الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطوة جديدة إلى الخلف أم توجه نحو آرية جديدة؟

فتحية علاية المعاوي

2019 / 12 / 27
الصحافة والاعلام


تنسى نسبة كبيرة من البشر مع الموجة الرقمية العاتية أنها كائنات موسومة بصفة الإنسانية. بذلك تتحول البشرية إلى جدران منمقة تخلب الألباب، كواجهات المحال التجارية البراقة والمصممة لغرض جلب أكبر عدد ممكن من الزبائن.
في ظل المساحة الافتراضية للموجة الرقمية العاتية، يتجرد الإنسان من إنسانيته البديهية والعفوية ليغدو لوحة إشهارية يعرض عليها أفضل نسخة مفبركة يراها عن شخصه ويستعرضها للعيان.
تتقهقر القيمة الإنسانية لتترك محلها لسلطة الافتراضي. يتناسى الإنسان، أو ربما ينسى فعلا، أن من أولوياته أن يشتغل على نفسه وليس على جداره ((Mur, Wall في مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يطور ذاته ويغذي عقله بما هو مفيد، وينمّي قدراته الفكرية والروحية من دون أن يتجاهل الجسدية بطبيعة الحال، بدل إجراء التعديلات وكل أشكال المحسنات البديعية على صوره المنشورة. يبرع في التظاهر بأرقى الأقوال وأطيب النيات على جداره الرقمي لإدهاش الأعداد الغفيرة التي تتابعه، ولحصد أكثر ما يمكن من "اللايكات" (like).
يقيّم الأشخاص في هذه الأيام أنفسهم من خلال تثمين الآخرين لهم. لكنهم يجهلون أنه يبقى مجرد تقييم صادر عن كائنات افتراضية لمخلوقات إفتراضية في المقابل، وأنه يحدث على منصات افتراضية لا تتعدى حدود الشاشات الرقمية.
لماذا الحياة في الخارج لا تشبه الحياة على مواقع التواصل؟
يلحّ هذا التساؤل بمجرد أن نغلق الهواتف وننظر إلى الطريق أمامنا، فنرى أن الكثيرين منا بلغوا قاع النزق وأغرقوا آدميتهم وإنسانيتهم في مستنقع الحمق والغباوة، حتى باتت المادة المعرفية التي تنتَج لنا، لا تتجاوز عتبة "الآيلاينر" و"الكونتورينغ" و"الكراتين" و"الهايلايت".
يجب عدم التعميم. لكنّ كثيرين يتبنّون اليوم قيم الفايسبوك والانستغرام والسناب شات، دون سواها، ويتدثرون بحلة جديدة للتواصل تستر عورة فراغهم القيمي وجهلهم الثقافي فيبيتون ملتصقين بالشاشات الذكية مخافة أن يتخلفوا عن الركب الحضاري الزائف.
يسبغ هؤلاء على ذواتهم مقاييس على درجة عالية من الرداءة تتجلى في التباهي باللباس والتفاخر بالـ"نيو لوك" وتنزيل صور موائد الطعام والسهرات والحفلات وهدايا الأعياد، لاهثين في سباق تنزيل الصور من صالوناتهم ومطابخهم وغرف نومهم وحماماتهم، ونشرها في إطار العائلة "الفايسبوكية والانستغرامية" ليحظوا، إن واتاهم الحظ، بقليل من الاهتمام الذي يقيَّم بعدد اللايكات.
يهجر هؤلاء الواقع بأفراحه وأتراحه ويستبدلونه بوسائل للتواصل، أنا موقنة شخصياً أنها تغتال كل وسيلة للتواصل الآدمي والانسانوي.
هذا الواقع الافتراضي، هو للأسف العظيم، الملاذ الآمن الذي يحتمي وراءه كل جبان وعديم أخلاق ليطلق العنان للسانه بالشتم والقذف والتشهير بسمعة غيره وتشويه صورته والتشكيك في شرفه والطعن في أخلاقه لسبب أو حتى من دون سبب.
ألاحظ أن إرتفاع ظاهرة ادمان وسائل التواصل والأجهزة الالكترونية يتزامن مع تراجع القراءة ومع تردّي المحتوى المقروء. فالعزوف عن القراءة والاطلاع على مختلف المعارف والعلوم يُفقر الذات وينتج عقولا جوفاء وأدمغة خاوية لا ترقى بصاحبها الى مستوى تبادل الحوار والنقاش.
يزيد الطين بلةً، سباق الفضائيات اللامتناهي خلف التفاهة وبثها مضامين إعلامية لا ترقى بالمتفرج إلى أبواب المعرفة والأخلاق وإنما تنحدر به إلى خنادق التبسيط. كل ما يهمها هو السبق الصحافي، لكن في صورته غير الحرفية (البييز) buzz. تثبت هذه القنوات المتعددة الوجه والاتجاه عدم قدرتها على تقديم مادة إعلامية تحتفي بالفكر أولا وترتقي به ثانيا، وتثبت كذلك منهجيتها المدروسة والمحكمة مسبقا بغرض تجهيل المتفرج والزج به في متاهات الابتذال والبلادة.
نرى أنها تسعى بكل ما تملك من جهد ووقت ودعم مالي ولوجستي للاحتفاء بنجوم الرقص والفن الهابط وتقديمهم في حلة النجم الذي تُختزَل فيه مقومات النجاح.
لي أن أفهم كيف أن مجتمعاتنا العربية تحقق بذلك خطوة أخرى إلى الخلف مع الأسف. أو ربما هو التوجه نحو آرية من نوع جديد، على قول الكاتب خوسيه ساراماغو؛ آرية الجمال الجسدي المصطنع والذكاء الميكانيكي المفتعل، آرية "الكمال الظاهري".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - احسنتي
عابدي ( 2022 / 5 / 16 - 14:42 )
السلام عليكم
احسنتي واصلي ..

اخر الافلام

.. جعفر الميرغني : -الجيش حامي للوطن وللمواطن السوداني-


.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟




.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟


.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل




.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي