الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جار الله عُمر ما زال يضيء ليلنا المعتم!

منذر علي

2019 / 12 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


نفتقد جار الله عمر في هذه الظروف الكئيبة كما نفتقد الضوء في الليالي الحالكة. إذْ أنه كان إنسانًا رائعًا، مضيئاً، ملهمًا، أريبًا وكريمًا ونبيلا ومتواضعًا و ودودا. وكان مثقفًا فريدًا، مستوعبًا لتاريخ وطنه و تراثه السياسي و الأدبي، لا يخون الأحلام ولا يقدس الأصنام. و كان سياسيًا ماهرًا، يتميز ببصيرة نافذة، يرى ما وراء الأفق من أحداث محتملة الوقوع على مسرح الحياة السياسية، وكان يقدم المعالجات الصائبة. كان ذلك قبل أحداث يناير 1986، وقبيل التوقيع على اتفاقية الوحدة في نوفمبر 1989 ، وقبل حرب 1994 وبعدها ، وكانت القوى المتخلفة تنزلق إلى الإجابات المتطرفة والعنف بعيدًا عن السياسة ، ويمكن أنْ نعزو السبب في ذلك إلى أنَّ جار الله عُمر كان محاطًا بفريق متنافر وكسيح في أغلبه ، لم يستفد من قدراته الخلاقة ومن أطروحاته العقلانية الصائبة .

كان جار الله عمر يتميز بقدرته الفائقة على التخاطب و التفاعل مع كافة الفئات الاجتماعية في المجتمع. و كانت مهاراته لا تنحصر فقط في القدرة على إقناع محاوريه بالأمور السياسية والفكرية ، بل كانت يمتلك شخصية ملهمة، وكانت رؤاه سرعان ما تتسلل إلى الآخرين لتحتويهم برفق ودون ضجيج. وكان عُمر يتصف بروح الدعابة والحدس وسرعة البديهة، وبذلك كان قادرًا حتى على إطراب المحيطين به، وسحرهم ، والنفاذ إلى قلوبهم، وكسبهم كأصدقاء، بصرف النظر عن أجناسهم، سواء كانوا ذكورًا أم إناثا ، وبصرف النظر عن وضعهم الطبقي، سواء كانوا فقراءً أم أثرياءً ، و بصرف النظر عن أعمارهم ، سواء كانوا صغارًا أم كبارا.

كان جار الله عمر مستوعبًا عميقًا للدين الإسلامي الحنيف، ولكنه كان يرفض الحماقات و الخرافات و الأوثان ، وكان عنيداً يرفض عبادة الطغيان، ويسعى لتحرير الإنسان. ولذلك كان يبحث عن أزمات المجتمع في نوع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطبقية السائدة وفي طبيعة التركيبة السياسية القائمة، وليس في جُحر الشيطان، كما يفعل الدراويش والكهان ، وطلاب الجاه والسلطان.

وكان جار الله عمر وطنيًا فريدًا، فقد دافع عن ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين ، وكان في نضاله العسكري والسياسي والديمقراطي متجاوزًا للعصبيات القبلية والطائفية والجهوية، وخصمًا عنيدًا لقوى التخلف والتطرف. وكان جار الله عُمر قوميًا عربيًا متألقًا وأحد المنظرين السياسيين البارز للمشروع القومي؛ وكان مهمومًا بقضايا العرب وبوحدتهم القومية، دون غُلو قومي، Chauvinism. إذْ كان في ذات الوقت أُمميًا عظيمًا، متعاطفًا مع الشعوب المناضلة من أجل الكرامة الإنسانة، وكان مدافعًا عن المهمشين و الأقليات، ومدافعًا عن حقوق النساء، والطبقات الفقيرة، ومهمومًا بقضايا الإنسانية المُعذبة ، ومكافحًا جسورًا من أجل الحرية والعدالة والتقدم.

