الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما أجمل رُؤية فاس من فوق، ما أقسى النّظر إليها من الدّاخل...!!

ادريس الواغيش

2019 / 12 / 27
الادب والفن


بقلم: ادريس الواغـيش

لم تعُـد الرُّؤية إلى فاس من فوق، هي نفس الرُّؤية الجميلة من الدّاخل، التّجوّل بين أزقتها المُوغلة في القِـدَم والضّيق يُعطيك انطباعًا مُختلفًا عن منظرها البانورامي الرّوحي الجميل من الأعلى، بقِبَبها الخَضراء ومآذنها المُتفاوتة في الطول والقصر، وكأن الزّمن ظل يتربّص بها منذ أكثر من ألف سنة، كي يوريها في حاضرها ضَيقًا وقُـبْحًا لا مثيل له، بعد عصور أدمنت فيها التّـرف في كل شيء: الحضارة، الجمال، الغنى الفاحش في الفن والعمارة والتجارة والعلم والرُّقي بمختلف تجلياته.
ما أجمل النظرة إلى فاس القديمة، من "جبل زَلاغ" أو أي ربوة مجاورة تعلوها قليلا، ما أقسى رُؤيتها من الدّاخل، قبَبُ زوايا وأضرحة ومآذن شاخ تاريخها وهرم، ولم تعد يحتمل شيخوختها المُزمنة، ولا أحد من أبنائها التجار والوزراء أو السفراء والشعراء استطاع تجديده لتعويضها عمّا فاتها، هكذا أصبح البحث عن كوّة مُشرقة في تاريخها القديم مجرّد مضيعة للوقت، إذ أن ماضيها وحده لا يكفي أمام ما راكمته من قبح في حاضرها، لا لكونها أعطت بسخاء وعلمت الجميع دون أن تأخذ منهم شيئا، ولا رفع الآذان في كل وقت للصّلوات الخمس بأصوات تترنّح في السماء، قبل وصولها إلى حيث المنتهى نفعها في شيء، عالمان متناقضان لا يسرّان النّاظرين ولا الزّائرين.
كأنّ قدَرها أن تهوي إلى الأسفل ويتغيّر فيها كل شيء إلى الأسوأ، لا سقاية "مولاي الحسن" تغني ولا "سقاية النجارين" الأكثر شهرة في فاس والمغرب قاطبة تجدي، ولا هما معا بقادرتين على إقناع الزّائرين ولا تأبهان معا لمن يأخذ معهما صورًا للذكرى، قبل أن ينصرف كل إلى حال سبيله غير عابئ بشيء، تاركا إيّاهما وراءه، لتقرأ كل واحدة صفحات تاريخها القديم كما تشاء على هواها أو تعيد تشكيل هويتها وذكرياتها في ألبوم صورها كما يحلو لها. المكتبات التي كانت تعجُّ إلى عهد قريب بالكتب في زقاق "الطّالعة الصُّغرى" الأطول في فاس البالي برُمَّته، على امتداد استثنائي في تاريخ المغرب ككل، من سينما "أبي الجنود" إلى حدود ضريح مولاي إدريس الأزهر غابت وإلى الأبد، وتم تعويضها بمحلات لبيع الأحذية وماكياج النساء ومناديلهن المستوردة من الصين ووجبات "الشوارما" والأكلات السريعة.
لم يكن مُمكنا أن تزور "سوق الرّصيف" الشهير بالمدينة العتيقة، الذي كانت تشتهيه المطابخ قبل العاملات من النساء الجميلات فيه، أو زقاق "الطّالعة الصُّغرى" ومعها "الكُـبرى" من قبل، دون أن تصادف وجها تظهر عليه نعمة وهو يسبّح بحمد ربه أو شخصًا مألوفا في عالم الفن أو الأدب، وتأخذ معه صورة للذكرى وأنت في كامل الانتشاء. كانت مدينة فاس، من قبل، محجًّا للزّيارات من المدن المغربية الكبرى قاطبة، يكفي أن تمرّ بساحة "أبي الجنود" حتى ترى سيارات مُرقمة في مدن: الرباط، وجدة، الدار البيضاء، مراكش أو طنجة وحتى أغادير، تسمعهم يتكلمون بمختلف لكناتهم الموغلة في المحلية: الكازاوية، الوجدية، المراكشية، الرباطية، السوسية أو اللكنة الجبلية القادمة من مدن طنجة وتطوان في الشمال. زيارة خفيفة لفاس البالي وحدها كافية لتكتشف أن عاليها قد انقلب على سافلها وتغيّـر كل شيء فيها. لم تعد فاس، كما كانت، مدينة للزّيارات ولا المزارات والمواسم وقدوم الأجانب إليها في العُطل، نفس الوُجوه المحلية الواجمة نابتة كل يوم في مقاهيها القديمة.
قد لا نجد هنا صعوبة في جرد الأسباب، الجولة في حارات المدينة القديمة وأزقتها الضيقة لم تعد آمنة ومضمونة العواقب ولا تخلو من الوَساوس والشبهات، السُّياح الأجانب وحدهم فرادى هائمون متوجّسون متردّدون وخائفون، يمسكون بشدة على هواتفهم وكاميراتهم الغالية الثمن، كمن يمسك بيده على زناد مدفع رشاش أو راجمة صواريخ في ساحة حرب...!
هل كنا مخدوعين طيلة هذه الفترة ببريق بعض الصفحات البرّاقة من زمنها الجميل، صدّقناه عن حسن نية إلى آخر سطر فيه، ولم نستفق بعد منه ومن نشوتنا القديمة إلا ونحن على ما هي عليه، مثل كل من سكروا بتاريخهم القديم بدءا من العرب ووصولا إلى الإغريق؟، ونسينا طيل هذه المدة أن نجدّد تاريخنا كما فعل الكثيرون. كنت أمشي هائما بين الأزقة والحارات القديمة، أضرحة وزوايا دين ومدارس علم، وكأني بالتاريخ بدأ من هنا قبل أن يتوقف فجأة، وأنا مُحتار بين أن أرفع رأسي انتشاء بهذا الماضي أم أنكسه أمام بؤس الحاضر:
- ثرثرة الغشّاشين في دكاكينهم
- تجار ومرشدون احترفوا الاحتيال
- التسوّل لم يستثن نساء ولا رجالا، أصبح مهنة مربحة يزاولها حتى الأطفال والبنات الصغار، احترفوه مبكرًا دون الولوج إلى مدرسة أو الحصول على دبلوم متخصّص.
- أيّ خطوة غير محسوبة في زقاق لا حركة فيه، قد تعرّضك لأذى اللصوص وبعض الشباب المتهوّر، وقد يعترضون طريقك ويسلبون منك ما ملكت جيوبك من نقود أو هاتف.
الحقيقة أننا أصبحنا غرباء عن فاس، بالقدر الذي أصبحت فيه هي غريبة عنّا، نسي زمنها أن يجدّد زمنه، وبقي أمينا ووفيًّا للماضي، يراقب عن بُعد تجدُّد التاريخ في مدن مراكش والرباط وطنجة والدار البيضاء. كل شيء أصبح غريبا في فاس، عمائم بيضاء تخرج وتدخل كل يوم من أقواس الجوامع كي تمارس طقوسها اليومية المملة على أرصفة المقاهي وفي دكاكين بيع أثواب النساء، شباب عاطل قابع من أول الصباح إلى آخر المساء في المقاهي قرب "باب أبي الجنود" أو الأزقة الخلفية لجامع القرويّين، يعرفون جنسيات السّياح من سيمات وُجوههم، ولم تعُـد هناك تلك الألفة والمودّة بين الزّمان والمكان في فاس، أصبح كل يغرّد حسب هواه، والتاريخ القديم يغار من التاريخ الجديد.
أحيانا تهزمني هشاشتي وأتساءل:
- هل قدر فاس أن تنزل من عليائها، كي تصبح واحدة من "المُدن السُّفلى"؟.
في فاس ما يفوق الأربعة آلاف زُقاق، لتكون بذلك أكبر متاهة في العالم، وكل زقاق ضيّق في حاراتها القديمة يفضي إلى متاهة، لكن ليس كل نهاية في تلك المتاهات مؤتمنة، أصبحت فاس تعيش مُنعزلة في كينونة ماضيها، يقولون: "أجمل الهوى ما خفي وبقي ساكنا في الفؤاد"، لكن ما نفع الماضي في غياب الحاضر؟، ثم ماذا لو أزحنا الغمامة السوداء من فوق سمائها وصفّرنا (من الصّفر) العدّاد وبدأنا من جديد..؟.
وفي الأخير يبقى السؤال الموجع مُعلقا:
- بماذا أفادها ماضيها، هي الغارقة الآن في بُؤس حاضرها...؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا