الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنية العقل وفشل الثورات وسُبُل نجاحها

حسن عجمي

2019 / 12 / 24
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


بنية العقل العربي السائدة اليوم سبب فشل الثورات العربية وفشل العرب في التحوّل إلى الديمقراطية والمشاركة في إنتاج علوم ومذاهب فكرية و أدبية و فنية معاصرة. بنية العقل العربي كما هي اليوم تُحتِّم أيضاً نشوء الفِتَن والصراعات والحروب بدلاً من المشاركة في بناء الحضارة والسلام.

بنية العقل العربي بنية ماضوية بمعنى أنَّ العقل العربي يحكم على ما هو صادق أو كاذب و على ما هو مقبول أو مرفوض من خلال معايير الماضي. وهو عقل ماضوي بمعنى أنَّ الماضي بالنسبة إليه هو العصر الذهبي الذي لا بدّ من أن نتشبّه به والذي من الضروري أن يُستعاد كما كان بالضبط لكي ننجح وننتصر. وهو عقل ماضوي بمعنى أنَّ الزمن بالنسبة إليه يعبر نحو الماضي بدلاً من أن يعبر نحو المستقبل ما يجعل الماضي حاضراً بظلاله وفِتَنه وحروبه و يجعل المستقبل غائباً ما يؤدي بدوره إلى اغتيال إمكانية تغيير الحاضر والمستقبل. ولذلك يفشل العرب في تغيير واقعهم كفشلهم في التحوّل إلى الديمقراطية وحُكم حقوق الإنسان وفشلهم في المشاركة في صياغة أفكار جديدة و إنتاج العلوم. فبنية العقل العربي الماضوية تسجن العرب في الماضي الخالي من الديمقراطية والعلوم المعاصرة والممتلِىء بالنزاعات الطائفية والحروب الأهلية ما يُحتِّم سيادة الأنظمة الديكتاتورية وغياب الحريات والحقوق الإنسانية وانتشار الفِتَن والحروب في العالَم العربي.

يصرّ العقل العربي الماضوي على أنَّ المعتقدات الماضوية أي المُتشكِّلة في الماضي هي المعتقدات الصادقة دون سواها كما يصرّ على أنَّ السلوكيات الماضوية هي السلوكيات الأخلاقية دون سواها ما سَبَّبَ رفضنا للآخر المختلف فأدى إلى اقتتالنا المستمر و انتهاك حقوق الآخرين منا وانهيار حضارتنا. فمن المستحيل نشوء تنوّع ثقافي في ظل رفضنا للآخر المختلف عنا سلوكياً وأخلاقياً وفكرياً. ومن دون تنوّع ثقافي يستحيل نشوء أية حضارة وانتاج حضاري في العلوم والفنون والآداب. ولذا لدينا فقط تقليد علوم وفنون وآداب وتقاليدها.

بما أنَّ العقل العربي ماضوي, إذن من المتوقع أن يستبدل الأنظمة السياسية والاجتماعية الراهنة بأنظمة شبيهة بها أو مطابقة لها لأنها الأنظمة التي سادت في الماضي. لذلك تفشل الثورات العربية في إنتاج أنظمة سياسية واجتماعية جديدة مختلفة عن الأنظمة الديكتاتورية التي هيمنت في الماضي العربي. بكلامٍ آخر, فشلنا نحن العرب في بناء نهضة حقيقية لأنَّ بنية عقلنا العربي بنية ماضوية ما أدى إلى سيادة الثقافة والأنظمة السياسية والاجتماعية الماضوية. فلم ننجح في تحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان كاحترام الحريات والمساواة لأننا نفكّر من خلال معتقدات ومبادىء وأحكام الماضي الخالي من مفاهيم الحرية والديمقراطية والمساواة بمعانيها المعاصرة. و لذا فشلت الثورات العربية في صياغة أنظمة ديمقراطية ومجتمعات مدنية تحيا في سلام أهلي حقيقي.

الإضطرابات الاجتماعية ومن ضمنها الحروب الأهلية والطائفية الماضوية هي نفسها ما زالت سائدة اليوم لأننا نحيا في الماضي بدلاً من أن نحيا في المستقبل. وبذلك بنية العقل العربي الماضوية ترفض المستقبل المختلف عن الماضي و تحوِّل المستقبل إلى نُسَخ مشوّهة عن الماضي. لكن , بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , التاريخ يبدأ من المستقبل و مَن لا يولد في المستقبل بمضامين وأفكار وسلوكيات جديدة مغايرة لتلك التي سيطرت في الماضي لا يولد أبداً. أما عقلنا العربي فيقاتل السوبر مستقبلية لأنَّ بالنسبة إليه التاريخ يبدأ من الماضي وينتهي في الماضي. لذلك نحن سجناء ماضينا المُتخيَّل ما يُفسِّر استمرارية صراعاتنا المذهبية والطائفية و موتنا المُتكرِّر في حروب ماضوية.

بنية العقل العربي بنية جماعية أيضاً بمعنى أنَّ الفرد مُختزَل إلى جماعة معيّنة فنتواصل ونتفاعل مع بعضنا على أننا نُمثِّل جماعات معيّنة بدلاً من أن نكون أفراداً مستقلين عن أية جماعات فنُعرِّف أنفسنا من خلال جماعاتنا كالجماعات المذهبية أو العائلية أو القبلية ونمسي بذلك سجناء جماعاتنا ما يقضي على أية إمكانية للتحوّل إلى الديمقراطية واحترام الحريات الفردية. فبما أنَّ عقلنا عقل جماعي بحيث أننا نتفاعل مع بعضنا على أننا نمثِّل جماعات بدلاً من أن نكون أفراداً مستقلين و غير مختزلين إلى جماعات, و علماً بأنَّ الديمقراطية قائمة على معاملة الأفراد على أنهم مستقلون و غير مختزلين إلى جماعاتهم, إذن من المستحيل بناء أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الأفراد واستقلالهم وحرياتهم ما يُفسِّر فشلنا وفشل ثوراتنا العربية في تحقيق أي نوع من أنواع الديمقراطية و ما يُفسِّر بدوره سيطرة الديكتاتوريات على عالَمنا العربي.

على ضوء هذه الاعتبارات, تحرّرنا من العقل الماضوي والجماعي هو السبيل إلى تحرّرنا من الأنظمة الديكتاتورية وحروبنا الأهلية والمذهبية و هو السبيل إلى نجاح ثوراتنا وتحقيق الديمقراطية واحترام الحريات والحقوق الإنسانية. فبنية العقل العربي الماضوية والجماعية أدت إلى هيمنة الأنظمة الديكتاتورية ونشوء حروبنا الأهلية. من هنا تبدأ الثورة الحقيقية بالثورة على عقولنا فالثورة الحقيقية ثورة عقلية وثقافية. بمعنى آخر, تبدأ الثورة بالثورة على أنفسنا. فمَن لا يتحرّر من سجون ذواته الماضوية والجماعية لا يتحرّر من الآخرين. من المنطلق نفسه, السبيل إلى السلام وبناء الحضارة بعلومها و أخلاقها وسلوكياتها الجديدة كامن في التحرّر من بنية العقل الماضوية والجماعية لأنها تسجننا في حروب الماضي وتقتل الإبداع الحضاري. فمن المستحيل أن نتطوّر بِعقل ماضوي وجماعي لأنَّ الإبداع الحقيقي مُتحرِّر من الماضي والجماعة. مَن لا يحيا في مستقبل مغاير لا يحيا أصلاً.

بنية العقل العربي بنية سوبر متخلّفة أيضاً فالعقل العربي سوبر متخلّف لأنه يُطوِّر التخلّف من خلال تقديم العِلم على أنه جهل وتقديم الجهل على أنه عِلم ما يمنع انتصار أية ثورة حقيقية وتحقيق أية حرية فعلية. فالعقل العربي يستخدم العِلم والتكنولوجيا لنشر الجهل والتجهيل والفِتَن والحروب. مثلٌ على سوبر تخلّفنا نحن العرب هو اعتبار حُكم الأكثرية ديمقراطية بينما هو ديكتاتورية الأكثرية نقيضة الديمقراطية واعتبار انتخاب الرئيس و ممثلي الشعب ماهية الديمقراطية بينما من الممكن للشعب انتخاب طاغية وطغاة. فالديمقراطية الحقيقية هي حُكم الحقوق الإنسانية كحق كل فرد في أن يكون حُرّاً ومستقلاً.

أما الخطوة الأولى نحو الخلاص من السوبر تخلّف فكامنة في قبول العِلم والمشاركة في إنتاجه لأنَّ العِلم يُحرِّرنا من اليقينيات التي تغتال إمكانية التطوّر فاليقينيات معتقدات لا تقبل الشك والمراجعة والاستبدال ما يجعلها قاتلة الإبداع والتطوّر و سجوناً لنا. لا حياة لمَن لا يتطوّر ولا تطوّر بِعقل سوبر متخلّف. ثورات العرب تُعيد صياغة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لأنَّ واقعهم مُقدَّس بقدسية الله والنبوة والإمامة و قدسية الماضي والجماعة واليقينيات. لذلك الثورة الحقيقية ثورة على المُقدَّس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس


.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم




.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟


.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة




.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا