، وكان كلما خاطبت أبي  استرق السمع لهمساتنا .. ، كنت أحاول جاهداً مد أصابعي الصغيرة من خلال الأسلاك المربعة المتراصة علها تطول وتطول ، وتستطيع لمس يد والدي من الطرف الآخر للسياج الحديدي ، لكن هيهات فخيالات الأطفال لا تتحقق على أرض الواقع ، أما أصابع أبي فلم تستطع إختراق السياج ولو بملمتر واحد .. ، لكن نظراتنا لم يستطع أحد وضع القيود لها .. ، تعانقنا بالنظرات حتى موعد إنتهاء الزيارة ، ولم يصدر منا إلا كلمات قليلة  أشبه بالهمسات .
عندنا كنت أرجع  من زياراتي له في سجنه كنت أنطوي في عوالمي الخاصة ، وأكتفي بنفسي مبتعداً عن كل الاطفال الآخرين ، وعن كل إهتماماتهم .. ، في أحد المرات القليلة التي انضممت فيها لهم ، جلسوا يتحدثون بفرح وحب عن كل تلك الحيوانات المحتجزة بحديقة الحيوان .. ، عن قوتها .. ضخامتها ، أو لطافة البعض منها .
أنا لم أحبها أبداً ، فقد كرهت العمدان الحديدية التي تحتجزها ، وكانت تقتلني نظرة تلك الكائنات  في عينيي ، وكأنها تعرف قلب الطفل فييَّ فتناجيه ، وتستصرخةً ليخرجها من هذا السجن اللانهائي ، لكن أقصى ما يمكنني أن أفعله لها أن أغلق على قلبي المكسور ، وأصمت .
لم أحب أيضاً أحواض السمك الجميلة ولا أقفاص العصافير ، وكانت تقتلني معرفتي أني لو حررت تلك الكائنات فإنها ستموت لأنها تعودت الأسر .
حتى المهرجين "الجنود المجهولين"  - كما كان يحلو لي لاحقاً أن أسميهم - والذين أَحبهم كل الأطفال الذين كانوا في مثل سني ، لم أحبهم ، ولم يضحكوني بل على العكس كنت أشفق عليهم ، من تلك الأقنعة الهزلية التي يغلفون فيها وجوههم لتدفن أحزانهم ، وتضحكنا .
بالمختصر .. ، أعتقد ٲني لم أحب كل ما ٲحبه الٲطفال الٲخرين ...
ٲنا الآن لا أحب هذا العالم ٲيضاً .. ، ربما ٲحب فيه شئ واحد فقط .. ، ٲني مازلت معلق كطفل بين عمدان ذلك القفص الحديدي ، عينيي تحملقان بعينيي ذالك الكائن الضخم والدمعة في عينيي وعينيه واحدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة