الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(10).

ماجد الشمري

2019 / 12 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يخبرنا رب ايوب:انه لايجوز افتراض ان من يعاني هو مذنب بالضرورة ،ومن لايعاني هو بريء حكما.وهذه الفكرة الالهية لاتترك لايوب مجالا او خيارا لتحديد ماهية العدل كما يراها هو نفسه.ومن اجل ان يكفر الله عن ذنبه الذي ارتكبه بحق ايوب-طبعا هو لايعترف بذلك مصرحا فهذا يقلب الموازنة-المعادلة والعلاقة بين الخالق والمخلوق،ولايمكن طرحها بصراحة وعلانية-وماسببه له من تحطيم ودمار لحياته وحياة عائلته وهو البريء المستقيم،والذي لم يستحق ماجرى له،ولو بأدنى مقاييس العدالة البشرية الناقصة اوالالهية المطلقة.ليقدم الله على تعويض ايوب بأعطيات وفيرة،وكبديل بشري مشابه او منسوخ او هو نفسه ببعثه للحياة من جديد لمافقده من ابناء-وكأن ايوب سيكون او سيبقى هو نفسه قبل نكبته واثناءها وبعدها عندما حل الانفراج!-حيث يتصالح الله مع ايوب،ويعقدوا سلاما تلفيقيا قائم على المساومة والعوض والرشوة الالهية:زينة الحياة الدنيا،مالها وبنونها!.لتمضي حياة ايوب وادعة مستقرة رتيبة بلا منغصات او بلايا،متمتعا بحفنة السنين التي من بها ربه عليه،وهنا ينتهي السفر.-تنويه لابد منه:ان وقوفنا الطويل عند مشهد المواجهة واللقاء بين الله وايوب والسفر يتصاعد نحو ذروته الختامية،والذي تبدو وكأنها وقفة مراوحة ودوران في نفس المكان تبعث على الملل،من تكرار قراءة النص اكثر من مرة،مجرد اجترار معاد او حشوا لالزوم له،ولكن الامر ليس كذلك،فلأهمية برهة المواجهة السلبية-الايجابية،ومن طرف واحد هو الله -فقد كان ايوب سلبيا طيلة الوقت ومصغيا حتى نهاية الخطاب الالهي-و التي هي لقطة نادرة وشحيحة في بقية الاسفار، هذا اللقاء الالهي العياني وجها لوجه والتحدث مع ايوب باللغة العبرية التي يفهمها.فتحليلنا للنص يتطلب اعادة القراءة عدة مرات ومن زوايا متعددة،وتتناول اكثر من جانب لحضور الله ومضمون ماقاله والاستراتيجية الهجومية التي استخدمها الرب في تفتيت و تذويب التمرد والشك الايوبي وتحويله الى خنوع وتسليم وعودة الى حضيرة الرب،وهذا ليس مألوفا او عاديا،لقاء الخالق بالمخلوق بصوت وصورة ومقاربة بصرية ولسانية.وهذا يحتاج للولوج بين طيات وثنيات خطاب الله،وتكرار واعادة القراءة لمرات.لذا كان ضروريا ان ننبش ونحفر ونقلب ونستقريء وننطق الخطاب الالهي المبهم،وكشف آلياته ومنهجه وغايته في صنع وهندسة المؤمن المثالي الانموذج.ونحن نتحدث عن خطاب الله الطويل الذي جندل ايوب معنويا،تسترعي الانتباه والملاحظة زاوية اخرى في سفر ايوب-وما اكثرها!-وهي تلك المتعلقة بالعالم الآخر البعدي،حياة مابعد الموت.فلا الله في حديثه عن كل شيء بتفصيل دقيق،ولاايوب،ولااصدقاءه ولاالشيطان نفسه،تناولوا او اشاروا او لمحوا لذلك لامن قريب ولامن بعيد!.في الخطابات التحاورية المتقاطعة بين ايوب واصدقاءه ،،وبين ايوب والله ،او االله والشيطان،الخ،كان مجمل الكلام يلف ويدور حول:العدالة والحكمة والعناية الالهية،ومحنة ايوب،وسبل الرب السرية والمجهولة لتنظيم وتحديد نصاب القيم والمفاهيم.ولكن لم نجد من يوظف او يستشهد او يستخدم شيئا من عناصر الدراما الايوبية ،ولا احدا استحضر عالم الآخرة الفردوسي -الجحيمي ابدا!.لماذا هذا الغياب للعالم الاسكاتولوجي او الابوكاليبس- عالم الاخرويات اوالحياة بعد الموت-كما وردت في سفر دانيال او التلمود؟!فهل هذا مستغرب يدعو للتسائل والاستفهام، ام هو عادي و طبيعي ولم يكن هناك من حاجة للتطرق اليه او ذكره؟!.نعتقد-وهذا اجتهاد قابل للمناقشة-ان كاتب السفر،والفترة التاريخية التي عاشها وكتب فيها،لم تكن بعد قد اسست او وضعت عمارتها او بنيتها الاسكاتولوجية لمابعد الموت ونهاية العالم،ولم يجري بعد تخيل او تحرير نسختها العبرية المكتوبة او المتناقلة شفاها و المختلفة او المشابهة لصياغات شتى من دراما او ملحمة الفردوس والجحيم والمطهر،وبقية عناصر عالم الآخرة البهيج والسعيد للمؤمنين الاخيار الذين التزموا بتعاليم ووصايا الرب،وعالم الرهبة والفزع والتعذيب على الكافرين الذين عصوا الوصايا واوامر الرب وتمردوا وضلوا في دروب الشك والغواية.فما من آخرة في سفر ايوب ولاحياة ثانية بعد الموت بالنسبة للرب التوراتي،ليجازي بها الابرياء ويعاقب المذنبين. هي قطعا الابقى والاهم من الحياة الدنيا وعليها يقوم دغائم و بنيان اغلب الاديان كوسيلة ردع وتخويف بالجحيم ،وايضا للاغراء كحافز جزائي بالنعيم.فدين بلا جزاء وعقاب للاخيار والاشرار هو دين كسيح وغير فعال في نفوذه وحضوره وسيطرته الايديولوجية.
فلو نظرنا الى ايوب فأننا سنجد انه لم يكن ينظر الى الموت الا كنهاية نهائية وراحة وخلاص من آلامه،وهو ايضا ما كان يتمناه ويريده،ولم يكن يرى في الموت معبرا او فاصلا بين حياة مؤقتة واخرى دائمة.ولو كانت فنطازيا الجنة متداولة ومعروفة في التقاليد الدينية -الثقافية في زمن ايوب لاصبحت عزاءا وسلوى واطمئنان نفسي مريح للمآل الاسعد والاجمل له،وجزاء ونعمة لايمانه وصبره يستحقها عن جدارة ونصيب معادل لبره وصلاحه.وايضا اصدقاء ايوب لم يقدموا في خطاباتهم الثلاثية مايشير الى نعيم تلك الحياة الاخرى الخالدة،كنهاية سعيدة لبؤس ايوب وعذابه وتعاسته،ولافاضوا كثيرافي ذكر الطيبات للبطن والفرج،وجمال تلك الحياة الخالدة الهانئة،والتي سيحضى بها ايوب ويتمتع.ولكنهم لم يفعلوا ذلك!.وكذلك الله ايضا،تكلم في تفاصيل كثيرة،ووصف حيوانات متنوعة من النعامة الى التمساح!.ولكنه لم يتحدث عن مدينته السماوية و عالمه القيامي الاخروي:فردوسه الموعود للمتقين والمؤمنين به،والجحيم المسعر للكافرين والمجدفين به و عليه .وهذا منطقيا ومن باب اولى،اكثر تأثيرا ونجاعة واقناعا في الاغواء والردع من خطابه الالهي الطويل الممل،واجدى لارجاع ايوب الى حضيرة الهداية والتوبة،ولحقيقة:ان صبره وصموده على ايمانه رغم بلواه،سيكافأ ويثاب بخير جزاء وثواب مضاعف،ولكنه لم يفعل ذلك ايضا،وليس من تفسير مقنع لذلك الا:ان الديانة العبرانية لم تستحدث او تخترع بعد قيامتها اليوكالبسية الخاصة باليهود،ففي الحياة الدنيا-وليس من غيرها-نثاب ونعاقب،نكرم بالخيرات والسعادة والعيش الكريم،او نحرم من كل خير وتنصب علينا الشرور والتعاسة فتكون حياتنا جحيما.وليس من نظام الهي ثابت او متوازن في قسمة الحظوظ والمكاسب حسب الافعال،فكل شيء يجري اعتباطا دون محددات او معايير،متروكا للمشيئة والمزاج والمقامرة الربانية العشوائية،وهذا مالمسه ايوب في حالته الخاصة المتفردة.الكوميديا الالهية المابعدية،يوم الحساب،يوم القيامة،الخ من نعوت البعث والنهوض من الاجداث.هي اهم ركيزة في الاديان التي تعني صلة مباشرة بالسماء من خلال وسيط رسولي نبوي.فبدون الحساب الآخروي الذي يضعه الدين في صلب بنيته العقدية،يجرد نفسه من قوة الردع واغواء الاثابة،ويصبح مجرد دين اخلاقوي سلوكي،يحض على السلوك القويم والالتزام الاخلاقي كواجب طوعي دون الزام او تبعات او جزاء في الاستقامة والانحراف.فالعالم الآخر هو محاولة لاصلاح فوضى العالم الدنيوي الجزافي الخالي من الانصاف في توزيع الارزاق والاقدار،ولكن حتى هذا العالم مابعد الموت والذي يبدو عادلا في نصيب الاخيار والاشرار بعد محاكمات صارمة وعادلة قانونيا،ينعم الاخيار بالجنة ومسراتها،ويقاسي الاشرار من عذاب جحيمها.وهذا ليس عدلا في جوهره ومطلقيته.فجزاء العبادة والايمان هو رشوة موعودة للمؤمنين،وعذاب الكافرين المجدفين هو اقرب الى الرشوة على الطاعة والامتثال،واقرب الى الانتقام والقصاص على التمرد والمخالفة منه الى العدل والجزاء الاوفى!فمامعنى التعذيب الابدي لانسان غيرمؤمن او مقر بالالوهية؟!.نقطع مع فكرة الآخرة لانه موضوع طويل وكان استطرادنا له جانبيا،ونعود الى ايوبنا-العبد البائس المضيع-..كانت لحظة ايوب التجديفية الخاطفة التي لامسته بقوتها الضاغطة بعد ان بلغ يأسه منتهاه،ولكنها لم تكن استدلالا عقليا مبنيا على منطق التأمل والتفكير الحر المحايد،وصل اليه بألامعان والتروي والتمحيص دون تدخل من المشاعر،بل كان على العكس تماما،هو نتيجة لنوع من الجزع القاهر،والخيبة العاطفية المتراكمة،التي فقدت ثقتها بالله،ومن ثم ايمانها بعدله وشكها بنزاهته في ادارة وتدبير الكون،وتسيير مصائر مخلوقاته العاقلة.فقد ظل لحفنة من السنين يوجه ضرباته الغاشمة والجائرة ممعنا في غيه،لايستجيب او تتحرك رحمته لصرخات ونداء ايوب بالغوث والنجدة،وهو يشاهده يتلوى في عذابه،وليس لديه الا الرغبة في الموت،وهو بارد كآله حجري بلاحس او تأثر!.فهل نرى هنا تجسد للعناية والرحمة او للقسوة والجور الغاشم؟!.
.................................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إسرائيلية ضد إيران في أصفهان.. جيمس كلابر: سلم التصعيد


.. واشنطن تسقط بالفيتو مشروع قرار بمجلس الأمن لمنح فلسطين صفة ا




.. قصف أصفهان بمثابة رسالة إسرائيلية على قدرة الجيش على ضرب منا


.. وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير تعليقا على ما تعرضت له




.. فلسطيني: إسرائيل لم تترك بشرا أو حيوانا أو طيرا في غزة