الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنشودة للإنعتاق .. تغريدة لأفق مفتوح 6 من 10

عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)

2019 / 12 / 5
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الحرب

سحقت طواحين الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي بدأت 1980. وتوقفت 1988 الكثير من آمال وطموحات الشعبين. وخلّفت وراءها نحو مليون ضحية. وخسائر مادية بلغت 400 مليار دولار أمريكي. دامت الحرب ثماني سنوات، ست منها تزامنت مع دخول الكاتب الى وطنه وخروجه منه. تزامنت رحلته الى الخارج مع سنتها الأخيرة. سجلت الرواية في عامها الأخير مشاهد ذات دلالة، على أرض الوطن، وفي أراضي الطرف الآخر من الحرب.

تتفحص الرواية حالة الإنسان حين يتجه الى الحرب، حرب السلاح أو الوسائل الأخرى، وحتى أرقاها ـ حرب الكلمة. تضع في مقدمة إهتماماتها الحس والنبض والشعور والوجع الإنساني، عند تناولها أي لحظة من عمر الحرب. خاصة عند تناول الحروب العبثية وغير المثمرة. تقول الرواية: "تَعِبنا من الموتِ.. من "حضارةِ" الموت، من إعلامِ الموت.. من مُثَقّفي الموت، ونياشينِ الموتِ.. ونُصوصِ الموتِ.. نحنُ مُشَرّدو اليوتوبيا، هَرَبنا لما بعدَ السماءِ السابعة !.. نجهَشُ بالنورِ، كي لا تَستقيمَ الخطيئةُ، فيَهلَكَ البيانْ.. لأنَّ هناكَ مَنْ يُصرُّ على تَدْجينِنا كي ما نكونَ "قَنوعينَ"، نكِفَّ عن "النَقْ..!"، وعن محاولةِ إقتحامِ "السماءِ بقبضاتٍ عارية"..!". (الرواية ص 36 ـ 37).

تناولت الرواية حياة الأنصار الشيوعيين العراقيين، بصفة خاصة، وأنصار القوى الأخرى. وصفت بوضوح العلاقات بين أفراد كل جماعة على حدة. والعلاقات بين مختلف القوى من جهة، وبين تلك القوى والسلطات من جهة أخرى. توقفت عند إقدام النظام السابق على إستخدام السلاح الكيماوي المحرم ضد مقرات أنصار الحزب الشيوعي العراقي. وكذلك لمحات عن بعض حالات التقاتل بين القوى الكردية نفسها. وإعتداءآت الإتحاد الوطني الكردستاني على الأنصار الشيوعيين في مجزرتي بشتآشان الأولى والثانية.

قبل أن يصل المقاتل الجديد الى موقعه المقرر له. ومن القامشلي في سورية وعبر تركيا وفوق أرض الوطن. يخاطب دليله صوفي، ولكن عبر حوارات داخلية مع الذات. يدون الكاتب الكثير من المواقف واللحظات ذات الدلالة. لمست الرواية الحقيقة المختلفة في الرؤية بين مقاتل محترف وبين مقابل مثقف، سيصبح مقاتلاً محترفاً عما قريب. وتظهر الفوارق بين النظرة الحِرْفية والنظرة المتفحصة وبأفق واسع يحيط المساحة كلها، وما هو أبعد منها.

صاغت الرواية الموقف هكذا: "فنحنُ أَغرارٌ، كما تدري، خلا إثنينِ مِنّـا.. مُلاّ عُمَـر الصَموتُ المستشار العسكري لمفرزتنا، التي كنتُ مستشارها السياسي، وكان، قد شاركَ في "شوره شِ عَوَّلْ" (يقصد الثورة الأولى ـ تجربة الكفاح المسلح بعد إنقلاب 8 شباط عام 1963) وآخَـرَ، كادرٌ عُمّـاليٌّ مُتنَطِّـعٌ، مُتَباهٍ، أَمامنا نحنُ المثقفين "المُترَفينَ"!..، الذين لا يجيدون مـن النضال، سوى الثرثرَة والتسيُّب.. كذا!..ـ بأنـه كان مع المقاومة الفلسطينية في "الناعمة" جنوب لبنان!.. وبالتالـي سيكونُ الأمرُ بالنسبةِ له مثلُ شُـربةِ مـاءٍ ..! لكنـه سيَشرقُ بهـا في أَوَّلِ كميـنٍ يَتَرصَّدُنا بعيونٍ من شُهبٍ أثنـاءَ العبورِ إلى الأراضي التركيَّـة..!" (الرواية ص 38)

يصف الكاتب مسيرته عند ملامسة أرض الوطن، في أولى خطواتها، قبل الإبتعاد النهائي عن المراقبة التركية: "خلا الجوُ مـن عِـواءِ الحديدِ والنار.. والمدفَعيّةُ، التي كانت تَبصُقُ قِمَّـةَ الجَبَـلِ بالنـارِ، ونحـنُ، فـي خاصرته نَسيرُ، أصـابَها الـخَرَسُ، وتَرَكَـتْ فـي الآذان طنيناً، استدعـى فعـلاً لا إرادِيَّـاً بـأَن تَغْـرُزَ خِنْصِرَكَ فـي صِـوانِ الأُذنِ علَّـهُ يُوقِفَ الطنين..". (الرواية ص 43)

كرمت الرواية بأحسن ما يكون التكريم البطولات الأنصارية. وهذا تقليد حقيقي وغير مستغرب. ولكن الإشادة بالتضحيات وحدها ليست موقفاً متكاملاً. ربما تكون الصورة أكثر تكاملاً حين يتم الوقوف عند غدر مَنْ يوصف بالحليف. العدو قد لا يدركك عبر سلاح المشاة، بفضل وعورة الطبيعة. بل الأنصار هم يختاورن مواقع المواجهة. وليس أمام العدو إلاّ أن يمتطي العار عبر أسلحة مجرمة وليست قتالية. لا تحتاج الى جهد كبير لإدانة تلك الأسلحة المدانة والمحرمة أصلاً.

وفي مجال غدر الحليف، رسم الكاتبُ لوحةً مُتَّشِحَةً بالسوادِ الأكثر عتمة وتعبيراً. إن عمق الحزن والغضب والأسف إنسكبت حروفه وألوانه وإمتزجت، فكانت هذه اللوحة: "سنموتُ فـي بشتْ ئاشان بلا شـاهداتِ قبور، وسينمو عشبٌ بـرِّيٌ فـوق قبورنـا المدروسة، وسينسانا "قنديلَ" الأصَمْ.. بعـد أَنْ نَتَحَـوَّلَ إلـى مِنَصَّـةٍ مؤقتةٍ للخطـابةِ ومُسـَوَّداتٍ إنشـاءٍ هابطٍ، لا يقولُ شيئاً..! فالبطـولةُ، كـما تـدري يا صُـوفِـي، أبسـطُ مِـنْ توصيفهـا.. سنَنْسى، نـحنُ، أَنفُسَنا، وستَبلى ذاكرتُنـا مـن كثرةِ التحالفـاتِ والمسـاوماتِ..، ولـن يُطالبَ بدمنـا أحـد..، لا أحـد..، لا... أَحَـد... سيقولونَ: "لو أنَّ الشهداءَ كانوا أحياءً اليوم، لَمَا سَلكوا مَسلَكاً آخرَ، ولأتخذوا نفس الخط السياسي، الذي قرّرناه.. !" (الرواية ص 49 ـ 50)

سلطت الرواية أضواءً مؤثرة على الحرب، التي كانت دائرة بين العراق وأيران. وعلى طريقة تحشيد النظامين لها. كانت بليغةَ الإشارةِ الى إستخدامِ العواطف الدينية من جهة، والقومية من الجهة الأخرى: "مَنْ نكون نحن إزاءَ تَجييشِ دهمـاءَ، مُطَيَّنةَ الجِبَـاهِ، تهيمُ في الوديانِ، قيلَ لهـا أَنّ كربـلاءَ تقَعُ خلفَ ذاكِ الجبَلِ.. ؟! وآخرينَ قِيلَ لهم أَنَّ تحريرَ القدسِ يمُـرُّ عبر طهـران .. ؟!". (الرواية ص 109).

يرسم الكاتب لوحات الحرب بريشة وطنية ونزعة إنسانية عميقة. يرى الجرافات الإيرانية تشق الطرقَ الميسميةَ صوب وطنه. ويرى لاحقاً الصواريخ العراقية المقابلة. تصل أثناء رحلته الى حواف مدينة مشهد البعيدة. أحد تلك الصواريخ أوقف رحلة قطاره المتجه الى مشهد في طريق رحلة العذاب. وقبل ذلك آثار القصف على طهران نفسها. ووصف آلام الناس وآلامه الشخصية.

ربما لقطة واحدة من اللقطات أو الصور التي جاءت في الرواية، تُغني عن كل البيانات والمارشات العسكرية الجافة. عجوز تحمل طفلاً ـ حفيدها صرخت بحشد من الناس، وهي في الواقع تناجي ربها: "لا إعتراضَ على أمرِكَ.. أَخذتَ أُمَّه وأباه، لماذا لم تأخذه كذلك، سويّةً مع أشقائه الأربعة.. من أينَ لي أَنْ أُرضِعَه ؟!..ثمَّ كشفَتْ عن ثديينِ سائحينِ مثل عجينة ممطوطة، أَمِنْ هذينِ الثَديَيْنِ الجِلْدِ؟!.. يا ربُّ إنَّ قَبري أدنى إليَّ من غَدِيْ.. مَنْ سيقيمُ أَودَهُ إنْ أخَذتَني إليكَ؟!..". (الرواية ص. 156).

عبرت الرواية عن آثار الحرب المدمرة في مشاهد قصيرة وذات دلالة بالغة. كيف تدمر الحرب الطفولة: "أَطفالٌ يلعبونَ لعبَةَ الحربِ بأسلحةٍ بلاستيكية، يرشقونَ بعضاً بِصَلياتٍ من المـاء أخطأَتْ هدفَها.. فَضَبَّبَتْ نظّاراتي الطبية. هَرَبوا يُكركرونَ، ومَدَّ لي أحدُهم اللسانَ.." (الرواية ص 132).

يترجم الكاتب آلام الشارع نتيجة للقصف الصاروخي. ومن وسط النزل المؤقت في طهران يَعرضُ آلاماً من نوع آخر، إضافة لآلام الحالة العامة في المدينة. "في النَزلِ ثماني غُرَفٍ، أربعٌ منها كبيرةٌ نسبياً في الطابقِ الأرضيِّ، تسكنها عوائلَ.. واحدةٌ منها عائلةُ عراقيةٌ مُهَجَّرةٌ، الكآبة باديةٌ عليهم لاتُخطؤها العين ـ أمُّ زيدان مع ولديها زيدان وعيدان ـ وغرفَةٌ أخرى تسكنها صاحبةُ النَزلِ، إضافةً إلى مطبخٍ فارهٍ، يشترِكُ فيه جميعُ مَن في النَزلِ، وغرفتانِ للعُزّاب في الطابق الفوقاني، عند المدخَلِ المظلمِ للنَزل، إذ يوصلُ إليهما دَرَجُ.. واحدةٌ يسكنها رجلٌ إيرانيُّ مُهَذّبٌ جداً، يَأوي إلى غرفته كُلَّ مساءٍ مُنهَكاً.. والأُخرى ستكونُ من نصيبي.. عَلِمتُ فيما بعد أَنَّ العائلةَ العراقية، واحدةٌ مِمَّنْ هَجّرَهم نظامُ صدام عن طريقِ زُرباطْيَة.. ماتَ أبو زيدان في الطريقِ، إذْ كان مريضَ القلبِ. دفنوه في الطريق، وداعة.. وضعوا حجراً وعوداً على قبره، كي يستدلّوا عليه، لَمّا تحينُ ساعةُ العودة، ليدفنوه فـي النجف أو كربلاء.." (الرواية ص 134 ـ 135). تختصر أُمُّ زيدان قصة عائلة مهجرة، حين تَقولُ بِحسرَةٍ مِلؤها حُرقةً: "المُسافِرُ يَعرِفُ متى يَعـودُ، أَمَّـا نحنُ فَلَسنا مُسافرينَ، ولا حتى لاجئينَ.. (الرواية ص. 152).

يملؤ الحزنُ قلبَ أم زيدان الحزن حين تنظر الى ولديها الشابين: زيدان وعيدان. وكيف يتسرب مُستقبلَهما دون رؤية أمل في الأفق المنظور. كان زيدان في العراقِ طالباً جامعيّاً في السنة الثانية بقسم الرياضيّاتِ. "لا يرى إمكانيّـةً لمواصلته في الجامعات الإيرانية، لأنه لا يملكُ أوراقاً "ثبوتية"!.. وليست لديه "واسطة" من الأحزاب الإسلاموية العراقية، التي لها الكأسُ المُعلّى هنا!.. أمّا عيدان فكانَ طالب إعدادية، يحلمُ بدراسة الصيدَلّة في الجامعة.. لا يجدانِ ما يبعثُ البهجةَ في حياتهما، سوى البحثِ عن فرصةِ عملٍ مؤقتةٍ يعودان إثرها إلى الأم ببعض التومانات، يأكلان شيئاً ويغُطّانِ في النوم، لينهضا مبكراً.. لتبدأ الدورةُ اللعينة نفسها!.. (الرواية ص. 151 ـ 152).

ما يُسَجَلُ لصالح الرواية وكاتبها. أن الظروف الشخصية القاهرة التي تحيط بالكاتب في طهران. وما يعانيه من ترقب وإنتظار، لإنفتاح باب الفرج غير المعلوم. ومخاطر وضعه غير القانوني، بسبب غياب الوثائق الرسمية. وضيق ذات اليد، وغيوم برلين العائلية. وأحلامه عن طفلته وصورتها، بعد إنقطاع مرير. حُرّمَ هو من كلمة: بابا. وحرمت طفلته من حضن الأب. بعد كل هذه الحالات وغيرها، وجد متسعاً للتضامن مع مناضل إيراني يسحق بلا رحمة، بسبب جهل الدين السياسي وعنجهيته في التعامل مع أصحاب الرأي.

يقول: "ودَلفنا في زُقاقٍ ضيَّقٍ ينتصَبُ في بدايته، مسجدٌ.. سأَرى بعدَ أَيّامٍ، خلالَ مروري من هناكَ كيفَ سيُنْزِلونَ إحسان طَبَري (عضو المكتب السياسي لحزب توده) ويقتادونَ ذلك الشيخ الجليل، مُطَأطأَ الرأس ليُلقي "خُطبَةً" في المسجدِ، يومَ الجمُعة.. يمتدحُ فيها "الإسلام" ويَلعنُ الماركسيةَ، يُعلِنُ فيها "تَوبَته!.." وعودته إلـى "الجذور"!.!.. فَضلتُ عدم حضور هكذا مهزَلةٍ، كي أَحتَفِظَ بصورته، عندما دخل القاعة بصحبة جاك دوغلو (عضو م. س. للحزب الشيوعي الفرنسي) وقَدَّم ـ مُمَثلاً لحزب الشعب الإيراني (توده) ـ مُداخَلَةً لافِتَةً، خلالَ كونفرنس علميٍّ، نظَّمته في براغ عام 1970 مجلة "قضايا السِلم والإشتراكية ـ الوقت ـ " بمناسبة الذكرى 150 لميلاد فريدريك إنجلس. (الرواية ص 133).

بديهي أن الرواية ليست توثيقاً للحرب العراقية ـ الإيرانية بكل مراراتها وأثمانها الباهظة، بالبشر والممتلكات. ولكنها قدمت مشاهد تكاد تثمل توصيفها مبدعاً ودقيقاً لها. وإقتربت كثيراً من وَقْعِها على الناس، وما جرته من مأسي عميقة ومروعة، وربما مزمنة.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف