الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شبهات النظام وشبهات الوسط الثقافي السوري

راتب شعبو

2019 / 12 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


من المفهوم أن يسعى نظام سياسي فقير بالشرعية، كنظام الاسد، الى حرق معارضيه بأي شكل، ما خلا المحاججة المنطقية والعلمية. ومن المفهوم أن يستخدم نظام سياسي كهذا ما يتوفر في الثقافة العامة من نقاط ألم، لرمي معارضيه بما يحرض نقاط الألم هذه. في ثقافتنا العامة يحتل الدين/الإلحاد والاستقلال/التبعية للخارج، المرتبة الأولى في التحريض. على هذا تجتهد أجهزة المخابرات في استثمار ذلك لنسف الأرض المعنوية تحت أرجل المعارضين تمهيداً لنسف الأرض المادية تحت أرجلهم.
لا نجد شبيهاً لهذا المنطق في الدول التي استقرت على آلية لإنتاج الشرعية السياسية. مثلاً في الصراع المتعدد الأشكال الذي تشهده فرنسا منذ سنوات ضد "الإصلاحات" التي يسعى الحكم الفرنسي الجديد (ماكرون – فيليب) إلى تمريرها، ويراها قسم مهم من الشعب الفرنسي ( تصل النسبة اليوم إلى 57 بالمئة) اعتداء على حقوقهم ومكاسبهم، لم يُحقن الرأي العام الفرنسي باتهامات خيانية تتناول الخصوم السياسيين. تُفهم الصراعات على أنها تعبير عن خلاف في المصالح و/أو في التصورات، بما في ذلك تلك الاحتجاجات التي تتخذ شكل التخريب (casseurs). حتى هؤلاء "المخربون" يصدرون في شكل احتجاجهم عن فهم معين للمجتمع الرأسمالي وكيفية تقويضه، مشتق من الفكر الفوضوي (anarchisme)، مهما يكن يائساً وضعيفاً. الحق أن غالبية الفرنسيين يرفضون هؤلاء رفضاً تاماً، غير أن أحداً لا يتهمهم بأنهم "عملاء للخارج" أو "قفازات لأيد أجنبية" أو ..الخ.
الاتهام بالعمالة للخارج يتسق تماماً مع المنطق المخابراتي الاستبدادي الذي يشكل عصب أنظمة الأمر الواقع. وهو منطق ساحق في فاعليته لأنه يحقق غرضين في الوقت نفسه، الأول هو استبعاد أو تجنب أي نقاش حقيقي لأفكار الخصم، فلا محل لمناقشة (ملحد) كما لا محل لمناقشة (عميل). قد يتكلم "العميل" أو "الملحد" بعض الحق، وقد يحمل أفكاراً جيدة، ولكن كل الأفكار التي يطرحها لا تعدو أن تكون قنوات لتمرير إلحاده أو لتسهيل ممارسة عمالته. ومن شأن هذا إبطال فاعلية الفكرة المعارضة. والثاني هو وضع الخصم في دائرة الشبهة، وصولاً إلى حرقه سياسياً. نقطة القوة في هذا المنطق المخابراتي هي أنه يتحرك في منطقة عمياء يصعب على المتهم فيها تبرئه نفسه، طالما أنه متهم بعلاقة عمالة ينبغي أن تكون بطبيعتها خفية، لا بل قد تُصور المؤشرات الدفاعية التي يمكن أن يلجأ إليها المتهم، على أنها مجرد حركات تمويه للتغطية على العمالة. فضلاً عن أن الموقع "المخابراتي" لجهة الاتهام يعطي هذه الجهة أفضلية، على اعتبار أنها تعلم ما لا يعلمه الآخرون، وأن كشف العملاء هو جزء من طبيعة عملها.
بالطبع تستفيد أجهزة المخابرات دائماً من سلطة معنوية مزروعة عميقاً في وعي الجمهور "الشرقي" الذي ينسب إلى الدولة وأجهزتها قيماً تعلو على النقد، وكأنها مشتقة من فضاء ديني. والحقيقة أن السلطة المخابراتية تسعى جاهدة لحرق كل محاولة تسعى إلى تغيير هذا الوعي وتثويره.
الشيء نفسه ينطبق على فاعلية تهمة الإلحاد من جانب السلطات الدينية التي غالباً ما تكون في علاقة تعايش حيوية مع السلطات المخابراتية. السلطات الدينية في مصر مثلاً كفّرت نصر حامد أبو زيد رغم أنه ينطق الشهادتين ويثبتهما في مطلع كتاباته. العبرة هي أن السلطات الدينية تعلم ما تخفي الصدور، في آلية شبيهة بآلية سلطة المخابرات.
يمكن وضع ملاحظتين على هذا الواقع، الأولى هي أن كل من السلطتين تتحرك وفق مصالح مباشرة، وتحدد خصومها الواجب حرقهم بناء على هذه المصالح. والثانية هي أن كل منهما تنظر إلى نفسها على أنها مركز معياري، الأولى تجسد الحق، والثانية تجسد المصلحة الوطنية العليا. لا تجد أي منهما بالتالي أي ضير في محاكمة الناس في أعمق ما لديهم، في ضمائرهم وأخلاقهم ومعتقداتهم.
اللافت في سياق حياتنا السياسية والثقافية، هو انتقال عدوى السلطتين المخابراتية والدينية إلى وسط المثقفين الذين يمارسون بذلك دوراً سيئاً مكملاً. من الطبيعي أن يكون لكل سلطة واجهة "ثقافية"، ولا تعدم السلطة المخابراتية مثل هذه الواجهة بالتأكيد، غير أن عدوى "الاستبطان" أو الرمي بتهم العمالة تتجاوز، في اتساعها اليوم، عمل واجهة ثقافية موظفة. نحن اليوم أمام مرض ثقافي مستقل يكمل البلاء الذي تضخه السلطات المخابراتية، وهو مرض يقود دائماً إلى تفتيت وحدة الجبهة المضادة لسلطة المخابرات، حين تنقل الصراع الفكري من مستوى صراع أفكار إلى مستوى الاستبطان ومحاكمة النوايا.
في ظل الانقسام السياسي الحاد الذي أعقب اندلاع الثورة السورية، ولاسيما بعد الانجراف "الإسلامي" الذي عانته الثورة، أصبح كل مثقف من منبت سني محاطاً بدائرة شك إسلامية، وأصبح كل مثقف من منبت "أقلوي"، ولاسيما العلويون منهم، محاطاً بدائرة شك "نظامية". كل مثقف كردي محاط في الذهن العربي بدائرة شك انفصالية، وكل مثقف عربي محاط لدى الكردي بدائرة شك عنصرية، الأمر الذي يعيق التواصل العمل التشاركي.
يتغذى المرض الثقافي الجديد أيضاً على واقع خروج نسبة كبيرة من المثقفين السوريين إلى خارج سورية، الأمر الذي يراه ضحايا هذا المرض الثقافي أرضية صالحة وسهلة للاتهام بالعمالة، حين تختلف التصورات. هكذا يصبح كل سوري محاطاً بدائرة شك بالعمالة للبلد الذي هو فيه. هذا المنطق هو منطق مخابراتي لكن خارج أجهزة المخابرات، منطق مخابراتي يغزو الوسط الثقافي السوري ويفتته، سواء على خط انقسام موالي/معارض أو على خطوط انقسام فرعية متعددة وعدائية تجاه بعضها البعض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سقوط قتلى وجرحى في غارة إسرائيلية على سيارتين في منطقة الشها


.. نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: الوضع بغزة صعب للغاية




.. وصول وفد أردني إلى غزة


.. قراءة عسكرية.. رشقات صاروخية من غزة باتجاه مستوطنات الغلاف




.. لصحتك.. أعط ظهرك وامش للخلف!