الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ومازالت الصعلكة مستمرة! 2/2

ياسين المصري

2019 / 12 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل كانت رسالة دينية أم صَعْلُوكيَّة؟
نقرأ في كتب السيرة (العاطرة) للنبي (الكريم) التي كُتِبت تحت حد السيف أنه أثناء وجوده في مكة، كان يعرض ديانته على القبائل التي كانت تأتي للحج أو التجارة ويذهب إليهم، ويجلس معهم ويحاورهم بالحسنى، ويدخل في تفاصيل ما يدعو إليه من قيم ومبادئ، ويطلب منهم النصرة، حتى يبلِّغ كلام الله … إلى آخره، فلا يستجيب لدعوته أحد. هذا الكلام المرسل يمكن اعتباره تمهيدًا أو تبريرًا لاستعماله العنف والإجرام في حقهم بعد ذلك عندما قويت شوكته. بينما الحقيقة نقرأها أيضًا فيما كُتِب منها تحت سلطة العقل والضمير، وهي: أنه ذهب إلى الطائف بعد 10 سنوات من إدعائه النبوة، وعرض نفسه وفلسفته على أهلها، فكان ردهم عليه قاسياً، وطردوه منها، وأغروا الصبية والغلمان، فتبعوه بالحجارة وسبوه ووصفوه بالجنون، حتى إنه أُصيب بقدميه (الشريفتين) من أثر حجارة صبيان الطائف، وسالت منها دماؤه (الطاهرة)، فزاد همُّ النبي (صلعم)، وأصابه الحزن. المرجع: (مقال خروج النبي للطائف طلبًا للنصرة) على الموقع التالي:
https://www.islamweb.net/ar/article/16259/
كذلك نقرأ أنه ذهب في رفقة صديقه الحميم أبا بكر الملقب بـ”الصدِّيق“ يبحثان عن قبائل قوية، تساعدهما في الغزو والسلب والنهب، فدخلا إلى أحد مجالس العربان: « فتقدَّم أبو بكر فسلَّم. وقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة..». المرجع: (السيرة الحلبية جزء 2، ص 155). قال لهم أبو بكر: « فلستم بذُهْلٍ الأكبر، بل أنتم ذُهْلٌ الأصغر». المرجع: (الحافظ بن كثير، السيرة النبوية جزء 2، ص 163، والبداية والنهاية جزء 3، ص 60). وذّهْل كان فرعا من بني ربيعة. وعرف أبو بكر بأنهم فرع صغير، لا يصلح لمساعدتهما، لذلك فقد اهتمامه بهم، وتحرك مصطحبا محمد إلى قبيلة من قبائل بني شيبان بن ثعلبة الذين يقال أنهم انتصروا على الفرس في معركة ذي قار، « فقال لهم أبو بكر كيف العدد فيكم.. فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم»، وبعد أن اطمأن إلى عددهم وقدرتهم القتالية. قدّم لهم محمد طعمه الاعتيادي « قال رسول الله: أرأيتم ان لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه فقال له النعمان ابن شريك اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش». المرجع: (ابن كثير، البداية والنهاية، جزء 3 ، ص 60، ابن كثير، السيرة النبوية، جزء 2، ص 166).
--------إذن يضع النبي (الكريم) طُعمَ الاغراء المتوفر لديه للقبيلة، وهو الغنائم والسبايا، لمعرفته الأكيدة أن لا أحد منهم مهتمٍ بديانته، إنَّ كانت لديه ديانة بالفعل. ولكن شيخ القبيلة يرفض إغراءه، ويجاوبه أنَّ ذلك لك (أي ليس لرجل محترم مثله أن يأخذ مساكن الناس وبناتهم، ويترك هذا العمل المشين لمحمد).
 وعندما عرض الطعم ذاته على قبيلة كِنْدة، قالوا له: «أجئتنا… لكي ننابذ العرب. إلحق بقومك فلا حاجة لنا بك فانصرف من عندهم». أي أنهم غير مستعدين لمعاداة العرب وشن حروب عليهم.
لم يقبل القريشيون في مكة أو أي من القبائل المجاورة لها طعم محمد الإجرامي، إذ لم يحدث في تاريخهم أنَّ أحدًا عرض عليهم عرضا إباحيّا كهذا، لذلك ذاعت سمعتة بين قبائل العربان كمُفسِّد للمجتمع بسبب علاقته بالصعاليك. “فلم يقبله أحدٌ من تلك القبائل، ويقولون قوم الرجل أعلم به. ترون أن رجلا يُصلِحُنا وقد أفسد قومَه؟!”. المرجع: (ابن كثير، البداية والنهاية، جزء 3، ص 59، وابن كثير، السيرة النبوية، جزء 2، ص 158، ابن حجر، فتح الباري حديث 3675).
بالطبع لم ولن يستطع أحد أنْ يقول: لماذا عومل نبيه (الكريم) بهذه المعاملة الفجة، وهل تليق معاملة كهذه بنبي صادق أمين، بُعِث رحمة للعالمين، أم بصعلوك يخشاه الناس وينفرون منه؟
وتفيدنا كتب السيرة بأن الكثير من الصعاليك إستمروا بعد تأسلمهم في السطو على القوافل المكية الراجعة من الشام. وأن البعض منهم خرجوا من مكة، وكونوا جماعات إجرامية خاص بهم، فمثلا، خرج أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فارًا بدينه من قريش، فلحق بأبي بصير، (عتبة بن أسيد بن جارية) وجعل لا يخرج من قريش رجل متأسلمًا، إلا ولحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فلما صارت لهم قوة، جعلوا لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا اعترضوا لهم، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش تستجد بالنبي تناشده "الله والرَّحِم". المرجع: (صحيح البخاري، جزء 3، ص 183)
وهناك حادثة اخرى تكشف تأسلم الصعاليك وانضمامهم إلى محمد، إذْ أن عروة بن مسعود تعرف على البعض منهم في صلح الحديبية. نقرأ في صحيح البخاريستاني أنه تطلع على الصحابة والتابعين لمحمد فوجد بينهم المغيرة بن شعبة. وكان يعرف أن المغيرة من الصعاليك المطرودين من قريش، وهرب كصعلوك وجاء فتأسلم ومع ذلك استمر في الصعلكة تحت غطاء الدين، فقال له أنت شخص غدار، ماذا أتى بك معنا.
المغيرة بن شعبة هذا كمًّا نجد في السيرة الحلبية، الجزء الثاني، صار له في الاسلاموية ألف امرأة في وقت واحد، فلقد منحه التأسلم فرص اكبر للصعلكة تحت شرع الله ورسوله، ومكنته أية (وما ملكت ايمانكم) من أن يجعل صعلكته لا محدودة. هناك شئ اخر، هو ان بعض الصعاليك المتأسلمين صاروا قادة مهمين منهم سارية بن زنيم الدائلي الكناني الذي أمَّره عمر على الجيش وسيره الى بلاد فارس، مع أنه كان صعلوكا مجرمًا خليعاً خلعته قبيلته. المرجع: (الاصابة في تميز الصحابة للعسقلاني)

إذن هل كانوا صحابة أم عصابة؟
بالطبع وكي تستمر منظومة الصعلكة قائمة على قدم وساق ويكتب لها البقاء، يحاول الموتورون إقناعنا بأن كل هذا وغيره قد حدث من أجل نصرة الديانة السمحاء وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويتجاهلون عمدًا ذلك الظلام الذي أطبق على صحابته المقربين فور مرض نبيهم الكريم. فما أنْ رقد على فراش الموت، حتى اختلفوا فيما بينهم من نور، وراحوا يوجهون سهامهم إلى بعضهم بعضًا، قبل تحويل الظلام والسِّهام معًا إلى الشعوب المجاورة لهم؟ هؤلاء الموتورون لا يعرفون أن الناس في الظلام يختلفون كثيرًا على كل شيء، وأنهم في النور (قد) لا يختلفون على أي شيء.
ولكي نرى النور يشع في قلوب صحابته الأبرار يروى لنا الشيخ البخاريستاني بذكائه الخبيث في صحيحه، حديث رقم (5777) عن أبي هريرة: أن محمدًا تعرض في فتح خيبر لعملية اغتيال بالسم على يد يهودية، بوازع من اليهود (كالعادة)، لأنهم أرادوا فقط أن يعرفوا إن كان كذابًا فيموت ويستريحون، وإن كان نبيًّا فلن يصيبه أذى!، فأصابه الأذى، وبعد سنتين رقد طريح الفراش في النزع الأخير، وأحاط به رهط من صحابته. ولما إشتد وجعه، اكتشف أن كل ما قاله وما فعله طوال حياته لا يكفي لإنقاذ أتباعه من الضلال أو الظلم، فطلب منهم أن يأتوه بورقة وقلم ليكتب لهم "كتاباً لن يضلوا بعده أبدًا" أو "لا يَظلمون ولا يُظلمون"، ولكنهم يبدو أنهم فضلوا الضلال على الهداية والظلم على العدل، فقال عمر بن الخطاب بحسب الروايات المختلفة: « إن النبي (غلبه الوجع)، أو (مدّ عليه الوجع)، أو (أنه يهجر أي يهذي). فلا تعطوه (وعندنا كتاب الله)، أو (وعندكم القرآن) حسبنا كتاب الله..»، فاختلف الحاضرون واختصموا، وكثر اللغط، بين من يقول: قربوا يكتب لكم، وبين من يقول: القول ما قال عمر... فقال النبي: « قوموا عني، ولا ينبغي عندي، (أو عند نبي) تنازع». المرجع: (ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 2، ص 273 - 274 و305 و441).
طردهم نبيهم الكريم من غرفته، ولا أحد يعرف حتى الآن لماذا تنكروا له في اللحظات الأخيرة من حياته، ومنعوه من كتابة وصيته الأخيرة؟، ومِمَّاذا كانوا يخافون؟، لتبقى هذه التساؤلات موضوعًا مستمرًا للجدل العقيم والتكهنات والخلافات والانقسامات والقتال بين المتأسلمين عامة والشيعة والسنة خاصة.
ثم تضاربت الأقوال في وقت دفنه، فقيل إنه دفن بعد يوم أو يومين أو ثلاثة من وفاته، ولكن الحافظ ابن كثير، قال: « والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه - عليه السلام - توفي يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء» (البداية والنهاية جزء 3، ص 295). وذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حديثًا تصل عنعنته إلى زوجة النبي الأثيرة عائشة حسمت به الأمر قائلة: « إن رسول الله توفي يوم الإثنين، ودفن ليلة الاربعاء». وكان بطنه قد انتفخ وتعفن جسده، وخرج منه النتن، فقال العباس لصحابته: « إن رسول الله يأسن (أي يتعفَّن) كما يأسن البشر، فادفنوا صاحبكم». المرجع: (الطبقات الكبرى لابن سعد - حديث رقم: 2150، والمنتظم لابن الجوزي جزء 19، ص 43).
بالطبع لم يغفل الرواة عن ذكر السبب الذي جعل الصحابة يتركون جثته ثلاثة أيام ولم يسرعوا في دفنه، وهو انشغالهم عن ذلك بمسألة أهم، ألا وهي توجههم إلى سقيفة بني ساعدة لتنصيب خليفة له، حتى أن صديقه الحميم وحماه أبا بكر حين سمع بأمرهم ذهب إليهم، وبرفقته عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح. تركوا نبيهم الكريم دون تغسيل أو تكفين ولم يصلى عليه إلا بعد أن بويع أبو بكر بالخلافة في نفس اليوم الذي مات فيه الرسول، ثم جلس أبو بكر في المسجد في اليوم التالي، أي الثلاثاء، وبويع بالخلافة من بقية المتأسلمين الذين لم يحضروا قمة بني ساعدة، وكانت هذه البيعة بيعة طاعة وولاء لا أكثر. وبعدها فقط باشروا بتجهيز النبي فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه فرادى، لم يؤمُّهم أحد، رغم اختيار أبي بكر خليفة له، ممَّا يشير إلى أن بيعته كانت محل اعتراض من كثيرين، ثم انتهوا من دفن جسده (الطاهر) ليلة الأربعاء.
ولكن بخبث نواياهم وذكاء عقولهم ويقظة ضمائرهم، ذهبوا إلى أن السبب الحقيقي في تركه بعد موته هو أن الصحابة سمعوا منه إِن الله حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء (!). المرجع: (ابن القيِّم الجوزي، الروح، دار ابن كثير 2017، ص44). ففضلوا تركه دون دفن في بيئة حارة، لعلهم يجدون في ذلك آية ودليلا على صدق رسالته! أليس في هذا أشارة واضحة أنه نبيٌ كذَّاب؟
أجمع الصحابة على وجوب نَصْب خليفة بالشرع وليس بالعقل بحسب ما جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، والشرع هنا لا يعني شرع الله المزعوم ولكن العرف القبلي من حيث الأولوية في الدخول إلى زمرة النبي. لذلك تركه صحابته (الأبرار) وحده يعاني من سكرات الموت، حتى تعفنت جثته، وذهبوا ليتصارعوا من أجل السلطة ورئاسة الصعلكة، وكادوا يرفعون السيوف على بعضهم البعض.. لم يكن للدين المزعوم أية أهمية تذكر في صراعهم، ولم يتطرقوا إليه بكلمة واحده، ولم يكن يعنيهم شيء سوى من منهم يرأس الصعلكة. لذلك وصفتهم الكاتبة التونسية الدكتورة هالة الوردي بالملعونين في كتاب لها بعنوان "الخلفاء الملعونون"، وهم ملعونون بالفعل، ولكن ليس لأنهم فعلوا ما فعلوه بنبيهم، بل لأنهم يعرفون حقيقتة وحقيقة أنفسهم، وأنهم جميعًا صعاليك، وأن صعلكتهم لا بد أنْ تستمر بعد موته.

لماذا استمرت الصعلكة الإسلاموية حتى الآن؟
أهم العوامل وأكثرها أثرًا على استمرار الصعلكة الإسلاموية منذ النبي الكريم وحتى الآن، هي نظم الحكم الاستبدادية الفاسدة، نسميها ما شئنا: خلفاء راشدين، أمويين، عباسيين، عثمانيين، فأطميين، هاشميين، سعوديين، ناصريين، عسكريين، إسلامويين … إلخ، فهي مجرد عصابات فئوية أو عائلية تسرق خيرات البلاد وتحتقر العباد، وتعمل على إذلالهم، ضمانًا لطاعتهم والخضوع لهم، كما كان الحال مع الصعاليك.
كثيرًا ما نسمع من رجال الدين أنَّ الإسلاموية هي الحل، لأنها بالفعل هي المشكلة، وانهم يعزون سبب تردي المتأسلمين وانحطاطهم وتخلفهم عن ركب الحضارة والتقدم، وفساد أخلاقهم وانحلال سلوكهم إلى ابتعادهم عن صحيح الدين، مع أنهم هم أنفسهم لا يعرفون ولن يعرفوا ما هو صحيح الدين المزعوم وإلا كانوا قد قدموه للناس منذ زمن، وأراحوا واستراحوا. إنهم يعرفون فقط أن الإبهام والغموض والتناقض وعدم اليقين في هذا الدين تضمن لهم المرونة في القول والفعل، والحياة الرغدة والرزق الوفير. ولذلك يتجاهلون السبب الوحيد وراء هذا التردي المادي والمعنوي، وهو استمرار تلك الأنظمة الإستبدادية التي يعملون على خدمتها ومساندتها. فكل حاكم يقول لهم - ما معناه - هذه بضاعتنا التي صنعها لنا أسلافنا، ولا شأن لكم بها، إن مهمتكم تنحصر فقط في تسويقها بين المواطنين بما يتراءى لنا ويتفق مع أهوائنا وأهدافنا!. فمن الطبيعي، بل ومن الضروري والمفيد، أن يلتزم حكام المنطقة على مر العصور بالبضاعة التي أعدها أسلافهم في العصرين الأموي والعباسي، وأن يبقى سيف النبي الكريم مسلطًا دائمًا على رقاب العباد بمن فيهم رجال الدين. وأي حاكم لا يريد ولا يطلب من الجميع سوى الخضوع التام والطاعة المطلقة تبعًا للأمر الصعلوكي بامتياز في سورة النساء، الأية 59، وعلى الفقهاء ورجال الدين أن يعملوا مقابل ما يوفره لهم الحاكم من نفوذ وما يغدقه عليهم من أموال، على طاعته، ويتباروا في تحريم الخروج عليه، وعدم نزع يد الطاعة من الناس، حتى وإن أكل مالهم وضرب ظهورهم، ليس هذا فحسب:« حتى ولو زنى وشرب الخمر لمدة نصف ساعة على التلفاز»، حتى و« لو كان الحاكم يزني كل يوم بمومس في خيمة فعليك اتباعه، حتى لو كان يلوط أيضا»!
https://www.alquds.co.uk/داعية-سعودي-يجب-طاعة-ولي-الأمر-حتى-لو-ز/comment-page-5/
وبذلك وضع حكام المتأسلمين أنفسهم إلى جانب الله ورسوله في الطاعة، التي هي من ثوابت الدين بالضرورة ضمن شعار: (جلب المصالح ودرء المفاسد)، وهو شعار لا يتحقق منه سوى جلب المصالح للحكام المستبدين وحدهم، وتبقى المفاسد كما هي، بل تزيد يومًا بعد يوم، وإلا ما وجد الفقهاء ورجال الدين عملا يعملونه! وما أدرك الكاتب الياباني (نوبوأكي نوتوهارا) بسهولة أن:« العرب متدينون جدًّا، وفاسدون جدًّا… الدين أهم ما يتم تعليمه، لكنه لم يمنع الفساد وتدني قيمة الاحترام »، أنظر كتابه: العرب، وجهة نظر يابانية، منشورات الجمل، ط 1، 2003.
بيد أنَّ النظم المستبدة وطاعتها كفريضة على الناس لم تعد هي وحدها الحاسمة في أسباب تردي أحوال المتأسلمين، بل الأكثر حسمًا منها هو عبادة الأفراد وتقديسهم، سواء كانوا من رجال الدين أو من الحكام الجهلة المستبدين على حد سواء، فالتقديس يعمي البصر ويوقف العقل عن العمل، ويصيب المجتمعات بالاختناق والتوتر والاندفاع الأهوج إلى الغوص في غياهب الفساد والانحطاط، واستملاح العيش في وحل الصعلكة المقدسة.
ورجال الدين من ناحيتهم لم يجدوا مفرًّا من الحجر على عقول وضمائر الناس، بدعم من سيف السلطان، وإسقاط التهم الجاهزة والمعلَّبة على كل من تسول له نفسه مخالفتهم أو الاعتراض على أقوالهم. فأصبحت مخالفتهم من أكبر الكبائر. ولذلك يعتمدون في تسويق بضاعتهم على عاملين أساسيين كي تظل الصعلكة مستمرة:

العامل الأول هو مرونة التبريرات
ذكرت في مقالات سابقة أن الديانة الإسلاموية لا تزدهر سوي في بيئة اجتماعية معبأة بالجهل، ومن أهم أعراض الجهل ليس السكوت على التناقضات في القول والعمل فحسب، بل وقبولها وتقديسها!
على بن أبي طالب وصف القرآن بأنه « حمال أوجه ، ذو وجوه ، تقول ويقولون». وقال الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة الإسلاموية بجامعة القاهرة إنه (سوبر ماركت)، إذن يمكن لكل من هب ودب أن يدلف إليه ويُؤَوِّل نصوصه ويفسرها ويوضح معانيها الإلهية كما يشاء. ويلصق بها ما يشاء، وسوف يجد آيات قرآنية جاهزة لتدعمه وتسنده، ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه أو ينقده، ما دام سيف السلطان مسلطًا على رقاب الجميع. وعندما لا يفي القرآن بالغرض، وهو لا يفي عادة بكل غرض، فلديهم الأحاديث النبوية التي روتها أشباح لا عرف أحدٌ عنها شيّئًا، وتتناول كل الأغراض وتشبع جميع الأهواء. وإذا تعذر ذلك اختلقوا أحاديث جديدة وعنْعَنوها ببعض من الأشباح لتصل إلى رسول الله، الذي لا ينطق عن الهوى.
هذه المرونة تكسبت الصعلكة الإسلاموية ديمومة من ناحية، ولكنها من ناحية أخرى وضعت المتأسلم العادي الذي لا ناقة له ولا جمل في حيرة من أمره، أصبح يعاني من اضطراب وجداني وخلل سلوكي، فيمكنه أن يختار في حياته ما يشاء، إما أن يتصعلك ويعيث في الأرض فسادًا قدر استطاعته، وأن يؤدي في نفس الوقت جميع الفرائض، كما يفعل الدواعش تأسيًا بالنبي الكريم، أو أن يلتزم بالأخلاق الإنسانية، أيضًا قدر استطاعته، ويؤدّي من الفرائض ما يتفق مع التزامه الإخلاقي، مثل البشر العاديين. وهذا الأمر بفسِّر قول الكاتب الياباني بأن « الشعور بالاختناق والتوتر سمة عامة للمجتمعات العربية». (المصدر السابق).
وبين الخيارين يتأرجح رجال الدين بشتى جنسياتهم.

والعامل الثاني هو إحتراف الصعلكة
كنتاج حتمي لاستبداد النظم الحاكمة منذ عهد محمد وحتى الآن، ظهرت جهتان تحترفان الصعلكة في المجتمعات الإسلاموية، وتحرص على بقائها وتحارب من أجل الحفاظ عليها هما:
المؤسسات الدينية
إذا أرد المرء لفكرة ما، حتى وإن كانت شاذة ولا إنسانية، أن تنتشر وتبقى لزمن طويل، عليه أن ينشئ لها مؤسسة تتبناها وتعمل على توضيحها تبعًا لاهتماماته، وتدافع عنها بما يتوفر لديها من نفوذ مادي ومعنوي، فتبدو وكأنها هي الممثل الشرعي الوحيد لها. ولأن المؤسسات الإسلاموية تتأرجح بين خيار التطرف والاعتدال، تكتفي في عملها بمهمة الصعلكة الكلامية وحدها. فليس من الضروري عليها أنْ تلتزم بالصعلكة الإجرامية، ولكن بحكم استرزاقها والحفاظ على وضعها، تلتزم بالدفاع عنها، وتعرف كيف تسيطر على عقول العوام وتحضِّهم عليها، ليتولى أحدهم ارتكاب الجرائم بالنيابة عنها. فأي من مشايخ مؤسسة الأزهر - مثلًا - لم يقتل شهيد التنوير الدكتور فرج فودة أو حاول قتل الكاتب العالمي نجيب محفوظ أو غيرهما، بل قام بذلك أحدٌ من الذين خضعوا لغسيل أمخاخهم من قبل المؤسسة.
المؤسسات الدينية تتزايد كل يوم في جميع البلاد الإسلاموية، ويتكاثر أعضاؤها كالذباب، ولا عمل لهم سوى غسل الأدمغة بالهراء المقدس، وحشر أنفسهم في الشؤون الخاصة لأفراد المجتمع والتي من المفترض عقليًا أنها لا تعني أي دين بحال من الأحوال. ومن يعترض عليهم يصبون عليه اللعنات المحمدية ويتهمونه بالردة والتكفير والزندقة وتهم أخرى جاهزة ومعلبة منذ مئات السنين، وقد يحضون على قتله، فيُقتَل، ما لم يتمكنوا من الزج برقبته تحت سيف السلطان الجائر.

والجماعات الداعشية
هذه الجماعات التي لا تُعَد ولا تحصى في الوقت الراهن هي التي تلتزم حرفيًا بالنهج الإجرامي لنبي الأسلمة، وترفض التبريرات المرنة في شؤون السياسة والدين معًا، لذلك تكفر الحكام ونظمهم ورجال الدين ومؤسساتهم بالكامل. وقد بدأ ظهور هذه الجماعات مباشرة عقب موت نبيهم الكريم، فظهر الخوارج في أيام علي بن طالب، وتوالى ظهورها بكثافة على مر التاريخ. ولن ينتهي بانتهاء الدواعش وغيرهم الكثير، ولا يمكن لرجال الدين والأزهر التصدي لهم بالعقل والحجة، ولم ولن يستطيعوا تكفيرهم، بل أنْ الشيخ الغنوشي في تونس برر إجرامهم بأنهم ”يمثلون الإسلاموية في حالة غضب“ !. إن الإسلاموية سوف تظل في حالة غضب وهيجان، طالما معطيات الصعلكة الداعشية موجودة في الكتب المقدسة، وطالما الجماعات الداعشية وحدها هي التي تتعاطى وتلتزم بها حرفيًا أسوة بنبيها الكريم وصحابته المطهرين. وطالما خضعت المجتمعات الإسلاموية لنظم حكم صعلوكية إستبدادية.

والنتيجة؟
النتيجة لكل هذا نجدها في إحصائيات مكثفة أجراها ”مركز PEW لأبحاث الدين والحياة العامة“ في الدول الإسلاموية وبين المتأسلمين في الدول الأجنبية، تبيِّن مدى اندفاعهم الأهوج نحو الغوص في غياهب الفساد والانحطاط واستحسان العيش في وحل الصعلكة. فالأغلبية الساحقة منهم (أكثر من 90٪)، يريدون تطبيق ما يُعرَف بالشريعة الإسلاموية من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وقطع الرؤوس والجلد والرجم … إلى آخره من أحكام الصعلكة المقدسة. راجع الموقع:
https://www.pewresearch.org
بل أنَّ لرجل الدين المصري الشيخ (أبو إسحاق الحويني) مقطع فيديو على موقع اليوتوب ومتداوَل بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، يُرجِع فيه سبب فقر المتأسلمين وتخلفهم وانحطاطهم إلى توقفهم عن عمليات الغزو والقتل والسلب والنهب وسبي العبيد وملكات اليمين، كما كان يفعل نبيهم الكريم وخلفاؤه الراشدين!
إن من شأن فلسفة الصعلكة هذه أنْ تعطي أملًا وهميًا للمتأسلم في إنقاذه ممَّا هو فيه من تردي أوضاعه المادية والمعنوية، وفِي الخلاص المزيف من شعوره الدائم بالتوتر والاضطراب الوجداني، فينتقل بمشاعره للعيش في عالم مثالي لم يوجد قط على أرض الواقع، هذا العالم الخيالي ينسجه الفقهاء والمشايخ بإصرار، ويصورونه له بإلحاح على أن نبيه الكريم وصحابته الأنقياء والسلف الصالح عاينوه وعايشوه، وأن ثواب السعي إلى تحقيقه هو جنات عرضها السموات والأرض، فيها - إلى جانب الحور العين - ما لا عين رأت ولا أذن سمعت … إلخ.
إنها حقيقة مأساة إنسانية مزمنة ليس لها نظير وليس لها حدود، ولم تظهر حتى الآن بادرة واحدة للخلاص منها!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س