ولهذا الاعتبارات خاصمت قوى الظلام والشر جار الله عُمر، بسبب امتلاكه لتلك الخصائص الشخصية و السياسية الفريدة، وأرادت له الموت ، ولذات السبب أحبته قوى الخير والتقدم، و أرادت له حياة مديدة، لكي يقارع قوى الباطل ، و يبقى نبراسًا مُضيئاً في سماء الوطن، يُهدي الناس إلى العدل والحرية والتقدم ، ولكن هذه الطائفة الأخيرة عجزتْ عن حمايته ، كعجزها ، قبل ذلك، عن حماية منجزاته ومنجزات رفاقه العظام عبد الله باذيب وعبد القادر سعيد ، وعبد الفتاح إسماعيل علي أحمد ناصر عنتر وصالح مُصلح قاسم ، وعلي شائع هادي ، وماجد مرشد وغيرهم ، وفُجعت باستشهاده الأليم في مثل هذا اليوم ، في 28 ديسمبر 2002 من قبل قوى التخلف والتطرف.

كان جار الله إنسانًا كبيرًا، له أخلاق القديسين، وكان مناضلًا وطنيًا وديمقراطيًا جسورًا في واقع متخلف وشديد التعقيد . لقد أستوعب جار الله عُمر الواقع السياسي اليمني بعمق لا نظير له ، وتعامل معه بمهارة فائقة، وكانت له مزاياه الاستثنائية النادرة ، مقارنة بالكثير من السياسيين الوطنين المعاصرين له ، أو الذين سبقوه أو لحقوه.

غير أنَّ جار الله كان شديد التفاؤل بالمستقبل ، وشديد الثقة بالناس من حوله ، في ظل الوضع المهلهل لقوى الثورة ، عقب أحداث كبرى، قصمت ظهر الحزب الاشتراكي اليمني ، مثل أحداث 13 يناير 1986 ، وسقوط المعسكر الاشتراكي في 1990 ، وبروز القطب السياسي الأوحد على الصعيد العالمي ، وحرب 1994 بين أطراف النخبة الحاكمة المعطوبة بالجهل والعصبية القبيلة والدينية ، وانسداد الأفق الوطني والعمى السياسي ، و في ظل واقع سياسي معادِ للاشتراكية على الصعيد الوطني والعربي والعالمي.

واليوم نقول، وإنْ بأثر رجعي، ربما كان من الحكمة، في ظل تلك الأوضاع المعقدة، والانتكاسات المؤقتة في مسار التاريخ الوطني والعالمي، استدعاء الحذر والحيطة والتخطيط في التعامل مع الأعداء. كان المطلوب هو الإبقاء على التفاؤل بالمستقبل المأمول والبعيد، ولكن دون التفريط في التفاعل مع المتطرفين و الأعداء. و بالتالي كان يمكن لأحد الدراويش، وما أكثرهم، المحسوبين على الاشتراكي، و لكن الأقرب لتوجهات قوى التخلف( ما كانوا ليقتلوه!) ، أنْ يلقي كلمة الحزب الاشتراكي في ظل ذلك المناخ السياسي الموبوء بالعداوة الذي رافق مؤتمر حزب الإصلاح الإسلامي، حيث نفذ منه الأعداء ونفذوا اغتيال جار الله عُمر، صبيحة ذلك اليوم الحزين في 28 ديسمبر 2002 .

واليوم ، و نحن الذين عرفنا رفيقنا العزيز جار الله عن قرب ، ونتحدث عنه بقلوب موجعة ، فأننا لا نسعى إلى تمجيده، ومن ثم تجميده في زاوية معينة في التاريخ ، وجعله صنمًا يعبد، ولكننا نسعى لكشف مزاياه الإنسانية الإيجابية ، وصفاته السياسية الفريدة والملهمة ، وأهدافه الوطنية العظيمة ، لكي تكون مرشدًا للأجيال الجديدة من المناضلين في وطننا اليمني ، المنكوب بقوى التخلف والتطرف والتبعية للقوى الخارجية التوسعية الطامعة فيه.

لقد ترك جار الله أثرًا إيجابيًا عميقًا على مسار الأحداث في الوطن، وعلى كل الذين عرفوه عن قُرب، أو عرفوه عن بُعد، عبر كتاباته العميقة ومقابلاته الثرية ، وعبر تاريخه المشرق ، المليء بالمآثر والبطولات . وهذا يستدعي جمع تراثه الفكري وتوثيقه بشكل علمي دقيق وليس مجرد جمعه بشكل عشوائي وغير مكتمل،كما جرى في السنوات الماضية.

وكما سبق أن أشرتُ ، كان جار الله مقاتلًا شجاعًا، بالفكر والسلاح، دفاعًا عن ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين، ومن أجل الجمهورية، بمضمونها الديمقراطي التقدمي، ومن أجل بناء اليمن الديمقراطي الموحد. و كان جار الله عمر مناهضًا عنيدًا لقوى التخلف والتطرف، وكان مفكرًا ديمقراطيًا تنويريًا كبيرًا، وقائدًا سياسيًا لا مثيل له، حيث كان استشهاده في أواخر عام 2002، إيذانًا بحلول الظلام على وطننا العظيم.

وها نحن اليوم، بدون جار الله عُمر، نبدو كأننا ثلاث فرق، تسير في شعاب متفرقة ومتنافرة. فرقة تسير بثبات في نفس الخط الثوري، وإنْ بوتيرة بطيئة، وفرقة تسير تائهة، لا تعرف طريقها وفرقة تسير بحماس، ولكن باتجاه معاكس، أي صوب الهاوية.

وفي هذا المفترق العصيب، في هذا الزمن اليمني الكئيب، يشتد الإحساس بالخسارة العميقة لشخصية ملهمة، كجار الله عمر، ولكن لا ينبغي في هذه المناسبة المُحزنة أنْ يغرق المناضلون في النحيب ، بل عليهم أن يستضيئوا بفكر هذا الرفيق الأريب، والتطلع بأمل إلى المستقبل المأمول، لإجلاء الظلام ، وتحرير الوطن من الدراويش والمجاذيب ، وصانعي الأوهام.

كثيرون هم الذين يتحدثون عن جار الله عمر، حتى من بين أولئك الذين شاركوا بشكل مباشر و غير مباشر في اغتياله. ثمة فريق من الأعداء يتظاهر، بشكل ماكر، بالانتساب السياسي إلى جار الله عمر، ولكن هذا الفريق يعمل بما يناقض الأهداف النبيلة التي سعى إلى تحقيقها الشهيد العظيم. وهناك فريق آخر من الانتهازيين والأوغاد والمتربحين السياسيين الذين يستغلون هذه المناسبة المجللة بالحزن، ويعتبرونها وسيلة مُثلى للتمسح بسمعته المشرقة وزيادة أرباحهم السياسية.

على أنَّ الوفاء لجار الله عمر ، من قبل الرفاق ، لا ينبغي أن ينحصر في التأبين الموسمي لذكرى استشهاده الأليم ، ولا ينبغي أن يكون مجرد تعبير صادق لإعلان الانتساب إليه، ، وإنما ينبغي أن تكون هذه المناسبة فرصةً لِتَمثُّل الصفات الإنسانية الاستثنائية لهذا الرفيق العظيم، و استيعاب تراثه الفكري، والتمسك بأهدافه النبيلة ، والسير الحثيث على نفس الدرب.

إنَّ الأهداف التي سعى الرفيق جار الله عمر إلى تحقيقها تجسدت في الدفاع عن سيادة الوطن و وحدته وتحقيق الحرية والعدالة والتقدم لجميع أبنائه وبناته. إنَّ التمسُّك بهذه الأهداف والعمل من أجلها من شأنه أنْ يضيء ليلنا المعتم. إنَّ جار الله عُمر ما زال يضيء ليلنا المعتم!

في الأخير عام جديد سعيد، خالٍ من الآلام، ومفعم بالمسرات و التقدم على طريق الحرية والعدالة السلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار